حارس الروح والمعنى
مهمة الشاعر لا تتغيّر مهما تغيّر الظرف. لكنّ العالم، حين يقسو، يتخلّى عن الشعر، فيغدو الشاعر منبوذًا وهامشيًّا كأن لا حاجة لأحد به؛ والحقيقة أنّ الحاجة إلى الشعر تزداد كلّما ازداد العالم قسوة وخرابًا، لذا فإنّ اللحظة الراهنة هي الأحوج إلى شعر يعيد ترميم ما تهرّأ من روح العالم، ويذكّر الحضارة التي توحّشت بأصلها الإنسانيّ. ليس لدى الشاعر أصلا أيّ عمل. مهمّته الوحيدة هي حراسة الروح وتنظيفها من التجاعيد، فالشعر ما وجد إلاّ ليعيد الشيء إلى صباه. لكنّ الزمن المتوحّش الذي لا يهجس بالشعر لا يصغي إلى الشعر. وإذا ما عجز الشعر، بمعنًى ما، عن إنقاذنا من الانهيار، فإنّنا لن ننجو إلاّ بتدخّل إلهيّ. إذن يفترض بالشاعر أن يعكف على ابتكار ذلك الإكسير الذي يداوي به روح العالم المريض. نعم، ثمّة يد للشاعر في الخراب، سواء بالعزوف عن مقاربة الواقع، أو بالخوف من نقده، أو بمجاملة الخراب وصنّاعه؛ ولذا فإنّ مهمّته تحتاج إلى الكثير من الصدق والشجاعة والتضحية. والشعر لا يأتي، باعتقادي، إلاّ حين يتمكّن الشاعر، في لحظة ما، من الحلول في مادّة العالم؛ لأنّ العلاقة التفرّجيّة مع العالم لا يمكن أن توصل إلى الشعور به والتماهي معه واكتناه مذاقاته الصعبة. لقد كان قدر الشاعر العربيّ المعاصر أنّه وجد في هذه اللحظة الغسقيّة الّتي تنذر بغروب الذات وانطفائها إن لم تستنهض كلّ مناعتها للحيلولة دون ذلك، ولذا فإنّه لا يملك ترف الإسراف في التجريب والفوضى والهذيان والاغتراب والانفصال عن الماجريات وإدارة الظهر للمتلقّي. لقد تخلّى المتلقّي العربيّ عن ذلك الشاعر الذي تخلّى عنه، وجرّده من دوره ومكانته. مطلوب إذن منّا أن نعود ثانيةً إلى بيت العائلة، وأن نتعرّف ـمن جديدـ على الروائح والظلال والزوايا والنتوءات والتصدّعات وبناء الشخصيّة الجمعيّة وتحوّلاتها. مطلوب منّا أن نعود إلى الذات ـ على حدّ تعبير علي شريعتي رحمه الله ـ لأنّ الشاعر، حين يريد الكتابة، لا يقف في الفراغ، بل يذهب إلى تلك الذات التي تزوّده بكلّ أدواته وأحلامه وخرائطه السريّة، وتوفّر له درجة الحرارة اللازمة للخلق، والتي لا يحدث شعر إلاّ بها. لنعد إلى الحداثة العربيّة التي تأسّس جانبٌ منها على كراهية الذات والانشقاق عنها، ولنتأمّل علمًا مثل أدونيس الذي لم يعد يرى من هذه الذات سوى أنّها ذات قديمة ورجعيّة ومنحطّة. لقد تحوّلت قصيدة أدونيس بسبب ذلك إلى مشروع سرطانيّ يريد تدمير كلّ شيء. لقد اختار أدونيس أن يتشرّد خارج الذات وخارج المكان، ولذا لم يعد يشعر بآلام السوريّين إطلاقًا. لتذهب إلى الجحيم كلّ تبريرات أدونيس وفذلكاته الركيكة والهرمة التي لا تعنى إلاّ بالدفاع عن نفسه، فيما تتغافل عن هذا الجنّاز الدمويّ المرعب الذي أقامه النظام للسوريّين. لتذهب قصيدة أدونيس إلى الجحيم أيضًا. الآن بات علينا أن نعيد النظر في (حداثيّة) أدونيس التي أعتقد أنّها حداثة (الشبيه) ـ على حدّ تعبير علي شريعتي ـ لا حداثة الأصيل، وحداثة الشبيه تسعى إلى تفريغ الذات من ذاتها، واستنساخها عن الغرب المنتصر كصورة باهتة لا كأصل ثابت. كان على الشاعر أن يعي أنّه ينتمي إلى أمّة تعاني من القهر والاحتلال والتجهيل ونهب الثروات، وأنّ مهمّته ليست تسلويّة، وأنّه لن يصل إلى الشعر إلاّ حين يعود إلى بيت الذات الطينيّ الذي بالغ في هجائه والاغتراب عنه، وينحني كثيرا أمام مدخله الواطئ ويعفّر جبينه بترابه المقدّس. لقد كان ثمّة عيب وحيد في المعمار الأدونيسيّ باعتقادي: اغترابه الذي جعله يفقد معنى أن يكون المرء عربيّا وسوريّا، وجعل قصيدته تموت من البرد.
لذا، ينبغي أن يعيَ الشاعر العربيّ المعاصر أنّ الكتابة ليست مجرّد اشتغال في اللغة، بل هي – في الأساس – اشتغال في المعنى، وذلك يعني أنّه حارس للمعنى، وأنّه مسؤول أوّل عن أيّ خراب فيه، وأنّ عليه أن يواجه أيّ حالة طغيان، من أجل أن يرتفع بالكتابة إلى مستوى الشهادة، أعني: إلى مستوى الحياة.