حديث الغياب
(1)
حين استيقظت ضُحىً، كانوا قد رحلوا. حملوا حقائبهم تاركين وراءهم أسماءهم وعناوينهم مكتوبة على قصاصات ورق، ألقوها على منضدة خشبية تتموضع قرب باب غرفة تناولنا فيها، الليلة السابقة، عشاءً أخيراً. لكنهم مضوا، فجراً، من دون وداع. وكنتُ أنا، وهذا ليس خطئي، في عِزّ النوم، مستغرقاً في تفاصيل أحلام لا أتذكرها. وحين أفقتُ ضُحىً، لم أجدْ سوى شمس نهار آخر تسترخي في انتظاري، فقلت لنفسي مشجعاً “صباحُ الخيرِ يا وحدي” فجاوبنى صداي.
(2)
ياحارسَ البستانِ هل فتّح النّوارُ في خاطر الزمان وفاحَ بالبشرى
ما بالها الأيامُ، تعجُّ بالأوهامِ، وتخرسُ الأحلامَ، وتنبذ الفكرا
والتفتْ الأشجانُ، بالقلب والأوطان، وأبقت الذكرى
ولم يُعد في الحانِ من رونق الألحان ما يوجب السُكرا؟
(3)
الليلُ طويلٌ لكن لا يأتي بأخبارهم. وكسول لا ينقل لهم أخباري. والصبحُ كعادته، يجيءُ كل يوم، يقرفصُ بجانبي، على كنبة قديمة، ولا يتكلم. ولم يبق لي سواي، وتذكر ما مرّ من أوقات. وصار يلزمني تدبّر أمر نفس وسواسة، والبحث عمّن أودعه قلق قصائدي، ومالم أقله في مخطوطاتي، وأدله على طريق يقود إلى طفولتي، قبل أن ألمَّ متاعي في حقيبة صغيرة، وألحق سريعاً بمن غادروا، وأيقظوا في قلبي توق السفر.
(4)
يا أيها الربّان، بحرنا هائج،ٌ مركبنا معطوبْ
شاطئٌ بعيدٌ، وموجٌ عنيدٌ، وشرابنا مسكوبْ
لا جبلَ يعصمنا من الغرقِ ولا نقدر نؤوبْ
هل نلقي في الموج بأنفسنا، ونعجّل بالمكتوب؟
(5)
بين خوف وأمل، أنتظرُ، حذراً مترقباً، في طيّات صمتي. يفوتُ النهارُ من أمامي ولا يراني، وعتمةُ الليل تلتحفُ ظنوني وتتوسدُ همومي وتنام بجواري. عيني بصيرةٌ ويدي قصيرةٌ. وما تبقّى لي من عمر مشطور ضفتين، يفصلهما نهر سؤال:
هل أنحاز إلى أملي وأغامر، أم يختارني خوفي ولا أنام؟
(6)
السهم أخطأني فأصابهم، ما أقسى الرحيلْ
دواء الصبر لا يجدي ودموعُ القلب تسيلْ
فماذا ينتظر المسافرُ وقد حضرَ الدليلْ؟
لو أن الحبَ عرضاً أنصفني ما عشتُ ذليلْ.