جسر آخر لعبور نهر الشعر
"تكشف الشهادة عن فهم أنسي الحاج للشعر وطبيعته عمله على نصه فضلا عن أنها تكشف عن بعض مصادره ومراجعه بكثير من الجرأة والحرية في التصريح نادرا ما نجد لهما مثيلا في اعترافات الشعراء”. (نوري الجراح).
جاء العدد التاسع والأربعون من مجلة “الجديد”، الموسوم بأدب الاعتراف، مليئا بقضايا الأنا، مركزا على التبئير عليها باعتبارها مكمن أسرار ونقطة وجود للغياب، في ثقافة عربية راهنة تحاول أن تحوّل كل ذاتي وخاص وحميمي إلى مشترك عام يوجّهه العرف ويحدّده المعيار الثقافي والاجتماعي. وهنا، كان الاعتراف تطهيرا، إعادة تشكيل لواقع ما، وردّ اعتبار للذات وقد حجبتها الجماعة، هذه الذات التي ما أن باحت بمكنون أو اعترفت بمجهول إلا وفتحت نوافذ الجديد ودعت إلى إعادة القراءة بما يحرّك السواكن ويزعزع الثوابت.
تجيء اعترافات أنسي الحاج المضمنة في العدد التاسع والأربعين من المجلة، في هذا السياق، هي كشف جريء عن قضايا الشعر والشاعر وعن مفهوم أنسي الحاج للوزن والإيقاع وعن مؤثراته وبداياته الأولى في الشعر، اعترافات جريئة تلحّ على المتلقي أن يعيد النظر في عالم أنسي الحاج الشعري بطريقة مغايرة تبتعد عن التسرّع والأحكام المسبقة التي كثيرا ما طالت أنسي الحاج ذاتا وقصيدة وإنسانا.
ولأن اعترافات الشاعر طالت جوانب عدة من حياته الإبداعية وهي حَريّة، كلها، بالبحث، سنقف، فقط، على الجوانب الإجرائية في اعترافات أنسي الحاج لما لها من دور في التأثير على النظرية الشعرية لقصيدة النثر في بداياتها الأولى ومع روّادها المؤسّسين.
أنسي الحاج والموسيقى الأخرى للشعر
“في نفسي إيقاعات عديدة تتناوب بين الشّكل الغامض والشّكل الأكثر وضوحا. وهذه الإيقاعات لم أكن أجد لها موقعا يتناسب، حقيقة، مع نفسيتي وتفكيري في الإيقاعات العربية التقليدية”.
( أنسي الحاج – الاعترافات).
بدأ أنسي الحاج وثيقته الاعترافية بقضيّة أساسية في تاريخ الشعر، مثلت نواة الشعر عند العرب وشرطه الأساسي الذي كان خروج شعراء قصيدة النثر عنه السبب الرئيسي في إعلان الحرب النقدية عليهم وفي إخراجهم من دائرة الشعر والشعراء، وهي قضية الوزن والإيقاع. فقد عاد أنسي الحاج في اعترافاته إلى هذه القضية ليس بالكيفيّة نفسها التي قرأ بها الوزن والإيقاع في مقدمته النظرية لديوان “لن”، وفي محاولته للتأسيس لنظرية شعرية لقصيدة النثر في بداياتها الأولى، بل عاد إليها بعد أن ترسّخت القصيدة الخالية من العروض الخليلي في الساحة الثقافية بفعل التراكم والممارسة، وخمدت الكثير من الأصوات النقدية الحادة، التي سخّرت عمرها النقدي للهجوم على هذا الجنس الأدبي، عوض دراسته والوقوف على خصائصه المميزة كنوع شعري مغاير يثري الإبداع الأدبي العربي ولا يلغي جنسا غيره.
عاد أنسي الحاج إلى هذه القضية بكثير من الجرأة، عبر المواقف النقدية التي أوضحت العديد من المسائل الإجرائية لقصيدة النثر، ولموقفه منها وعلاقته بها ومفهومه للوزن والإيقاع، على نحو قد يوارب الكثيرين ويفاجئ حتى المنتصرين لهذا الجنس الأدبي.
يرى أنسي الحاج أنّ قصيدة النثر عموما والقصيدة التي يكتبها، هو، على وجه التحديد لا تخلو من الإيقاع، بل لا تخلو من الوزن يقول “أنا أحب الإيقاع ولم أكتب قصيدة نثر واحدة إلا وفيها إيقاع، بل وأكثر من ذلك يمكنني القول إن قصائدي تتوافر على الوزن”.
يحيل هذا الموقف على أن لقصائد النثر إيقاعا ووزنا، ليس وزن الخليل ولكنه “وزن شخصي” يتحوّل من قصيدة إلى أخرى، ويستجيب، دائما، إلى الحالة الشعورية للشاعر. وهي أوزان تستمد طاقاتها من العبارات والحروف، وتؤدي إلى إيقاع موسيقي جديد ومتحوّل، يسمّيه أنسي الحاج بإيقاع الدورة الدموية. لذلك يعدل الشاعر عن الموقف السائد بأن لقصائد النثر إيقاعا داخليا فحسب. إن هذا النوع من الإيقاع أقل من أن يكون موسيقى قصيدة النثر، ثم هو إيقاع يمكن أن نجده في الكلام العادي، المنثور.
إن لقصيدة النثر أوزانا، ليست أوزان الخليل لكنّها أوزان، غامضة، وشخصية إلى حدّ بعيد، لا يمكن أن تقنّن أو أن تصبح صالحة للقياس، لكنّها تسم قصائد النثر بموسيقى أخرى، موسيقى جديدة للشّعر، وهو موقف هام جدا في نظرنا، لأنه يتنزّل في صلب الفكرة القائمة على حركية الإيقاع التي تصاحب حركية الحياة والزّمن. فالتخلي عن الأوزان التي قننها الخليل بن أحمد لا يعني التخلي عن الإيقاع، أو حتى عن الوزن. فالعلاقة بين الشعر والإيقاع علاقة جوهريّه، ولا يمكن لأحدهما أن يوجد دون الآخر، لكنها علاقة متغيّرة حسب تغيّر العصر، ومتحرّكة حسب حركة الحياة؛ تتغيّر بتغيّرها، وتتحوّل بتحوّل حاجات الذات الشاعرة التي لم تعد محتجبة أو نائية، بل أصبحت في صميم النّص، في صميم بنائه وتشكيلاته الإيقاعية والموسيقية. ولذلك فإن الموقف الذي يقرن الوزن الشعري بأوزان الخليل وينفي كل موسيقى غيرها هو موقف يلغي فعل الزمن في العملية الإبداعية، وينفي عن الإيقاع صفة الحركية، وهو الأمر الذي نبّه إليه أنسي الحاج في اعترافاته.
أنسي الحاج والبدايات: الصوت والصدى
“باختصار ومن دون الخوض كثيرا في التفاصيل إن جذوري الشعرية والأدبية هي جذور عربية ليست لها علاقة إطلاقا بالقصيدة الأجنبية. جذوري عربية شكلا ومضمونا".
( أنسي الحاج – الاعترافات).
عاد أنسي الحاج في اعترافاته إلى بداياته الأولى في الكتابة، إلى مراجعه ومصادره ومؤثراته التي شكّلت عالمه الشعري، وهي اعترافات صادمة لمن بنى فهمه لشعر الحاج على أساس أحكام مسبقة تنزّل الشاعر في فضاء معرفي مغترب كمثقف له خلفية أجنبيّة جاء بمشروع معاد للموروث الشعري العربي.
جاءت اعترافات أنسي الحاج لتصحّح المسار في مستوى المحفّزات الشعرية الأولى للكاتب، إذ يعتبر الشّاعر أن تأثره بالقصيدة الغربية والفرنسية تحديدا وانطلاقه منها لكتابة قصيدة النثر مجانب للصّواب. فبداياته مع قصيدة النّثر سابقة لتأسيس مجلة شعر 1957، وهو، حينها، لم يقرأ قصيدة أجنبية واحدة وإنّما تأثّر أوّل الأمر بكتاب عرب نوعيين جدّا ومن طينة فنيّة مغايرة لشعراء تلك الفترة ومن بينهم الكاتب اللبناني فؤاد سليمان، الذي رأى أنسي الحاج في كتاباته طاقة شعرية لافتة، ونبضا متوهّجا سريعا يقدّم للقارئ حالة إبداعية خاطفة تنأى به عن الملل الذي كان يسود جل الكتابات آنذاك. يقول أنسي الحاج “فؤاد سليمان أثر فيّ كثيرا آنذاك. كان يوقع كتاباته باسم ‘تموز′ وكان يكتب في شؤون متعددة: في السياسة والمرأة والحب والمودة وبأسلوب غنائي متوتر فيه واقعيّة وفيه رومنطيقيّة، فيه لغة حيّة جديدة“.
إضافة إلى فؤاد سليمان فقد تأثر أنسي الحاج بالشّاعر إلياس خليل زخريا، والذي تميّز بكتاباته النثرية المترعة بالشّعر. يقول عنه الحاج “تقرأ إلياس خليل زخريا فتخال نفسك في كاتدرائية فخمة وشديدة الجمال”.
لقد وجد أنسي الحاج في بعض الشعراء والكتاب العرب طاقة أدبية مغايرة استطاعت أن تهزّه وتحرّك فيه الرغبة في السير في مسلك جديد ومختلف لا يستطيع إذا توغّل فيه أن يعود إلى الوراء أبدا.
وهو الأمر الذي يثبت أن أصول الحداثة عند أنسي الحاج عربية، فهي في النهاية حداثة عربيّة لا علاقة لها بالغرب، إلا من حيث الإثراء والتطوير والمواكبة لآخر استطاع أن يتجاوزنا في مجالات شتى من الحياة، لعقود طويلة من الزّمن، لكننا ظللنا نسير معه جنبا إلى جنب، نوعا ما، في الحياة الشعرية. وهذه محنة القصيدة العربية الحديثة وميزتها في آن واحد.