جولة نهارية مبهمة
كنت أجلس في مقهى “الحياة حلوة” الذي يقع على ضفة قناة “سنغل” وهي القناة الأقرب إلى مركز مدينة أمستردام “دام”. لم أكن متعبا ولا أشعر بالعطش لكن أعجبتني فكرة أن يجلس المرء في مقهى يحمل اسم “الحياة حلوة”. يمكنها، أقصد الحياة أن تكون حلوة وأنت تجلس في الجزء الخارجي من ذلك المقهى في انتظار أن تقبل عاملة المقهى. ستسألك عما تود أن تشربه. “إكسبرسو كبير” ستقول وتعود بعدها إلى النظر متأملا الأجزاء السفلية من المارة. معنى الوقت يكمن هناك. كان النهار مشمسا. حقيبة نسائية كبيرة خضراء تسد المشهد. أخضرها، لا تُرى درجته الشفافة في الطبيعة إلا نادرا. فيها الكثير المتشظي من الأصفر، القليل المنضبط من الأزرق. كان نديم كوفي في وقت سابق قد حدثني بانبهار عن تقنية دافنشي وهو يرسم وجه ويدي الموناليزا. قال “لقد وضع رسام عصر النهضة الأخضر أولا ثم وضع بعد ذلك لون البشرة. اللون الأخير وحده لا ينتج إلا شمعا. الأخضر كان أساسيا في اختراع لون اللحم الحي الذي لم يكن تمثيليا. السر الذي لم يكتشفه أحد من الرسامين إلا مؤخرا” كان هناك أخضر دافنشي إذن، وهو الأخضر الذي لم نعرفه من قبل في الوقت الذي كان الكثيرون ينظرون بصخب إلى أزرق إيف كلاين. غير أن أخضر دافنشي كان خفيا. بلاغته صنعت لونا للبشرة لم يتمكن مخترعو الأصباغ الصناعية من الوصول إلى معادلاتها الكيماوية.
اقتربت المرأة التي تحمل حقيبة خضراء من منضدتي. سنتمتران على الأكثر كانت تفصل بين يدي النائمة باستسلام على المنضدة وبين فخذها العاري. بالنسبة إليها، أقصد تلك المرأة التي صارت حقيبتها الخضراء تسد أمام عيني مشهد القوارب والبيوت والعابرين لم يكن سؤال الحياة مستلهما من اسم المقهى، الذي لم تقرر بعد أن تجلس فيه، فهي قد تجهل اسمه. كانت الحياة حلوة بالنسبة إليها بسبب الشورت القصير الذي كانت ترتديه. بسبب ذلك الشورت كان الجزء الأكبر من جسدها حرا. درس من شأنه أن يعطل عمل ماكنة التفكير بالجسد باعتباره واقعة حسية. استدارت المرأة وهي تمد يدها بانفعال داخل حقيبتها الخضراء لتخرج هاتفا نقالا كان يرن. جرسه ذكرني بسوني إركسون فيما أطلقت مؤخرتها العنان لخيالي للتفكير في التماثيل الإغريقية. كان المشهد الذي رسمه ابن دلفت (فيرمير) يظهر متقطعا من خلال تفاصيل جسدها. من بين ساقيها المفتوحتين، وحول ذراعيها وخصرها ورقبتها، من خلال خصلات شعرها. بيوت التجار الهولنديين، رجال البحار البعيدة، أبواب وشبابيك وسلالم وقوارب ومياه لا تكف عن الهذيان. زخارف الزمن القوطي، باروك وروكوكو، وستائر من دمشق وسجاد من فارس وحرير من الصين. حياة مترفة وإن كانت ضيقة بسبب ضيق المكان. كانوا يسطون على أمتار من البحر في مغامرة العيش المزدوج بين مملكتي المياه واليابسة لتكون الحياة حلوة.
كانت الحياة تمرّ بين فخذين ورديين. فيما صاحبة الحقيبة الخضراء كانت تبتعد عن منضدتي وهي لا تزال تتحدث من خلال تلفونها النقال. كانت تصغر وهي تبتعد فيما تظهر مشاهد فيرمير أكثر وضوحا. فقدتُ اهتمامي بها حين اكتشفت أن عاملة المقهى كانت تقف إلى جوار منضدتي. لم أكن قد سمعتها تسألني عمّا أرغب في شربه، غير أنني افترضت أنها فعلت ذلك فقلت لها مباشرة “إكسبرسو كبير” ابتسمت الفتاة بحياء وقالت “لقد سألتك هل أنت مرتاح في مكانك؟ هل تحتاج إلى مظلة تقيك حرارة الشمس؟”.
مرت الحياة إذن سريعا. أثناءها لم تكن حواسي تعمل. اعتذرت من الفتاة. لم أسمعك. لم أرك. لم أشم رائحتك. كنت هناك في العالم الذي اقترحته على نفسي. ما بين صاحبة الحقيبة الخضراء وفيرمير مرت جوقات سنونو. رفعت يدي مستسلما وأنا في حالة اعتذار. حين ابتعدت الفتاة كان فيرمير واضحا كله. بيوت القرن السادس عشر على حافة القناة مثلما تركتها يداه. لقد اختفت الحقيبة الخضراء. لم يكن لديّ أيّ شعور بالأسى أو الفقدان. كانت الحياة لا تزال حلوة. أنا في أمستردام. في نهار، شمسُه رائعة. المارة يتركون ظلالهم ويمشون. لا يزال الوقت مبكرا للتفكير في النوم. هناك متسع للتسكع المتفائل. يكفي أنني أجلس بهدوء ودعة في انتظار قهوتي لكي يكون العالم من حولي جميلا. فجأة وقف أمامي رجل يبدو محترما، معلما متقاعدا، رب أسرة تخرج أبناؤها من أرقى الجامعات. رجل ببدلة رمادية قديمة، غير أنها نظيفة ولم تكن رثة. لم يتأخر في وقفته الصارمة. أخرج من جيبه نايا وصار ينفخ فيه. كان ينفخ الهواء متقطعا بصعوبة. لم يخرج أي نغم. ما من هفيف ولا حتى طنين. كان الرجل في أرقى حالات اندماجه، وهو يرسل حشراته لتقرص الهواء. أعجبتني فكرته. راقبت جمله الهوائية. صنعت تلك الجمل من حولي مساحة مخرمة هي أشبه بلعبة الكلمات المتقاطعة. أصعد عموديا فيخذلني الرجل حين يمتد أفقيا وبالعكس. دانتيلا من الهواء. لم يكن الرجل ينظر إليّ ولا إلى أيّ شخص آخر من الجالسين خلفي. كان كمن يرعى خرافا خيالية، عيناه تنظران إلى السماء وفمه في الناي.”صياد عواصف” قلت لنفسي وأنا أحاول أن أصف أو أختصر المشهد الذي صرت معنيا به وحدي، من غير أن يترك أثرا على أحد سواي. أشرت إلى الرجل بيدي، رغبة في استضافته، فتوقف عن النفخ . عاد فيرمير إلى واجهات القرن السادس عشر. اقترب الرجل مني، كما لو كان يرغب في مصافحتي، غير أنه لم يصافحني. كانت يده اليمنى لا تزال ممسكة بالناي، الذي لم يكن سوى قصبة صغيرة. قلت له “اجلس من فضلك. الحياة حلوة” ابتسم بصرامة وسحب كرسيّا وجلس. أخبرني أن الموسيقى فن صعب، فهم الموسيقى هو الأصعب. وأنه لم يكن يوما ما موسيقيا، غير أنه يفهم الموسيقى وأنه قرّر أن يعلّم الناس فهم الموسيقى من خلال الإحساس بها نفسيا. أخبرني أن الكثيرين يسيئون فهم مهمته، ومع ذلك فإنه مصرّ عليها. “تخيل صورة العالم لو لم يظهر باخ” قال لي وصمت متجهما. جانبيا نظرت إليه. كان حزينا.
حين جلبت الفتاة فنجان قهوتي طلبت منها أن تجلب للرجل ما يرغب في شربه. قال لها مفخما الحروف “إكسبرسو صغير” بعدها التفت إليّ وقال “الموسيقى تحتاج إلى وضوح في الحواس″ وصمت ثانية. لم أكفّ عن النظر إليه. غير أنه كان مصرّا على أن يكون عبارة عن دراسة جانبية لرجل يجلس في مقهى. كان وحيدا، بالرغم من أنني دعوته للجلوس إلى جانبي. ما أن شرب الرجل قهوته حتى نهض وانحنى لي باحترام ملقيا عليّ تحية الوداع بعد أن شكرني. “كنتَ نبيلا” قال ومضى في طريقه. صرت أنظر إلى ظهره وأنا أفكر بنوع الحياة الحلوة التي تنتظره كل مساء. بعد جولة عبثية بين مقاهي وحانات وأزقة العاصمة يعود هذا الرجل وحيدا إلى غرفته من غير أيّ فكرة عن حياة محتملة تقع خارج الموسيقى. مثلما خرج يعود. نايه يخفق في كل مرة يحاول فيها أن يقول شيئا مختلفا. الحكاية تتكرر كل يوم لكن الرجل لا يتكرر. نحن لا نتكرر. فقد لا تكون الحياة حلوة لو أنني عدت إلى أمستردام في المستقبل وجلست في مقهى “الحياة حلوة” وربما قد تكون الحياة يومها أحلى. مَن يدري؟ حين تركت المقهى كنت متأكدا من أنني سأهتدي إليه بيسر، غير أنني بعد شارعين صرت أفكر بقلق بجغرافيا المدينة.
لوحة: خالد البوشي
من الحبر إلى الماء وبالعكس
كنت أتأمل صورا لورقيات من زاووكي (رسام صيني 1921) حين سمعت ضربات خفيفة على باب البيت. ضربات خفيفة مثل همس ناعم حتى خُيل إليّ أن هناك قطة ضائعة صارت تحك جسدها بالخشب. حين فتحت الباب رأيت رجلا صينيا. صار يحدثني بالصينية فصرت أضحك. لم يغضب الرجل بل أوضح لي بالإنكليزية أنه كان يسأل عن صديقه. “وماذا قلت؟” سألته. قال “اسم صديقي” قلت له مستغربا “كل هذه الجملة الطويلة هي اسم صديقك؟” لم يجب على سؤالي، بل اكتفى بأن انحنى بتهذيب وهو يقول “آسف. أزعجتك. يبدو أنني قد أخطأت البناية” وذهب.
حين عدت إلى زاووكي صرت أنظر إلى رسومه بطريقة مختلفة. تغيرت.
زاووكي نفسه لا يقول إلا جملا طويلة، لكن بنغم تقفز درجاته من لوحة إلى أخرى. صيني يقلد الطبيعة. يفعل بروية ما تفعل. لا يتلصص عليها ولا يستولي على جزء منها ولا يمارس عليها سطوته. إنه يتعلم منها. تلميذها وهي أمه حين الولادة. مرضعته ومربيته في السنوات الأولى لنشأته ومعلمته حين تتسع هوامش حواسه ويكبر العالم. كنت أظن في الماضي أن الرسام الصيني يكتفي بالخلاصات. كأن يدعوك إلى أن تشم العطر لتتخيل شكل الزهرة. الأميركي سي تومبلي رسم الزهرة ليوهمنا بعطرها. الصينيون يرسمون الزهرة باعتبارها الجزء المرئي الممكن من خيال الطبيعة. لكنهم لا يزعمون أن العطر صار ممكنا لأن الزهرة صارت جاهزة للنظر. لا تزال المسافة طويلة. يمكنك أن تتعلم بهدوء، أن ترى مثلما أن تشم مثلما أن تتذوق مثلما أن تنصت.
الجملة طويلة إذن. بين حروفها يتنقل الألم.
حبريات زاووكي ذكرتني بتبقيعية الشاعر الفرنسي هنري ميشو (1899-1984). من حيث المبدأ فإن ميشو قد تعلم كيف يكون صينيا. غير أنه كان ضجرا. يومها كانت الصين غارقة في المخدرات. كان ميشو يرسم ليجد مركبا. يأوي إلى شمس ضالعة بين مناديل الوداع. يتمهل لينام في الليلة التي لم تحل بعد. الغد عن النافذة. كنت ذات مرة أمشي في الغابة فأوقفني حطاب وسألني “لمَ كل هذا المطر؟” كانت فأسه نائمة قرب جذع الشجرة وعيناه تلمعان وسؤاله لم يكن مفهوما. ليكن. قلت لنفسي لا بد من وهم. لا بد من سبب للذهاب بالاستفهام إلى حافاته. قلت الطبيعة تتماهى مع ما ترثه من بداهات، غير أنها لا تستسلم بيسر للخديعة. ليكن ذلك السؤال مركبا. لمَ كل هذا المطر؟ الآن بالذات. ولكن ما معنى الآن؟ في التاريخ لا شيء يمكنه أن يكون حاضرا. ولكن هل هناك طبيعة مطلقة؟
للحبر تقنيته. نوع من الماء المنخفض بالعاطفة.
علينا أن نسبقه بالخيال. وإلا فإن الفشل سيكون في انتظارنا. بقعة الحبر لا يمكن التحكم بها. سلطتها لا تُرى. الماء نفسه يتسرب بين عروق الصفحات، تحت البشرة، في القبلة بين شفتين، في المخدة بين فكرة وأخرى. الحجر الذي ولد صامتا، يمكنه أن يتغذى على الماء أيضا. يمكنه أن يتكلم. في الرسم كما في الحياة، هناك من يرث دائما. ولكن مَن يرث مَن؟ يمكنك أن ترث ماء ولن تكون صينيا. يمكنك أن ترث صينيا، حينها ستكون ماء. الحطاب الذي سألني عن المطر كان يعرف أن المطر لن يكون إرثا. زاووكي يفكر بطريقة مختلفة تماما. بالنسبة إليه فإن المطر ليس احتمالا تصويريا. ما من لقطة ليُحتفى بها وما من مشهد ليُرى. الرسوم تمطر. كان الحطاب يتساءل عن مطر بعينه. ذلك المطر الذي يُشعره بالضجر. كان يجلس مستسلما على حجر صامت من غير أن يفكر برسوم صينية يُمكنها أن تضعه في سياق جملة طويلة لا تنتهي، ينسى من خلالها ضجره. لم أخبره بأنّ الضجر يمكنه أن يكون ممتعا أحيانا. أخبرني أن المطر يعبث بالزمن. “مضى على لقائنا ساعتان، هما دقيقتان من عمر المطر” أللمطر عمر؟ صرت أسأل نفسي. في المائيات والحبريات يعيش المطر طويلا. يمد نهاره على مناضد المقاهي ليلتقي ليله باعتباره حارسا وفيا.
كان زاووكي واحدا من أسباب شغفي بالرسم. كنت أظنه شخصا قابلا للاختفاء في أيّ لحظة. مثلما الرسم باعتباره وهما. سنجد البئر بعد مترين. يقول البدوي وهو يقصد بعد نهارين طويلين مثل عصا. لقد تأخرنا. ستكون الطبيعة سواها. يترك الحطاب مكانه على الحجر. حين يختفي يكون الحجر قد ابتل وامّحت هيأة الحطاب. لم يبق إلا شبحه. يلذ لي أن أدرس شكل الورقة في الشجرة. ورقة كبيرة كما لو أنها خُلقت لكي تُدرس. أندسّ في خضرتها وأنسل إلى عروقها وهناك أصبح خفيفا، أملس وناعما. أمتزج بخضرتها المركبة، مبتهجا بجلوسي المشمس عند ينابيعها. يكون هذياني حينها بمثابة جملة طويلة، يُمكنها أن تكون ملخصا لخرافة قديمة. إن سقطت في الخريف، الورقة تلهم حياة مؤهلة للانبعاث في كل لحظة. إنها هي. حياتي التي تركتها تحت المطر. لن يسمعني زاووكي وهو يمسد بفرشاته الحبر بحنان على سطح الورقة. هناك كائنات مرحة تغادر النوم لتوّها. تخرج من الحديقة إلى العمل. يتثاءب الحجر. كم كنتَ شقيا لتصل إلى المدخنة. هذه صورتك وقد أحاطت بها الغيوم. ستبتل يا صديقي. ستعلو مثل فقاعة. تمر من بين الأغصان. ضحكتك تبرق وأسنانك آهلة ببقايا الرائحة. بين قوسين ستضع المطر. والخريف هو الآخر بنفسجي وبرتقالي كما تراه وكما يُعيدك إلى نفسك. تحب الرسم لأنه يصفك. بل قل إنه ينصفك.
سأعود دائما إلى حبريات زاووكي لأغرق في البحيرة.
كان الوقت يمر. حلزونه يسعى بين وسادتين فيما الدرب تهذب خطوات العابرين. ترك الحطاب على الحجر أثرا منه سيمحوه المطر. ولكن ذلك الأثر سيذهب مباشرة إلى الرسم. ما من شيء يذهب هدرا. أجدك في الفراشة أيتها اليرقة. أجدك في العسل أيتها النحلة. أجدك في الحجر أيها الطريق. الرسم يفتح الأبواب بين الحدائق السرية. ننزلق غامضين مثل الملائكة كما لو أننا خُلقنا ضيوفا عابرين. نصمت من أجل الكلام ونتكلم من أجل الصمت. كنا نرتجل أناقتنا الفائضة من أجل ألاّ تشعر الغزالة بالغربة. جسد على جسد ويدان نافرتان وصوت يطبق على الشفتين. “كنا نلهو” يقول المغنّي فلا تصدقه. كانت كلمات النشيد تقص الأوراق لتحرّر الشجرة من أمومتها. كان هنالك شيء ناقص، في زقورة أور، في جنائن بابل المعلقة، في هرم خوفو، في الغانج، في سور الصين العظيم، في خزانة بترا، في معبد باخوس ببعلبك. شيء ناقص يبقي الباب مواربا. هنالك ما لم يُقل بعد. لا يكتفي الرسم بالأبخرة. يمكننا أن نكون جميلين في لحظة النقص تلك، لكن ليس إلى الأبد. الحبر وهو ماء يمكنه هو الآخر أن يكون إنسيا.