حدس لا يدركه إلا الشعراء
عندما ينساق التاريخ في لحظاته الحاسمة إلى نداء الفوضى وتتخلى الإنسانية في وقت ما عن تلك القيم التي هي مقومات وجودها كمجموعة من الحضارات تكوّنت بتراكمات دامت آلاف السنين آنذاك طبيعي، أن يلتفت المجتمع للشاعر وأن يسائله: ماذا عليك أن تقول، ماذا عليك أن تكتب. وإن سئل الشاعر بهذه الكيفية فذلك راجع إلى أن المجتمعات تدرك فطريا أن الشاعر هو في نهاية المطاف ضمير عصره كما يقول سان جون بيرس. لكن في الحقيقة لا يمكن إلزام الشاعر بكتابة ما. لا يمكن إلزامه بما عليه أن يقول إنه لمن غير الصحي أن تكون الكتابة الشعرية مقيدة بحتمية الموقف وإن كان نبيلا، وإن كانت القضية عادلة.
إن اتخذ الشاعر موقفا فيجب أن يكون ذلك نابعا من حماس عفوي في روح وثبة جمالية، وفي حاجة ملحّة لكلام حر غير مقيد بحقيقة ميدانية. ذلك هو الشرط حتى يبقى الشاعر شاعرا في كتابته عن قضية عصره مهما كانت عادلة.
إن انزاح الشاعر عن ذلك فإن كتابته لن تعدو إلا أن تكون موقفا لمثقف لا يميزه شيء عن بقية الفاعلين باللغة والكتابة والتعبير.
الفيلسوف يسعى لبناء طرح فكري يفسر به ما يراه على أرض الواقع على غرار ما فعلت هانا هارنت في نظريتها لبديهية الوحشية في الحرب العالمية الثانية. أما المؤرخ فإنه يسعى لإبراز أحداث ساعيا في ذلك للتجرد قدر المستطاع من عواطفه ومواقفه الشخصية حتى يدرك الموضوعية اللازمة لفهم العبة الراهنة وتدوينها خالية من المواقف والأحاسيس. أما الشاعر فإنه يلتفت لكل ما هو إنساني، لكل ما هو حميمي. كيف يمكن لنا أن نعيش الساعة، كيف يمكن أن نعبر عن الوحشية وزوال الإنسانية.
إن ما يهم الشاعر ليس فهم ماذا يحدث على أرض الواقع بل الوصول إلى حقيقة إنسانية ناجمة عنه.
ولو كنت أودّ أن أتّخذ مثالا في تاريخنا للتعبير عن هذه الفكرة لأخذت واقعة زحف قبائل بني هلال على أفريقية في القرن الحادي عشر الميلادي، حيث خربوا البلاد وعاثوا فسادا ونهبوا مدينة القيروان وهي في أوج ازدهارها. فإن أردنا اليوم فهم الواقعة وأسبابها ومخلفاتها وجب علينا الرجوع إلى كتابات المؤرخين على غرار عبدالرحمن بن خلدون لأنه خير من حلل الحدث وشرحه واستنتج مخلفاته الحضارية والتاريخية.
أما لو نحن أردنا أن نشعر بما ألمّ بأولئك الذين رأوا أفواج البرابرة تنهال على أسوار مدينتهم وأن نتمثل الرعب في نفوسهم فإن الأجدر حينئذ أن نعود إلى شاعر القيروان آنذاك وهو أبو الحسن علي الحصري الذي نظم قصيدة في رثاء مدينته بعد خرابها وهجرته إلى الأندلس والمعروفة بـ”موت الكرام حياة في مواطنهم”.
هكذا يجب أن يكون صوت الشاعر مغرما بكل ما هو إنساني باحثا عن حقيقة شعرية تستخلص ما لا يمكن أن يدركه بقية الفاعلين باللغة والكتابة والتعبير. لأن الحقيقة الشعرية تستوجب حدسا حرا لا يدركه إلا الشعراء.