حدث بعد مائة عام
(1)
هبطت بسيارتي الطائرة «تي أف - إيكس 70»، ذات الدفع الكهربائي، في الطريق السريع، الذي يربط مدينتي االحويجةب على نهر الزاب الأسفل، بمدينة اتكريتب، وطويت جناحيها وقدتها إلى بيتي في حي اشاووكب على مهل، بعدما انعطفت إلى طريق تحفه حقول الذرة الشامية .منذ صغري وأنا أعشق خضرة أشجارها الفاقعة، وأزهارها الأنثوية التي تبزغ في آباط أوراقها؛ لذا أهبط، بين حين وآخر، في ذلك الطريق لأستمتع برؤيتها.
أستلذّ كثيراً بطعم حبات الفشار في العرانيس المسلوقة، لكني أحزن لصوت انفجارها حينما أعرّضها للحرارة بطريقة بدائية كما كانت تفعل جداتنا قبل عقود من الزمن .يتملكني شعور غريب وكأن الحبات كائنات حية تُصلى فتستغيث! في أغلب الأحيان أضعها في قِدر تيفال وأضيف إليها الملح والزبدة أو الكراميل وأغطيه، وفي أحيان قليلة أضعها في منخل وأحركه فوق النار، وهذه الطريقة هي الأكثر إثارةً لذلك الشعور الغريب لأن الفشار يتطاير أمام عينيّ مكتوياً بالنار .لكن أمي تقرّعني دائماً على ذلك، وتقول لي اتبقى متخلفاً، لماذا لا تستخدم آلة التحميص الكهربائية؟ب.
يقال إن موطن الذرة الأصلي هو جنوب المكسيك، وهذا سبب آخر لحبي لها، فأنا من عشّاق الحضارة الأزتيكية والساحل الكاريبي .في الصيف الماضي قضيت أسبوعين رائعين برفقة صديقتي كارين في مدينة اكانكونب، عروس البحر، المرادف اسمها لعش الثعبان بالعربية .كم كانت ساحرةً بغاباتها الكثيفة وأدغالها ورمالها الذهبية ومياه شطآنها التي تتغير إلى أكثر من لون في اليوم الواحد.
كان جدّ أبي، الذي أفضّل أن أسميه جدي الأول تمييزاً له عن جدي الثاني (والد أبي)، هو من غرس هذا الحب في نفسي، رغم أنه توفي قبل مولدي بربع قرن، لكن جدّي الثاني طالما حدّثني عنه وعن هيامه بالمكسيك وأديبها كارلوس فوينتس وأنا في الثانوية ليشجعني على أن أكون كاتباً مثله، لكني فشلت فدرست الهندسة المعمارية .يقول إنه كان يجيد اللغة الإسبانية بطلاقة (تخصص فيها بالجامعة)، ومتماهياً بروايات فوينتس، ويوم علم بوفاته ذرف دموعاً عليه وكأنه يبكي غياب حبيبته، وكتب عنه مقالاً يجمع بين الرثاء ومهاجمة لجنة جائزة نوبل بسبب تجاهلها له.
انتابتني، وأنا عائد من اعمّانب، أمنية غريبة، ماذا لو أن جدّي الأول يجلس إلى جانبي ليرى كيف تبدو البنايات العالية والأبراج في االرماديب وبسامراءب وببيجيب بحجم حبات الفشار، فيسترجع أحوالها البائسة أيام شبابه عندما كانت دون قرى اليوم، يحلم أهلها المساكين بقليل من الكهرباء والماء والأمان تحت عسف حكومة فاشلة تسببت في تمزيق البلد وعودة النفوذ الأجنبي.
آه يا جدّي الأول، كنتَ فخراً لأبنائك وبناتك وإخوتك .رواياتك السبع يعتبرها النقاد اليوم من كلاسيكيات السرد رغم أنه لم يمض على صدورها قرن .ربما من حقهم ذلك، خاصةً أن أشكالاً سرديةً رقميةً عجيبةً تسود عصرنا الآن، وأصبح فيه الكتاب الورقي من مخلفات الماضي.
أرجو أن تطمئن روحك علينا، فنحن لم نتخلّ عن سعينا إلى الاستقلال وإدارة مملكتنا بأنفسنا، لكن ليس عن طريق العنف المسلّح كما كان يحدث في الماضي، بل بالمقاومة السلمية كما يسميها غاندي، لأن الامتناع عن المعاقبة لا يُعدّ غفراناً إلاّ عندما تكون القدرة على المعاقبة قائمة فعلياً، وهي موجودة عندنا، ولن نستخدمها إلاّ إذا عجز الخيار السلمي.
هل تعلم أن المتغيّرات التي حدثت منذ وفاتك اقتصرت فقط على الجوانب المادية والاجتماعية والثقافية في حياتنا؟ خذ بلدتك االحويجةب، مثلاً، التي نزفتَ دماً، أيام شبابك، دفاعاَ عن أهلها في اعتصامها الشهير قد أصبحت مدينةً عصريةً كبيرةً بعدما تحولت إلى محافظة، وزحفت باتجاه الغرب، مبتلعةً قراها من االمنصوريةب وبالسليمانب وبالأمينةب حتى الزاكةب وبتل عليب وبشاووكب وبالفاخرةب على نهر االزابب، لتغدو جزءا من أحيائها، وصارت شوارعها فسيحةً، وحدائقها تغمرها الورود، وازداد عدد النساء السافرات فيها، بل قلّما تجد واحدةً ترتدي الحجاب اليوم، وأنشئت فيها بحيرة اصطناعية يحيطها منتجع سياحي ذو طراز تراثي، ومسابح مختلطة، ومراكز رياضية وثقافية، ومسرح أشرفت على بنائه بنفسي .قبل مدة شجّعت أحد المخرجين المشتغلين فيه على تكييف روايتك االحويجة تعرج إلى السماءب إلى مسرحية، فوعدني بأنه سيعمل عليها .والحق يُقال إن المحافظ، رغم خضوعه للإرادة البريطانية، يبذل جهوداً كبيرةً لتطوير المدينة .أما النهر فقد جرى توسيعه كثيراً، وازداد تدفق المياه من المنبع إلى حوضه، وتحوّل إلى مقصد للسياح يقضون في شاليهاته ومطاعمه العائمة أجمل السهرات، وينطلقون بالتكسيات النهرية السريعة في نزهات ليلية ونهارية من مرساه في شاطئ شاووك.
في آخر الشتاء هبطنا أنا وكارين بطائرتها الجو مائية الصغيرة على سطحه الرقراق عند منحدر اأبو الصوفب (كانت تحبّ هذا الاسم لأنه يذكرها بمدينتها برادفورد التي عُرفت قبل قرن ونصف بعاصمة الصوف في العالم)، وكادت تصطدم بزورق مرق كالسهم من تحت جناح الطائرة، لحظتها شعرتُ برعب شديد، فلو حدث أن اصطدمت به لتحول قائده إلى أشلاء، ولا أدري كيف تذكرت موقفاً مشابها لبطل روايتك انهر الشتاءب الذي كاد يدهس راعي غنم في الطريق الترابي الموصل بين البلدة وإحدى القرى، لكنه تمالك نفسه وأوقف سيارته بعض الوقت ليتنفس الصعداء ويستعيد توازنه.
أما الوضع الجيوسياسي فقد بقي على ما هو عليه، فلا تزال حدود المملكة تمتد من أطراف اكركوكب الغربية شرقاً إلى محافظة االعقبةب غرباً وقضاءي االنخيبب وبجرف الصخرب جنوباً، في حين ما برحت المنطقة الشمالية من االعماديةب شرقاً إلى ادمشقب غرباً والحدود التركية شمالاً تحت النفوذ الفرنسي.
منذ عدة أشهر وأنا أؤجل قراءة مذكراتك يا جدّي، أغلب أحفادك قرأها إلاّ أنا، كنت منشغلاً عنها بسفراتي المتكررة لإنجاز مشروعي في اعمّانب دار اأوبرا فيلادلفياب .عثر أبي على الكتاب مؤخراً بعد اختفائه في بيت عمي ثلاثين عاماً .إنه مجلد تجليداً فاخراً يقيه من التلف حتى بعد قرون .أعدك بأنني سأباشر بقراءته قريباً.
(2)
في الربيع يحلو لي أن أجلس في شرفة بيتنا المطلّ على النهر، خاصةً في المساء .أضع كأسي وإناءً بّلورياً معبأً بالفستق والكاجو على الحافة العريضة للشرفة، وأستمتع برائحة السمك المشوي التي تهبّ من مطاعم الشاطئ، وانعكاس المصابيح الملونة على الماء في الجهة المقابلة من النهر، والأغاني المنبعثة من الزوارق.
قبل أيام أخرجت مذكرات جدّي من مخبئها، وشرعت في قراءة الفصل الأول منها مع أول جرعة من كأسي .ياه! مضى زمن طويل على تصفحي لكتاب ورقي .في صفحته الأولى يشير جدّي إلى أن المذكرات تغطي أعوامه الواقعة بين 2003 و 2045، أي منذ احتلال المارينز لبغداد حتى بداية انهيار أميركا وهجرة الكثير من سكانها إلى كندا، واحتلال الصين موقع الدولة العظمى الأولى في العالم، مروراً بانتهاء الحكم الديني في إيران، ونضوب البترول في المنطقة، وحرب المياه بين تركيا والعراق قبل إعلان دولة كردستان على أجزاء من أراضيهما.
قاطعتني كارين عن مواصلة القراءة .جاءت إلى البيت فجأةً لتخبرني بأنها تريد أن تسافر إلى ابرادفوردب لحضور مراسم دفن جدّتها، وأوكلت إدارة المنتجع السياحي الذي تمتلك حصةً كبيرةً فيه إلى مساعدتها هيلاري، ووعدتني بألاّ تتأخر أكثر من أسبوعين.
تعود علاقتي بكارين إلى أربع سنوات .تصغرني قليلاً، لكنها تبدو صبيةَ بسبب نعومتها واعتنائها بصحتها وممارستها للرياضة يومياً .تعتز كثيراً بانتمائها إلى بريطانيا، وقد أسهمت في بناء المنتجع، من ثروتها التي ورثتها عن أبيها، على قطعة أرض استُأجرت لمدة ثلاثين عاماً، وهي تحفظ عن ظهر قلب العديد من قصائد الشعراء الإنجليز القدامى مثل: بيليك، بايرون، ووردز وورث، وشيلي .وذات مرة مازحتني قائلةً اكان أجدادك يعتقدون أنهم أخرجوا بريطانيا العظمى من بلدهم إلى الأبد، ولم يخطر ببالهم أنها ستعود إليهم بعد قرن بثوب جديدب، فأجبتها انعم، عادت ترتدي ثوباً مصنوعاً من نسيج مدينتك، لكنه سيهترئ حتماً وتغادر عاريةً هذه المرةب .فيما بعد صارت كلمة اعاريةب تذكّرها بتلك المزحة كلما مارسنا الحب، وخاصةً لما أهمس في أذنها اكم تبدين صبيةً يا حلوتي حينما تكونين عاريةًب.
مضت عدة أيام على سفر كارين، دون أن تحادثني، اتصلت بها مرات كثيرةً فوجدت جهازها معطّلاً، لا صوت ولا صورة وكأن شحنه قد نفد .في المرتين الأولى والثانية لم ينتبني إحساس بالقلق، لكن في الثالثة تملكتني الوساوس، خاصةً أن آخر اتصال بيني وبينها انقطع وهي في الجو .يومها أخبرتني أن طائرتها على مشارف نهر اهمبرب، وحدثتني قليلاً عنه قائلةً إنه يفصل ما بين مقاطعتين تاريخيتين في إنجلترا هما ايوركشيرب وبلينكونشيرب، ويربط بين ضفتيه جسر معلق يبلغ عمره نحو قرن ونصف.
في اليوم السابع من سفرها استنجدت بهيلاري لمعرفة أخبارها .ذهبت إلى مكتبها في المنتجع فاستقبلتني بوجه يكسوه الحزن، شعرت لحظتها بانقباض في صدري، لكني لم أشأ أن أعزو ذلك إلى أمر مفجع، بل قلت في نفسي اربما تكون متعبةً بسبب العمل أو تعرّضت إلى وعكة صحيةب.
لم تتفاجأ هيلاري بزيارتي، هكذا شعرت، رغم أنني ما اعتدت أن أتردد على المكتب سابقاً لئلا أشغل كارين عن عملها، وكانت كل لقاءاتي بها تجري في أماكننا الأثيرة التي لا يتطفّل فيها أحد علينا .وأيقنت بأن هيلاري أدركت على الفور عدم علمي بأخبار كارين ولذا جئت إليها لأسألها عنها .حاولت في البداية أن تشغل نفسها عني بأمور العمل مع بعض العاملين في المنتجع، لكني حينما أطلت البقاء عندها، ولم يبق لديها ما تفتعله حول العمل، اضطرت إلى التفرغ لي، وكان أول ما خطر على بالها أن تحدثني عن المشاكل التي تواجهها في المنتجع وعدم قدرتها على حلها وحدها، فأسرعتُ إلى القول:
ذ في غياب كارين طبعاً.
أربكها ردي فأجابت:
- طبعاً، طبعاً هذا ما أردت أن أقصده.
- هل لديك أخبار عنها؟
ارتبكت أكثر وقالت:
- ألم تتصل بها أو تتصل بك؟
- جهازها لا يعمل منذ أسبوع، هل حاولتِ الاتصال بها أنتِ أيضاً؟
ذ نعم، لكن جهازها مثلما قلتَ.
ذ ألم تتصلي بأحد من أهلها أو معارفها؟
صمتت قليلاً، ثم أسبلت عينيها وأخذت تفرك أصابعها، فنهضتُ من مقعدي ووضعت يديّ على مكتبها، وقلت بصوت منكسر:
- هيلاري، أنت تخفين عني أمراً، هل أصاب كارين مكروه؟
رفعت رأسها إليً وتمتمت قائلةً:
- ماذا أقول لك؟ أرجو أن تتلقى الخبر بهدوء.
ذ سأفعل، تكلمي.
ذ طائرتها سقطت في نهر همبر وغرقت.
هويت على المقعد من هول المفاجأة، وبسطت كفيّ على رأسي، فنهضت هيلاري من مكانها وتقدمت إليّ وشرعت تواسيني، كما تواسي أمّا ثكلى، فقلت بجرس متهدّج:
- كانت في أجواء ذلك النهر حينما انقطع الاتصال بيني وبينها .لكن كيف؟ كيف سقطت الطائرة؟
ذ أخبروني بأن إشعاعاً لا أحد يعرف مصدره فجّرها فهوت إلى الماء.
- هل انتشلوا جثتها؟
ذ لم يعثروا عليها، لكن أهلها أقاموا لها قبراً رمزياً.
(3)
كان عليّ أن أسافر إلى ابرادفوردب لأضع باقة ورد على قبر كارين .رافقتني هيلاري في الرحلة إلى لندن، وتركت إدارة المنتجع للمدير التنفيذي، ابن عمي سليم صاحب الأرض، الذي يطمح إلى الحصول على حصة فيه، وينتمي إلى حزب يعمل من أجل تحرير المملكة من نفوذ بريطانيا.
في الطائرة شعرت بأن هيلاري تحاول التودّد إليّ، ولمّحت إلى أنني يجب أن أمحو الأثر الفاجع الذي خلّفه فقدان كارين في نفسي، وأجدَ من تعوضني عنها، وتملأ حياتي متعةً وسعادةً، لكني تجاهلت ذلك، وفتحت مذكرات جدّي ورحت أقرأ فصلاً يدور حول مشاركته في اعتصام االحويجةب عام 2014، أما هي فقد بدا الاستياء واضحاً على ملامحها، رغم استغرابها من وجود كتاب ورقي في يدي، وأخرجت من حقيبتها كومبيوتراً ليزرياً صغيراً ذا رأسين، وجهت إشعاع أحدهما إلى ظهر المقعد أمامها ليتحول إلى شاشة زرقاء، وسلّطت إشعاع الثاني على طاولة الطعام لتحصل على لوح ضوئي أحمر للكتابة، وشرعت تتصفح مجلةً إلكترونية مخزنةً .اختلست نظرةً إلى غلافها فإذا بها تحمل عنوان انساء القرن الثاني والعشرينب.
أرفق جدّي بداية ذلك الفصل بصور عن الاعتصام يظهر في إحداها حاملاً مع رفيقه يافطةً كُتب عليها اكفى طائفيةً يا دولة القانونب، وإلى جانبهما صبيّ يرفع بذراعيه يافطةً صغيرة كتب عليها الن نرحل يا هالكي حتى ترحلب، ويقصد بذلك نوري المالكي رئيس وزراء العراق آنذاك .وفي صفحة أخرى صورة لمانشيت في جريدة بالبنط الكبير االحويجة تشتعل بعد اقتحام ساحة الاعتصام فيها ومقتل وإصابة المئات، والعشائر تعلن الاستنفارب، وتحت المانشيت موجز للخبر يقول ابدأت قوات الجيش التابعة لعمليات دجلة المعزّزة بأسلحة ثقيلة وطائرات مروحية، في الساعة الخامسة من فجر أمس، عملية اقتحام لساحة الاعتصام في الحويجة، وقامت بإطلاق النار على المعتصمين وحرق خيمهم مما أدى إلى مقتل وإصابة العشرات منهم، في خطوة وصفت بـبغير الحكيمةب من قبل كبريات الأحزاب والشخصيات السياسية وشيوخ العشائر ورجال دينب.
استغرقت الرحلة من مطار االحويجةب إلى إنجلترا ثلاث ساعات ونصف الساعة، لم يفارقني فيها هاجس سقوط طائرة كارين .توجهنا مباشرةً من مطار اغاتوكب في مدينة اكروليب إلى منزل أهلها في منطقة اهاكنيب بلندن .في المترو حدثتني عنها قائلةً إنها منطقة راقية الآن، لكنها قبل مئة عام كانت من أكثر المناطق حرماناً في إنجلترا، وانتشاراً للجريمة، واحتواءً على المصابين بمرَضي الإيدز والشيزوفرينيا.
وصلنا إلى البيت في أقل من خمس دقائق، وكان في استقبالنا أبوها وأختها الصغرى اسونياب .ما إن دلفت إلى صالة الضيوف حتى لفتت انتباهي لوحة كبيرة في الجدار المواجه ثُبّتت عليها ثلاثة مثلثات خشبية خضراء اللون متداخلة الأضلاع، تشكّل نجمةً تساعيةً تشبه بلدة بالمانوفا الإيطالية من الجو، ولم أعرف إلى ماذا ترمز إلاّ حينما أوضحت لي هيلاري أنها شعار ديانتهم البهائية .وفي صباح اليوم التالي توجهنا إلى برادفورد بالقطار الشمسي السريع، وعزينا أهل كارين، ووضعنا باقتي ورد على قبرها.
عقب موت كارين امتنعتُ نهائياً عن استخدام سيارتي الطائرة في تنقلاتي الداخلية، بعتها لأحد أصدقائي، وصرت أستخدم القطار الكهربائي، فوجدت فيه متعةً كبيرة وهو يقلّني، في ساعتين إلى عمّان لمتابعة مشروع دار الأوبرا .وبقيت من دون صديقة، رغم أن هيلاري ظلت تسعى إلى الحلول محل كارين في حياتي، لكني لم أستجب لها احتراماً للصداقة التي كانت تربطهما، فضلاً عن أنها تكبرني ببضع سنين .وكنا في غضون ذلك نلتقي باستمرار، وسوينا أمر انتقال حصة كارين في المنتجع إلى أهلها.
(4)
لوحة: عناية البخاري
ذات يوم، بعد مرور ثلاثة عشر شهراً على رحيل كارين، وجدتني أحلم بأنني نائم في سريري، وأمي تحاول أن توقظتني:
- سلام، كفى نوماً .كارين بانتظارك في الصالة.
قفزت كالملدوغ من السرير:
- ماذا قلتِ؟ مستحيل!
- كارين عندنا وتريد أن تراك .أين كانت كل هذه المدة؟
لم تكن أمي تعلم بموتها، تعمّدت ألاّ أخبرها حتى لا تلح عليّ بالزواج من ابنة أختها.
ذ هل أنتِ متأكدة من أنها ليست امرأة أخرى تشبهها؟
- مثل تأكدي من أنك أمامي الآن؟
- عجيب؟
- هل كانت زعلانةً منك؟
- لا، ربما، لا أدري، لم أرها مذ سافرت إلى أهلها.
خرجت من غرفتي بلباس النوم مسرعاً، وكدت أسقط على وجهي وأنا أهبط الدرج إلى الصالة .كانت تجلس في مواجهتي تماماً، لا شك في أنها هي، لكنها تغيرت قليلاً، أصبحت أكثر نحافةً، وشعرها الأشقر، الذي كان ينسدل على كتفيها، صار قصيراً ومصبوغاً بصبغة بنية تميل إلى الحمراء، وتخلّت عن الشورت الذي كان لباسها المفضل، وارتدت تنورةً طويلةً .قلت مشدوهاً، وأنا أضع قدمي على الأرض، بينما لا زالت تفصلني عنها مسافة عشرة أمتار:
- كارين! حقاً؟
نهضت وأجابت بصوت تشوبه بحة:
- مفاجأة كبيرة، أليس كذلك؟
قلت:
ذ بل صدمة كبيرة.
أخذتها بين أحضاني، وقبلت فمها ووجنتيها بنهم، غير مصدق أنني ألمس امرأةً وضعتُ على قبرها باقة ورد:
ذ لا أعرف كيف أسألك .يبدو لي الأمر مثل حلم أو كابوس.
لم أستطع أن أكمل كلامي، فبادرت كارين إلى القول:
- هل تذكر حينما انقطع الاتصال بيني وبينك وأنا في الطائرة؟
- نعم، قلتِ لي أنك تطيرين لحظتها فوق نهر همبر.
- كان عدد الركاب في الطائرة لا يزيد عن خمسة وعشرين راكباً، وفجأةً شعرنا بهبوط شيء ثقيل على سطح الطائرة، فانتابنا الرعب، وتعطلت جميع أجهزة الاتصال فيها .وبعد دقائق فتحت نوافذ كبيرة في سقفها ونزلت منها مجموعة مخلوقات تفوق البشر طولاً، ترتدي أقنعةً تنبعث منها إشعاعات سرعان ما غشت أبصارنا .حملتنا المخلوقات من مقاعدنا بخفة ورفعتنا عبر النوافذ إلى داخل المركبة التي هبطت منها، وما إن اكتمل عددنا حتى تحركت من مكانها، وبعد عدة ثوانٍ سمعنا انفجاراً تحتنا .لم تصدر المخلوقات أيّ أصوات لنتبين إن كانت لها لغة تتحدث بها، لكن كانت تنبعث داخل المركبة موسيقى غريبة لم أستطع أن أميز الآلات التي تعزفها.
لا أدري كم لبثنا ونحن مرميين في المركبة، يلاصق أحدنا الآخر، قبل أن ترشّ علينا المخلوقات غازاً ذا رائحة نفاذة أعاد لنا أبصارنا على الفور، لكنه مسح في الوقت نفسه ذاكرتنا، ولم نعد نعرف بعضنا بعضاً وكأننا لم نكن في رحلة واحدة، وصار أحدنا ينظر إلى الآخر باستغراب .ثم أخذ عدد من المخلوقات يشير إلينا بأن نجلس في مقاعد فُتحت تواً بجهاز تحكم على جانبي المركبة ففعلنا .كانت حقيبتي لا تزال في كتفي فأخرجت منها هاتفي لأعرف الوقت، إلاّ أنه لم يشتغل، وحاول آخرون أن يفتحوا هواتفهم وأجهزة اتصال أخرى كانوا يحملونها في جيوبهم فلم يفلحوا.
بعد مضي وقت، خمنت أنه ساعة أو أكثر بقليل، وزع علينا أحد المخلوقات حبةً حمراء بحجم فاكهة المعجزة (Miracle Fruit) أو البلح، كان طعمها يشبه طعم العنب، وتذوب في الحلق بسهولة، فذهب عنا الجوع، ثم جلب لنا ثلاثة آخرون بطانيات مغلفة وحقائب مليئة بأدوية وأمصال ومعدات طبية، وملابس نسائية ورجالية غريبة ذات طراز قديم وأمرونا بأن نخلع ملابسنا ونرتديها .كانت حصتنا نحن النساء السبع ضمن المجموعة ثياباً طويلة تصل إلى أقدامنا، وقطعتي قماش لكل واحدة منا إحداها قطنية تشبه الكاب، والثانية من الشيفون لنغطي بهما رؤوسنا وصدورنا .تصورت لحظتها أننا مُساقات لتمثيل شخصيات نساء مسلمات في فيلم سينمائي تدور أحداثه في زمن غابر .حين انتهينا من ارتدائها شعرنا بأن المركبة بدأت تهبط في موقع ما، إلاّ أن عدم وجود نوافذ فيها حال دون تمكننا من معرفة ملامحه .ثم فُتح أحد أبوابها، وسلّم قائد المخلوقات، مغلفاً لأحد رجالنا، وأشار إلينا بالنزول .كان الليل في الخارج دامس الظلمة، إلاّ من بعض نجوم صغيرة متناثرة لا يكاد ضوؤها الشحيح ينير المكان، ورحنا نتدافع في الخروج على عجل أملاً في الانعتاق من خاطفينا .وما إن وضع آخر شخص قدميه على الأرض حتى أغلقت المركبة بابها وارتفعت إلى السماء بسرعة فائقة دون أن نلمح على هيكلها أيّ ضوء.
كان الجو يميل إلى البرودة، والمكان الذي أنزلتنا المركبة فيه معشوشباً، فطلب منا الشخص الذي استلم المغلف، ربما كان كابتن طائرتنا المنكوبة، ألاّ نبرحه حتى ينبلج الصباح ثم نقرر ماذا نفعل، فلبى الجميع طلبه، واستلقى كل واحد في بقعة اختارها ليغفو فيها، واضعاً رأسه على حقيبته الطبية .من بعيد جداً كان يلوح شريط ضوئي ضعيف محاذٍ للأرض لم نستطع أن نخمّن ماذا يمكن أن يكون.
في الفجر تناهت إلى أسماعنا أصوات إطلاقات نارية بعيدة رافقتها حزمات ضوئية في السماء، فشعر بعض منا بالقلق وطار النوم من عينيه، بينما تجاهلها بعضنا الآخر وظل غارقاً في نومه.
استفاق الجميع عند شروق الشمس، وتجمعوا حول حامل المغلف ليعرفوا ماذا يحتوي، وحين فتحه وجد فيه ورقةً مكتوبةً بحروف غريبة لم يستطع قراءتها، فخطفها من يده رجل أكبرنا سناً وألقى نظرةً عليها وقال:
ذ إنها كتابة سومرية بحروف مسمارية وأنا متخصص بها.
فصاح الجميع فرحين:
- ماذا تنتظر؟ ترجمها لنا.
شرع الرجل على الفور بترجمتها قائلاً اننتظركم في هذا المكان نفسه مساءً بعد عام بالضبط من الآن لتواصلوا رحلتكم .أنتم حالياً على مقربة من بلدة اسمها الحويجة في شمال العراق، وقد تحررت توّاً من سيطرة تنظيم إرهابي يسمى داعش .لكن كونوا حذرين لأن الحرب لم تنته بعد، ولا يزال أفراد من التنظيم متمركزين في الشمال الغربي من المدينة .مهمتكم هي إنقاذ مئات المصابين بالغازات بواسطة الأمصال التي زودناكم بها .سيدربكم على ذلك الأطباء الثلاثة الموجودون معكم في الرحلة .وتقبلوا خالص أمنيات الأنانوكي وأمنياتنا نحن أعضاء منظمة إيتانا الفضائية بأن تنجحوا في تحقيق مهمتكم.
صمتت كارين برهةً ثم قالت:
- بالطبع لم ندرك أنهم أعادونا إلى نحو مائة سنة إلى الوراء بسبب فقدان ذاكرتنا.
- أنانوكي؟ إيتانا؟
سألت مستغرباً، ثم أردفت:
- أمر محيّر، الأنانوكي هم مجلس الآلهة في أساطير بلادنا القديمة ميزوبوتاميا، وإيتانا اسم ملك ورد في أسطورة بابلية أنه عرج على ظهر نسر إلى السماء ليجلب دواءً لزوجته العاقر.
قالت كارين:
- ربما احتجزته إحدى الإلاهات وتزوجته، ولعل هذه المنظمة يديرها أحفاده، والدواء الذي أرسلوه للبشر هو تعويض عما فات زوجة جدهم.
ذ شيء عجيب .لماذا اختاروا معالجة ناس من عصر مضى عليه زمن طويل، وهم موتى الآن، وفي مكان هو منطقتنا بالذات؟
- لا أدري، ربما لأننا نعيش في هذه المنطقة وأرادوا أن يكشفوا لنا عن ماضيها.
- يا إلهي! تُرى هل كان جدي الأول مِن بين مَن عالجتموهم؟ يقول في مذكراته إنه أصيب في معركة تحرير البلدة من التنظيم الذي ذكرت اسمه؟
- نعم كان بينهم في مستشفى الحويجة العام .أنت تشبهه كثيراً .عالجته بنفسي، وأهداني رواية له بعنوان انهر الشتاءب.
- إنه هو بالضبط صاحب المذكرات التي سبق أن حدّثتك عنها، وعندي نسخة من هذه الرواية .ليتني كنت معك لأراه.
- لو كنتَ معي في الرحلة لتحققت أمنيتك.
- كيف وجدتِ المدينة، أقصد عندما كانت بلدةً صغيرةً، وهل رأيت الزاب والمكان الذي يقع فيه المنتجع الآن؟
- ذاكرتي كانت ممسوحة كما قلت لك، فلم أعلم أنني عائدة من شرفة المستقبل إلى خزانة الماضي كي أقارن بين البلدة والمدينة الآن، أو أتذكر النهر والبحيرة والمنتجع .وجدتها بلدةً متعبةً جداً بسبب الإهمال والمعارك التي دارت فيها، شوارعها وحواريها محفّرة ومغبرة تشوهها العجلات العسكرية والمدنية المحترقة، وآثار القصف، وآلاف الأسلاك الكهربائية، التي تمتد من مولدات كهربائية تعمل بالوقود إلى بيوت سكانها البسطاء الطيبين الكرماء .أما النهر فكان يبعد عن البلدة نحو عشرين كيلومتراً، رأيته عدة مرات، كانت تنتشر على ضفافه أدغال وحقول زراعية وقرى صغيرة بعض بيوتها مبني بالطين، وقيل لي إن ماءه ملوث بسبب مخلفات مقالع الحجارة ومعامل البلوك ومياه شبكات الصرف الصحي للبلدات الصغيرة الواقعة على ضفافه.
- كيف استدلّيتم على البلدة بعدما قرأتم رسالة المنظمة؟
- عقب وقت قصير أحاطت بنا مجموعة من السيارات الحكومية وأخذتنا إليها .لكن مَن أعلمَ المسؤولين الحكوميين بوجودنا، أو هل كانوا على علم مسبق بمجيئنا؟ لا أدري .أسكنوني أنا وبقية النساء في بيت ذي طابقين بجانب المستشفى، يحتوي على مولدة كهربائية خاصة، ووزعوا الرجال على مجموعة بيوت أخرى .في اليوم الثاني دربنا الأطباء على العمل، بعد أن أجروا فحوصات لقسم من المصابين .وخلال أشهر شفي بعضهم وغادر المستشفى، وظل آخرون بحاجة إلى عناية وعلاج مستمر مدةً أطول.
في البداية عانينا كثيراً من جفاف الحياة وسوء الخدمات وصعوبة التأقلم مع الناس، وأصيب عدد منا بالكآبة، لكننا بمرور الوقت اعتدنا على العيش، وصرنا نسلّي أنفسنا بقراءة الكتب الإنجليزية التي جلبوها لنا، ومشاهدة القنوات الفضائية .وحدث مرتين أن حاول مسلحون من تنظيم داعش الهجوم على البلدة، لكن قوات من الجيش والعشائر تصدوا لهم وقضوا عليهم.
الروائي، الذي فهمت الآن أنه جد أبيك، كان من أوائل الذين استجابت أجسامهم للعلاج بسرعة، وقد حرص على زيارتي في المستشفى كل أسبوع، والاتصال بي هاتفياً باستمرار .هل تصدق أنه أحبني؟ كان دمثاً جداً وذا قلب كبير وثقافة موسوعية، لكنه يميل إلى أدب أميركا اللاتينية أكثر من الأدب الأوروبي، رغم أنه، كما قال، قرأ لكبار الكتّاب الإنجليز والألمان والفرنسيين والروس، ولم يكن بمقدوري أن أجاريه في الكلام عن الأدب لأن ذاكرتي كانت ممسوحة تماماً .مرةً جلب لي مجلةً وفتح إحدى صفحاتها، ودعاني إلى قراءة فقرةً فيها وضع تحتها خطاً بقلمه، تقول إن وزيراً بريطانياً مستعد للتضحية بكثير من الدول والممالك، لكنه غير مستعد للتضحية بمسرحية واحدة من مسرحيات شكسبير .وشرح لي مَن تكون بريطانيا ومكانة شكسبير في أدبها، ثم أشار إلى تعليق كتبه في أسفل الصفحة يقول فيه: رغم أن قول الوزير ينطوي على نزعة كولونيالية تستهين بالشعوب الأخرى، فإنه يعبّر عن مدى اعتزاز الإنجليز بمبدعهم الكبير شكسبير .تُرى هل سنقرأ يوما كلاماً لوزير عراقي يقول: مستعد للتضحية بكثير من اأمواليب، لكني لست على استعداد للتضحية بديوان شاعر كبير من شعرائنا؟
يوم ودعته لأعود مع جماعتي إلى المركبة، بعد مضي عام كامل على وجودنا في البلدة، طلب مني عنواناً بريدياً أو إلكترونياً كي يتواصل معي، فزودته للأسف بعنوان وهمي، عندها دس ورقةً في يدي ومضى .حين فتحتها وجدت أنه دون فيها بقلم أحمر االمرأة أمّ الخيال، أمّ الآلهة، لديها بصيرة، أجنحة تمكنها من التحليق إلى اللامتناهي .في عالم الرغبة والخيال، الآلهة مثل الرجال يولدون ويموتون على صدر امرأةب.
قاطعت كارين قائلاً:
ذ يبدو أن تحول ذاكرتك إلى صفحة بيضاء جعلها تحفظ كل ما شاهدته وسمعته وقرأته هناك.
- بل أفكر في تدوين كتاب عن التجربة، رغم أن من سيقرأونه لن يصدقوا محتواه، بل سيعدّونه فانتازيا محضة.
- لا يهم يا كارين، يكفي أن كل من عرف بموتك سيصدقك، وأنا أكثرهم لأنك أنقذت حياة جدي وعشرات من أبناء بلدتي، وعليك الآن أن تقفي إلى جانبهم في تحقيق حلمهم المشروع .سأصطحبك غداً إلى اعمّانب لنحضر حفل افتتاح دار الأوبرا.
- اعذرني سلام، لا أستطيع، أريد أن أبدأ فوراً بإجراءات بيع حصة أهلي في المنتجع لمن يشتريها من أهل المدينة.
- هل معنى هذا أنكِ؟
ذ لا، سأبقى هنا، لكني أرغب في العيش صديقةً لك فقط، وربما زوجةً إن اتفقنا، وليس مسماراً في المشروع الاستعماري لحكومة بلدي.
أيقظني صوت أمي من النوم، مرةً أخرى، إلاّ أنه كان حقيقياً هذه المرة، فتحت عيني ونظرت إليها باستغراب، ثم تلمست جسدي والتفت يمنةً ويسرةً، فألفيت شباك غرفتي قد أزيحت عنه الستارة، وتسللت منه أشعة شمس الضحى .قالت أمي:
- ما بك، هل كنت غارقاً في حلم وردي أم كابوس؟
ذ لا أدري.
- هيا استحم بسرعة وانزل إلى الصالة، ثمة امرأة بانتظارك تحمل لك مفاجأةً.