جدل الشعر والرحلة
صدر للناقد العراقي محمد صابر عبيد كتاب جديد عن “الفضاء الرحلي السيرذاتي.. معمارية التشكيل الشعري الملحمي في ديوان ‘دفتر العابر’ لياسين عدنان”. وإذا كانت الدراسة السابقة للناقد قد توقفت لدى ديوان “كلمات هوميروس الأخيرة” للشاعر السوري نوري الجراح، وكيف تشتغل قصيدته وفق فعالية التنوير، مع تشييد لغة شعرية مدهشة، فإنه يتوقف هذه المرة عند جمالية الترحال، أو الفضاء الرحلي الذاتي في تجربة الشاعر المغربي ياسين عدنان، من خلال ديوان “دفتر العابر”.
في كتابه “البطل الذي يحمل ألف وجه” يرى جوزيف كامبل أنه، وفي جميع الأساطير وثقافات الأزمنة اليونانية، منذ الأوديسة، وحتى الزمن المعاصر، يسير البطل على الدرب نفسه ويسعى إلى الهدف ذاته: التنوير وصيرورة وعي ذاته. ويتخطى البطل في هذه الرحلة عقبات مختلفة، تختبر طبيعة عزمه الشديد وتصميمه وترفعه إلى مستوى من الوعي العالي وإلى مستوى من الوجود الرفيع. من هنا، يتبين لنا أن أسطورة أيّ شخص إنما ترتبط بـ”الرحلة” التي يقوم بها البطل، على امتداد العمل، وهي رحلة روحية، وليست جسدية فقط. حيث يخوض البطل رحلته ويواجه أزماته وكل ما يمكن أن يعترض سبيله، ليواصل حتى النهاية، ولا يهم إن انتهت الحكاية بالحياة أو الموت. ولنا أن نستحضر مرة أخرى الصورة الشعرية الشهيرة للشاعر الإسباني أنطونيو ماتشادو، حيث لا وجود لطريق أبدا، بل إن “الخطى هي التي تصنع الطريق”، وما يهم هو اجتياز الرحلة، لا الوصول، لأن الوصول ربما لن يتحقق، وحتى لو تحقق فسوف يكون مجرد نتيجة حتمية.
وعلى المنوال نفسه، سوف يخوض محمد صابر عبيد رحلة نقدية تقتفي الأثر الجمالي الشعري لياسين عدنان في “دفتر العابر”. وليس العابر هنا إلا ذلك الشاعر الذي يخوض رحلته الأبدية. وما “الدفتر” إلا استعارة مناسبة تليق بالعابر، بوصفه السجل الذي يدوّن فيه الشاعر الرحالة ملاحظاته ومشاهداته أثناء الحلّ وآناء الترحال.
رحلة الناقد
يبدأ الناقد رحلته مع ديوان ياسين عدنان بوصفه الفضاء الذي تجري فيه وقائع هذه الرحلة النقدية والجمالية، معلنا أنه إنما يبتكر منهجه ورؤيته النقدية من “جوهر النص الشعري وحساسيته وطبيعته ومزاجه وفضائه، على النحو الذي يسمح لنا بتسخير خبرتنا وذائقتنا ورؤيتنا العابرة للنظرية والمنهج والسياق والأداة والممارسة، وترك أدوات الفحص شديدة الانتباه بمزاج نقدي حر وديمقراطي وحداثي، يعمل بأفق مفتوح لا يدين بالولاء والانتماء إلا إلى النص ولا شيء غير النص”. ولعل هذا ما أسماه ناقدنا الممارسةَ النقدية الحرة، تلك التي تتحرر من أيّ مرجعية نقدية خاصة بمقاربة قصيدة النثر العربية. فكما تتحرر قصيدة النثر من قواعد الماضي ومقتضيات المرجع، يتخلص الناقد من سلطة المنهج، وليس ينقاد ههنا إلا إلى النص يتماهى معه، ويتحدث بلغته، كما يتضح من مقدمة الكتاب، حيث يتحدث الناقد عن “الرؤية العابرة”، و”الفضاء الرؤيوي”، و”العبور من التجربة إلى الكتابة”…، وهو يتحدث عن ديوان “دفتر العابر”. بل إنه سيبتكر مصطلحا نقديا خاصا بقراءة هذا الديوان دون غيره، وهو مصطلح القصيدة الرحلية السيرذاتية، “والذي نعده مصطلحا جديدا في هذا الباب، ابتكرناه هنا كي يستجيب لمحطات قراءتنا النقدية صوب هذا الكتاب”.
هكذا، تلتقي في عنوان الكتاب سلسلة من أجناس الكتابة والقول الأدبي، من الرحلة إلى السيرة، ومن الشعر إلى الملحمة. ولئن كان الناقد قد تحدث عن التشكيل الشعري الملحمي في هذا الديوان، فهو يعدنا أيضا بتحقق النبوءة النقدية لتزفيتان تدوروف حين أكد في دراسته حول الأدب العجائبي أنه لن يكون هنالك في المستقبل إلا كتاب واحد، قد يلاقي بين كل الأجناس الأدبية، وقد يستغني بها عنها… ولهذا، اختار صاحب الكتاب أن يؤسس لبحثه النقدي بمدخل عن أسئلة قصيدة النثر، انطلاقا من سؤال الأجناس الأدبية، بما هو سؤال إشكالي وسجالي. وهي القصيدة التي ظلت وتظل تستعير من الرواية والسينما والتشكيل والدراما، لكنها تبقى قصيدة في البدء والمنتهى… كما أن ما يميز قصيدة النثر اختلافها من شاعر إلى آخر، ومن ديوان إلى ديوان، ومن قصيدة إلى قصيدة، في تجربة الشاعر الواحد أو تجاربه. وهذا ما يفسر لنا نزوع الناقد محمد صابر عبيد إلى إصدار كتب نقدية تنصرف إلى دراسة الديوان الواحد. بل إن ديوان “دفتر العابر” يمكن عده نصا واحدا منسرحا ومسترسلا، والأمر نفسه بالنسبة إلى ديوان نوري الجراح، موضوع الكتاب النقدي السابق لهذا الناقد العراقي.
ولئن كان الأصل في قصائد النثر هو أن تتعدد، وفي الطريق إليها أن يتجدد، فإن الأصل فيها أن تحقق الدهشة أيضا، “وبما أنها قصيدة التنوع والإدهاش فمن مصلحتها تماما ألاّ تنضوي تحت أيّ توصيف يسجنها ويحجّم تموّجها، وأن لا تلتزم بأيّ مقولة تحبس أنفاسها الحرة وتشعّها في نمط وقالب.”
فضاء مشترك
بهذا، تغدو قصيدة النثر فضاء مشتركا يجمع الشاعر والناقد معا، وهما يستضيفان فيه ثالثهما الذي هو القارئ. ثم إنه فضاء رؤيوي بتوصيف الناقد، وتلك تسمية أخرى. لهذا، يتجسد فضاء قصيدة النثر بما هو فضاء مغاير في الشعرية العربية…
لكن، بالرغم من نزوع الناقد نحو قراءة كل تجربة وكل ديوان في شرطه النصي، إلا أن ثمة مشروعا نقديا رحبا يصدر عنه محمد صابر عبيد، وهو الاشتغال على الفضاء، منذ “الفضاء التشكيلي لقصيدة النثر”، كما تدارسه في كتابه الصادر سنة 2010، انتهاء إلى هذا الكتاب عن الفضاء المرجعي، والمقصود به الفضاءُ الرحلي السيرذاتي الذي تنكتب فيه وعنه وداخله قصيدة النثر. لأجل ذلك، فنحن أمام مشروع نقدي في صيغة متجددة ومتحررة، أو لنقل إننا أمام “نقد نثري”، إذا أردنا أن نستعير تسمية لوجهة النظر من موضوعها الذي هو قصيدة النثر. ويعود الناقد إلى مقولاته حول الفضاء التشكيلي، وهو يحلل “فضاءات الديوان”، من فضاء الإهداء وفضاء التصدير، إلى فضاء التفاصيل إلى فضاء المحكي الشعري، مستعيرا هذا الفضاء من الدراسة المرجعية لجون إيف تادييه، الذي اقترح الحديث عن جنس أدبي ملتبس يتردد ما بين الرواية والقصيدة، وما بين الشعري والسردي. وجب، في هذا السياق أن ننتبه إلى أن ديوان “دفتر العابر” لياسين عدنان إنما صدر قبل روايته “هوت ماروك”. أذكر أنني قدمت هذا الشاعر في المهرجان الوطني للشعر المغربي الحديث بشفشاون، قبل صدور الديوان، فوصفته بأنه رواية. وكان الشاعر يومها قد شرع، بالفعل، في كتابة روايته الأولى.
أما صابر عبيد، فقد اصطفى دراسة فضاء التفاصيل، هنالك حيث يكمن شيطان الشعر دائما. والحال أن ياسين عدنان لا يكتب قصيدته بصور شعرية مجردة ومشاهد كبرى بلغة السينمائيين، بل ينصرف إلى التفاصيل مباشرة، حيث “يفتح العابر في أول الرحلة دفتره كي يسجل سيرته الرحلية في أرض التفاصيل التي تجتهد في إنشاء الصور المعبرة عن جوهر الفكرة”، يقول الناقد. ذلك أن التفاصيل هي ما يصنع الفكرة والصورة الكلية، وهي التي تُقَصِّدُ القصيدة وتبنيها وتشكل عوالمها. يقول الشاعر “ثم رحلنا إلى جنة النار/كنت أحمل/سماء بأجراس مقرحة على كتفي/وأنوء بغيوم من الملح والنعاس”، فيعلق الناقد بكون العابر إنما “يتجسد هنا بوصفه مشاء خرافيا يُذكّر بالرحالين الكبار الباحثين في بطون الحكايات عن جدوى الأشياء ومصير النهايات، فيصور العابرُ نفسه وهو يحمل السماء ‘سماءَه’ في تفاصيلها”.
وهذه “القصيدة الرحلية” لا يكتبها إلا شاعر رحالة مثل ياسين عدنان، وهي ليست رحلة خيالية، كما فعل أحد أسلافه المراكشيين، وهو “ابن المؤقت”، صاحب الرحلة الخيالية الشهيرة. بل هي رحلة تحكي مشاهدات وتروي مصادفات ووقائع جرت في قارات وبلدان وعواصم وهوامش في أدنى الأرض… من المدينة الصغيرة ورزازات التي استقر بها في عهده الأول، إلى أقصى أرجاء المعمور، كما زارها عدنان في رحلته شرقا وغربا.
أما في فضاء المحكي الشعري، فلقد آثر الناقد أن يستوقفنا عند جدل السرد والحوار، قبل أن نواصل الرحلة معه، ومع شاعره، على أنه جدل شعري ينحاز للمتن الشعري وفضائه اللغوي والصُّوَرِي والإيقاعي، كما يقول الناقد. والشاهد عنده رحلة الشاعر إلى بروكسيل، وحركية هذه الرحلة بما تنتجه من “مواقف ومخاطبات” وتفاصيل سردية وحوارية “في الطريق إلى بروكسيل، كانت شهية جارتي في الرحلة مفتوحة للثرثرة: ما اسمكَ؟ سألت. ياسين، أجبتُ… وأنت. ما اسمك يا جسدا من قشدة طرية يا روح ملاك الطائر؟ بيغي، غمغمت. اسم إنجليزي مشتق من مارغاريتا… وماذا تفعل في بروكسيل؟ سأزور أخي هناك. أعرف، تعرفينه؟ إنه فعلا يشبهني، فنحن توأمان.. لا.. لم أقصد.. عنيت أن مغاربة كثيرين يقيمون في العاصمة…”. وإذ نعلم أن في ما يرويه ياسين شيئا من الحقيقة كما تحدث في مرجعها/الواقع، أيقنا أننا أمام ميثاق رحلي وسيرذاتي. لكنها رحلة شعرية في النهاية، لم تحدث في الواقع كما هي، وإنما هي صورة شعرية كلية لرحلات شتى قادت الشاعر إلى بروكسيل، وإلى زيارة أخيه. ثم تعليقا على هذا المقطع السيرذاتي، وهذا المشهد الرحلي الشعري، يرى الناقد كيف “يمتد هذا النص السردي الحواري على فضاء غزير من المحكي الشعري، يرصد جزءا مهما من رحلة العابر”. وكما يتجلى الواقع ويحضر المرجع في “دفتر العابر”، يتدخل الشعر ليسمو بالرحلة من الوثائقي إلى التخييلي، ما دام الرحالة لا يغادر موطنه إلا من أجل الابتعاد عن المرجع والتنائي عن الواقع. شأنه في ذلك شأن الشاعر، بما هو أفاق يخترق الآفاق. أما الحوار، فبقدر ما يمنح قصيدة النثر ملمحها السردي، بقدر ما يوهمنا بالواقع، ليشدد على عمقها الشعري في نهاية المطاف. وإمعانا في جدل الشعري والسردي، هذه المرة، أمكن القول إن الشاعر في المشهد الحواري يتقمص دور الراوي، وهو حين يتوسل بالحوار لا ينسخ واقعا سبق النص، ولكنه ينشئ عملا شعريا نثريا له اشتغاله التخييلي الخاص، كما يوضح لنا معجم السرديات في هذا الباب. ويمكن هنا أن نضيف نوعا رابعا من أنواع الحوار، وهو الحوار الشعري، إلى جانب الأنواع الثلاثة التي حددها سيلفير دورير، حين تحدث عن الحوار التعليمي، حين يكون المخاطَب غير عالم بالجواب، ثم الحوار الجدلي، لما تكون العلاقة متكافئة بين المتحاورين، بما يفضي إلى اقتناع طرف منهما. ثم الحوار السجالي، حين يكون هدف كل متحاور دحض حجج الآخر. أما غاية الحوار الشعري فجمالية خالصة، حيث لا يخاطب فيه المتحاوران بعضهما بقدر ما يخاطبان المتلقي…
ثم ما بعدها، يعقد الناقد فصلا للحديث عن جدل المكان والشخصية، ذلك أن الشخصيات إنما تتنوع في “دفتر العابر” بتنوع الفضاءات والأمكنة، وتختلف ثقافتها ونظراتها. وهذا ما يقودنا إلى قراءة الفصل الموالي عن “الفضاء الرحلي وتجليات الآخر”، وهو مبحث في شعرية الغيرية وغيرية القصيدة… كما يبدو عدنان واعيا باشتغاله الرحلي، شعريا، حين يحيل على ابن فضلان، صاحب أشهر الرحلات الغربية، وهو الرحالة الكبير الذي نحتفي اليوم بمرور عشرة قرون على رحيله ورحلته، مثلما نحتفي في هذه القراءة بدفتر العابر وناقده.
نعم، إن الرحلة فعل شعري، والرحالة شاعر ما دام لا يرتبط بالواقع، ويغادره باستمرار. الشاعر هو “العابر” والمترحل، منذ الأساطير الإغريقية إلى ذلك الشاعر العربي الرحالة الذي أقبل يحكي الترحل وأقفر يبكي التبدل والخراب، وهو يواجه الأطلال والأقدار…
في كتاب للمفكر الفرنسي إيمانويل ليفيناس عن صديقه موريس بلانشو، صاحب “الفضاء الأدبي”، يتوقف ليفيناس عند تأملات بلانشو في شعر هولدرلين، وعن الإقامة في الشعر واللغة، حسب هايدغر، القارئ الأكبر لهولدرلين دائما. بينما يرى ليفيناس أن إقامة الشاعر – والرحالة أيضا – إنما هي إقامة في اللامكان، حيث ما ينفك يرحل، وما ينفك يكتب، وهو ينثر قصيدته فوق الأرض.