جنون

الخميس 2017/06/01
لوحة: صفهوان داحول

يجب أن‭ ‬نكون‭ ‬أوفياء‭ ‬لأنفسنا،‭ ‬مادامت‭ ‬لنا‭ ‬حاجات‭ ‬نبتغيها،‭ ‬وأمان‭ ‬نسعى‭ ‬إلى‭ ‬تحقيقها،‭ ‬أستغرب‭ ‬من‭ ‬أولئك‭ ‬الذين‭ ‬يسلكون‭ ‬طريق‭ ‬الطامحين‭ ‬إلى‭ ‬المجد،‭ ‬مع‭ ‬أننا‭ ‬حين‭ ‬نحيا،‭ ‬لا‭ ‬شيء‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يحدث‭ ‬في‭ ‬الوجود‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬سارتر،‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬الأمر‭ ‬هو‭ ‬أننا‭ ‬مثل‭ ‬جميع‭ ‬الكائنات،‭ ‬مجرد‭ ‬أشياء،‭ ‬ومصيرنا‭ ‬المحقق‭ ‬هو‭ ‬الموت‭.‬

إن‭ ‬المجهول‭ ‬الذي‭ ‬نشعر‭ ‬بملاحقته‭ ‬هو‭ ‬الروح‭ ‬ذاتها‭ ‬التي‭ ‬تسيطر‭ ‬على‭ ‬شعورنا،‭ ‬وتحلق‭ ‬في‭ ‬أحلامنا‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬أنها‭ ‬شخص‭ ‬نعرفه‭ ‬جيدا،‭ ‬ولا‭ ‬نستطيع‭ ‬أن‭ ‬ندرك‭ ‬كنهه،‭ ‬الكينونة‭ ‬ليست‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬موجود‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬مشاع،‭ ‬الكينونة‭ ‬نمط‭ ‬من‭ ‬التفكير،‭ ‬هاجس،‭ ‬فراغ‭ ‬يتشكل‭ ‬في‭ ‬الذهن،‭ ‬صورة‭ ‬مشوهة‭ ‬للواقع‭ ‬مثل‭ ‬لوحة‭ ‬وحشية‭ ‬لهنري‭ ‬روسو‭.‬

كيف‭ ‬يمكن‭ ‬تجاوز‭ ‬الأفكار‭ ‬المألوفة‭ ‬والتفكير‭ ‬المعتاد،‭ ‬كيف‭ ‬نجعل‭ ‬من‭ ‬اليومي‭ ‬والمتوقع‭ ‬أشياء‭ ‬غير‭ ‬ذات‭ ‬أهمية‭ ‬مثل‭ ‬الخردة‭ ‬والمواد‭ ‬التالفة،‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬نعيد‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬المفاهيم‭ ‬القديمة،‭ ‬في‭ ‬المقاييس‭ ‬الثابتة،‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬مصدر‭ ‬نرجع‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬الإثباتات‭ ‬المحسوسة‭ ‬والمسموعة‭ ‬والمسكوت‭ ‬عنها،‭ ‬إن‭ ‬الإلهام‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلينا‭ ‬شيء‭ ‬ضروري‭ ‬مثل‭ ‬الخربشة‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬نص‭ ‬أدبي‭ ‬أو‭ ‬لوحة‭ ‬رائعة،‭ ‬وكذلك‭ ‬الخيال،‭ ‬فإنه‭ ‬من‭ ‬الأشياء‭ ‬الممتعة‭ ‬في‭ ‬حياتنا،‭ ‬وهو‭ ‬أساس‭ ‬الفن‭ ‬والأدب‭ ‬والعلم،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬أهم‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ذلك،‭ ‬فهو‭ ‬رؤية‭ ‬مسبقة‭ ‬لمستقبل‭ ‬الحياة‭ ‬بحسب‭ ‬تعبير‭ ‬أينشتاين،‭ ‬فالأفكار‭ ‬الخيالية‭ ‬الموجودة‭ ‬في‭ ‬أحاديث‭ ‬العجائز‭ ‬والأطفال‭ ‬وكلام‭ ‬الحمقى،‭ ‬هي‭ ‬أفكار‭ ‬غير‭ ‬عادية،‭ ‬ساحرة،‭ ‬خلاقة،‭ ‬مثل‭ ‬نقش‭ ‬جميل‭ ‬مجهول‭ ‬الهوية،‭ ‬أليس‭ ‬غريبا‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الخيال‭ ‬أكثر‭ ‬تعبيرا‭ ‬من‭ ‬الواقع؟

إن‭ ‬هذيان‭ ‬المجنون‭ ‬أو‭ ‬المريض‭ ‬النفسي‭ ‬بحسب‭ ‬تعبير‭ ‬علم‭ ‬النفس،‭ ‬ليس‭ ‬كله‭ ‬هراء‭ ‬مثلما‭ ‬يُوحى‭ ‬لنا،‭ ‬أو‭ ‬كما‭ ‬يصوره‭ ‬لنا‭ ‬العقل،‭ ‬إن‭ ‬كلام‭ ‬الحمقى‭ ‬كشف‭ ‬لما‭ ‬وراء‭ ‬الأفعال‭ ‬النبيلة‭ ‬والقبيحة‭ ‬معا،‭ ‬ماذا‭ ‬نفهم‭ ‬من‭ ‬شخص‭ ‬مجنون‭ ‬يتحدث‭ ‬مع‭ ‬حائط‭ ‬قديم؛‭ ‬يقول‭: ‬اخرجوا‭ ‬أيتها‭ ‬الشياطين،‭ ‬أنا‭ ‬أراكم‭ ‬جيداً‭.‬‭. ‬اخرجوا‭ ‬لهذا‭ ‬العالم‭! ‬الشيء‭ ‬الغريب‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الكلام‭ ‬هو‭ ‬أننا‭ ‬نؤمن‭ ‬بأن‭ ‬هناك‭ ‬عالمين‭ ‬منفصلين،‭ ‬عالم‭ ‬مادي،‭ ‬وعالم‭ ‬روحي،‭ ‬لكن‭ ‬الصفة‭ ‬التي‭ ‬نطلقها‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الشخص‭ ‬‭-‬وهي‭ ‬تريحنا‭ ‬كثيرا‭-‬‭ ‬هو‭ ‬أنه‭ ‬‮«‬مجنون‮»‬،‭ ‬حتى‭ ‬القصص‭ ‬والروايات‭ ‬الخيالية‭ ‬وأفلام‭ ‬السينما‭ ‬لا‭ ‬تشذ‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬القاعدة،‭ ‬مع‭ ‬أننا‭ ‬ما‭ ‬أن‭ ‬نقف‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬ما،‭ ‬ونحدّث‭ ‬أنفسنا،‭ ‬نشعر‭ ‬بأن‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬يسمع‭ ‬لحديثنا،‭ ‬وهذا‭ ‬بالطبع‭ ‬لا‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬دليل‭ ‬أو‭ ‬تجربة،‭ ‬فالإنسان‭ ‬الذي‭ ‬يتخلى‭ ‬عن‭ ‬المحسوس،‭ ‬ستصاب‭ ‬روحه‭ ‬بالجنون‭.‬

لقد‭ ‬صنف‭ ‬ديكارت‭ ‬الجنون‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬الحلم،‭ ‬وهو‭ ‬على‭ ‬علم‭ ‬بأن‭ ‬الحواس‭ ‬رغم‭ ‬أنها‭ ‬مضللة،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تنكر‭ ‬‮«‬أن‭ ‬الأشياء‭ ‬تتمتع‭ ‬بقليل‭ ‬من‭ ‬الحساسية‭ ‬وبعيدة‭ ‬المنال‭ ‬أيضا‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬الاعتقاد‭ ‬بالشيء،‭ ‬أيّا‭ ‬كان،‭ ‬لا‭ ‬يتطلب‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬سوى‭ ‬الإقرار‭ ‬بالفكرة‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬تافهة،‭ ‬وهذا‭ ‬مبدأ‭ ‬ملزم‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬يرى‭ ‬بأن‭ ‬الإحساس‭ ‬بالشيء‭ ‬سواء‭ ‬أكان‭ ‬مجهولاً‭ ‬أم‭ ‬معلوماً‭ ‬مثل‭ ‬الإيمان‭ ‬بجمال‭ ‬الحياة‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬ثقل‭ ‬وتناقض،‭ ‬أما‭ ‬العلاقة‭ ‬الجدلية‭ ‬بين‭ ‬الأشياء‭ ‬هي‭ ‬أفضل‭ ‬دليل‭ ‬على‭ ‬صدق‭ ‬الحواس،‭ ‬فلولا‭ ‬الألم‭ ‬لما‭ ‬عرفنا‭ ‬الضحك،‭ ‬ولولا‭ ‬الجنون‭ ‬لما‭ ‬فهمنا‭ ‬ماذا‭ ‬يعنى‭ ‬العقل‭.‬

إن‭ ‬عقل‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬علاقته‭ ‬بالحكمة‭ ‬ليس‭ ‬سوى‭ ‬جنون‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬فوكو،‭ ‬ومن‭ ‬صميم‭ ‬سلوكنا‭ ‬اليومي‭ ‬يتضح‭ ‬هذا،‭ ‬فحينما‭ ‬يُحتكم‭ ‬إلى‭ ‬العقل‭ ‬في‭ ‬موقف‭ ‬ما،‭ ‬نشعر‭ ‬بأننا‭ ‬حمقى‭ ‬لدرجة‭ ‬أنه‭ ‬سيكون‭ ‬المرء‭ ‬مجنوناً‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬يعترف‭ ‬بهذا‭ ‬الجنون‭. ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬نكبح‭ ‬جماح‭ ‬عقولنا‭ ‬كيلا‭ ‬تجرنا‭ ‬معها‭ ‬نحو‭ ‬الجنون‭.‬

نعم‭ ‬إن‭ ‬في‭ ‬العقل‭ ‬شيئا‭ ‬من‭ ‬الجنون،‭ ‬ولكن‭ ‬في‭ ‬الجنون‭ ‬شيئا‭ ‬من‭ ‬الحكمة‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬نيتشة،‭ ‬وما‭ ‬من‭ ‬شك،‭ ‬فإن‭ ‬الإفراط‭ ‬في‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الحكمة‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬الجنون‭ ‬أيضا،‭ ‬فالعقل‭ ‬في‭ ‬حقيقته‭ ‬هو‭ ‬صنو‭ ‬الجنون،‭ ‬وبتعبير‭ ‬أحد‭ ‬الفلاسفة‭ ‬‮«‬إن‭ ‬العقل‭ ‬والجنون‭ ‬متجاوران،‭ ‬فليس‭ ‬بين‭ ‬هذا‭ ‬وذاك‭ ‬سوى‭ ‬خطوة‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يتضح‭ ‬من‭ ‬سلوك‭ ‬الحمقى‮»‬‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.