جنون
يجب أن نكون أوفياء لأنفسنا، مادامت لنا حاجات نبتغيها، وأمان نسعى إلى تحقيقها، أستغرب من أولئك الذين يسلكون طريق الطامحين إلى المجد، مع أننا حين نحيا، لا شيء يمكن أن يحدث في الوجود كما يقول سارتر، كل ما في الأمر هو أننا مثل جميع الكائنات، مجرد أشياء، ومصيرنا المحقق هو الموت.
إن المجهول الذي نشعر بملاحقته هو الروح ذاتها التي تسيطر على شعورنا، وتحلق في أحلامنا كما لو أنها شخص نعرفه جيدا، ولا نستطيع أن ندرك كنهه، الكينونة ليست كل ما هو موجود كما هو مشاع، الكينونة نمط من التفكير، هاجس، فراغ يتشكل في الذهن، صورة مشوهة للواقع مثل لوحة وحشية لهنري روسو.
كيف يمكن تجاوز الأفكار المألوفة والتفكير المعتاد، كيف نجعل من اليومي والمتوقع أشياء غير ذات أهمية مثل الخردة والمواد التالفة، يجب أن نعيد النظر في المفاهيم القديمة، في المقاييس الثابتة، في كلّ مصدر نرجع إليه في الإثباتات المحسوسة والمسموعة والمسكوت عنها، إن الإلهام بالنسبة إلينا شيء ضروري مثل الخربشة الأولى في نص أدبي أو لوحة رائعة، وكذلك الخيال، فإنه من الأشياء الممتعة في حياتنا، وهو أساس الفن والأدب والعلم، بل هو أهم من كل ذلك، فهو رؤية مسبقة لمستقبل الحياة بحسب تعبير أينشتاين، فالأفكار الخيالية الموجودة في أحاديث العجائز والأطفال وكلام الحمقى، هي أفكار غير عادية، ساحرة، خلاقة، مثل نقش جميل مجهول الهوية، أليس غريبا أن يكون الخيال أكثر تعبيرا من الواقع؟
إن هذيان المجنون أو المريض النفسي بحسب تعبير علم النفس، ليس كله هراء مثلما يُوحى لنا، أو كما يصوره لنا العقل، إن كلام الحمقى كشف لما وراء الأفعال النبيلة والقبيحة معا، ماذا نفهم من شخص مجنون يتحدث مع حائط قديم؛ يقول: اخرجوا أيتها الشياطين، أنا أراكم جيداً.. اخرجوا لهذا العالم! الشيء الغريب في هذا الكلام هو أننا نؤمن بأن هناك عالمين منفصلين، عالم مادي، وعالم روحي، لكن الصفة التي نطلقها على هذا الشخص -وهي تريحنا كثيرا- هو أنه «مجنون»، حتى القصص والروايات الخيالية وأفلام السينما لا تشذ عن هذه القاعدة، مع أننا ما أن نقف في مكان ما، ونحدّث أنفسنا، نشعر بأن هناك من يسمع لحديثنا، وهذا بالطبع لا يحتاج إلى دليل أو تجربة، فالإنسان الذي يتخلى عن المحسوس، ستصاب روحه بالجنون.
لقد صنف ديكارت الجنون إلى جانب الحلم، وهو على علم بأن الحواس رغم أنها مضللة، لا يمكن أن تنكر «أن الأشياء تتمتع بقليل من الحساسية وبعيدة المنال أيضا»، كما أن الاعتقاد بالشيء، أيّا كان، لا يتطلب في الحقيقة سوى الإقرار بالفكرة حتى لو كانت تافهة، وهذا مبدأ ملزم لكل من يرى بأن الإحساس بالشيء سواء أكان مجهولاً أم معلوماً مثل الإيمان بجمال الحياة بما فيها من ثقل وتناقض، أما العلاقة الجدلية بين الأشياء هي أفضل دليل على صدق الحواس، فلولا الألم لما عرفنا الضحك، ولولا الجنون لما فهمنا ماذا يعنى العقل.
إن عقل الإنسان في علاقته بالحكمة ليس سوى جنون كما يقول فوكو، ومن صميم سلوكنا اليومي يتضح هذا، فحينما يُحتكم إلى العقل في موقف ما، نشعر بأننا حمقى لدرجة أنه سيكون المرء مجنوناً إذا لم يعترف بهذا الجنون. يجب أن نكبح جماح عقولنا كيلا تجرنا معها نحو الجنون.
نعم إن في العقل شيئا من الجنون، ولكن في الجنون شيئا من الحكمة كما يقول نيتشة، وما من شك، فإن الإفراط في البحث عن الحكمة شيء من الجنون أيضا، فالعقل في حقيقته هو صنو الجنون، وبتعبير أحد الفلاسفة «إن العقل والجنون متجاوران، فليس بين هذا وذاك سوى خطوة. وهذا ما يتضح من سلوك الحمقى».