حرية السجين في كمين حكاياته
أودع الخفاجي قبل رحيله بعام مجموعة قصص بعنوان “حمامة القنصل” لدى صديقه وابن مدينته القاص حيدر عودة، المغترب حاليا في كاليفورنيا بالولايات المتحدة، الذي قام بنشرها عام 2015 في دار نشر “مقهى” التي أدارها لفترة ثم توقفت.
قراءة هذه المجموعة اليوم تمثل تحية واستذكارا للخفاجي، الذي تأزمت حياته خلال سجنه ومعاناته التي صوَّرها واقعا وخيالا وترميزا في هذه المجموعة، التي تحمل سمات مميزة عرف بها الخفاجي؛ ومنها ثقافته الغربية حيث كان ينشر ترجمات كثيرة في الصحافة الثقافية، ويتابع السينما والموسيقى والغناء الغربي وثقافات العالم وتراثه الأدبي. وقد مثّل ذلك رافدا حيويا في مجرى تجربته القصصية التي بدأت بمفارقة عنوانية كقوس مفتوح “سماء مفتوحة إلى الأبد” (1974) لتنتهي بمجموعة لم يرها تمثّل موت حمامة في معتقل بوكا الصحراوي بأياد أجنبية “حمامة القنصل” 2015.
تفاصيل الكابوس وسرديات العسف
مفزع حقا أن يكون القاص معتقلا بتهمة غير واضحة، ولا يجد من يفهم موقفه بعد رميه في ظلمات سجن بوكا الصحراوي، الذي صُمم لإذلال المعتقلين وترويضهم بعنجهية وغطرسة عرف بها المحتل. هنا يتحول العيش اليومي كابوسا، ولكن عين القاص تلتقط تلك التفاصيل والوقائع لتصنع منها واقعا سرديا يتعالى على الواقع الذي يختنق الكاتب في يومياته الرهيبة.
هنا تقدم قصص المجموعة الأربع عشرة جوانب من سيرة يومية حفلت بالغرائبي والعجيب. شخصيات متناقضة: محترفو جريمة ومقاومون وأبرياء ومثقفون وجهلة، فقراء حد الفاقة ومتخمون أثرياء، ريفيون وبدو، وزراء سابقون ومعارضون لهم. كل هؤلاء في بوتقة صهرتهم حدودها، وحولتهم إلى نماذج بشرية تصلح مادة للسرد الذي استعان به الخفاجي ليقدم تلك الشهادات الواقعية، وإن أطّرها بفن القصة من حيث رسم الشخصيات والحوار واصطناع النهايات والمصائر.
لا تعدو القصص أن تكون حياته ذاتها. كل شيء هنا يدور في المعتقل الصحراوي البغيض وفي أروقته وظلام غرفه وزنزاناته، وفي حراسة جنود ومجندات، ومترجمين وإداريين ليسوا إلا ماكنات لا تفهم معاناة السجناء والمعتقلين. وحده الخفاجي كان يراقب كل شيء ويدوّن.
لم تقتصر عين السارد على رصد هواجس زملائه من العراقيين والعرب، بل تعدت ذلك لتحليل شخصيات سجانيه أنفسهم، يتعقب سلالاتهم ويكشف محركاتهم النفسية ومشغلاتهم السلوكية التي جعلتهم يتصرفون مع المعتقلين بعسف وقسوة، هي بعض انعكاسات أزماتهم النفسية ذاتها.
السارد هو المؤلف نفسه بدليل إشارات مكانية عن سكنه في الناصرية وعمله في الترجمة وكتابة القصة واهتماماته الفنية والثقافية. لذا يمكن قراءة القصص في أحد المستويات وكأنها مذكرات واستدعاءات لتلك السنوات التي عاشها الخفاجي في المعتقل. يشير في إحدى القصص، وهو يحدث أحد القضاة، إلى أنه سيكتب ما رآه للتاريخ.
ويرفض أن يتوكل محام عنه لأنه مؤمن بقدرته على الدفاع عن نفسه. وفي قصة أخرى يذكر للحاكم أن زملاءه الكتاب والأدباء والفنانين في شتى دول العالم احتجوا على اعتقاله، ورفعوا المطالبات إلى الإدارة الأميركية والهيئات الدولية وذلك يكفيه. كما أنه يرفض العمل كمخبر أو جاسوس لقاء إطلاق سراحه. ذلك ما يذكر على لسان إحدى شخصيات قصصه. ولا يرضى إلا بدور المترجم الذي يوصل مطالب المعتقلين أو ينقل لهم ما يراد منهم.
لكن السجن يظل سجنا. يزوره رفيق سجن مطلق السراح في زيارة شهرية فيطلب منه أن يأتي بأهله لزيارته. إنه يحن لذلك الجو الأسري الذي افتقده شأن زملاء المعتقل.
يدير الخفاجي أحداث قصصه لتشمل جوانب الحياة التي تضيق وتدق في المعتقل حد متابعة الطعام البسيط وإعداد الشاي بطرق غريبة، والتمرد على السجانين ومواجهة العقوبات الجماعية.
في القصة التي تحمل عنوان المجموعة “حمامة القنصل” تحط حمامة زاجلة بعد العاصفة على أسلاك المخيم، فينسل شرطي سابق سجين ليمسكها، ويصنع لها عشا من علب كارتون المعلبات المرمية في الفناء. وتعيش الحمامة سجينة مع السجناء يعتنون بها ويطعمونها، وكي لا تطير قاموا بنتف ريشها. وبذلك حكموا عليها بأن تغدو سجينة. وفي ما بعد يتضح أنها حمامة هاربة من منزل القنصل الفخري البريطاني في جدة. وثمة ورقة بالإنكليزية مكتوب فيها تفاصيل سكن مالكها.
لوحة: عمران يونس
سيأخذ الحمامة جندي أميركي بدعوى العناية بها، لكن نهاية القصة ترينا مشهدا فاجعا…بينما كان السجناء ينقلون بسيارة السجن للقاء أهلهم في زيارة موسمية، يرى السارد جنودا يتسلون بتطويق الحمامة والرمي عليها “تخيلت نفسي في غابة، ومن وراء الزجاجة كنت أرى الحمامة، مثل خشبة تطير في الهواء”.
رغم واقعية السرد حاول الخفاجي أن يلجأ لرمزية شفيفة من خلال وحشية الجنود وهم يقتلون الحمامة فيما كان السجناء العزل يطعمونها ويرعونها. وفي قصة أخرى “الجرادة الصومالية سكاي هوك” تبلغ الغرائبية حدها الأقصى حين تحل جرادة صومالية عبرت البحر الأحمر وشمال جزيرة العرب لتحط في البصرة جنوب العراق، حيث المعتقل: مكان السرد وبيت حكاياته الكابوسية.
يطلق عليها السارد اسما طريفا “صوماليان سكاي هوك= صقر السماء الصومالي” لقد نجت في رحلتها تلك من مصائد الأطفال والصيادين وهدير طائرات الحرب لتحط على ركبة معتقل في بوكا. لص خراف سابق يقدم لها بقايا تفاحة تمتصها، وتظل مواظبة على الدوران حوله. لم تستطع مبيدات الحشرات التي رشها الأميركان في السجن أن تقتلها.
نقل السجين وظلت جرادته برعاية السارد الذي يعصر لها التفاح ويطعمها، حتى يصاب بالإحباط بعد طول اعتقاله، فيهملها لكنها تظل حوله حتى ينهشها عصفور جائع. هنا يعزز السارد رمزية الجرادة ومعايشتها وموتها، فيختم كالعادة بجمل شاعرية تظل مدوية في الذاكرة، لا مجرد ختام لمصائر السرد “وحتى الآن بعد إطلاق سراحي. لم أجد ذكرى أجمل من ذكرى هذه الجرادة التعيسة التي كانت كأنها شكل من أشكال وجودي. هي خسرت حياتها وأنا خسرت سنواتي أيضا”.
إنسانية صنعتها ثقافة الخفاجي ورهافته. عازب أبدي يبرر ذلك برغبته في الحرية، ومثقف يفوق ذاكرة سجانيه، وهو يستعرض أمامهم أجزاء من ثقافتهم لا يعرفها بعضهم في الفن والأدب والتاريخ والأمكنة، لكنه متماسك وشجاع حين يواجه سجانيه.
وأحسه أراد أن يبوح بسبب اعتقاله واتهامه باطلا بالاعتداء على مجندة لم يرها أو يلتقيها في مستشفى الناصرية بعد الاحتلال، وقد أفرد لها قصة “المحاكمة المفترضة للمتهم البريء” فيتضح من خلال حلم يراه أن التهمة ظنية وحسب، وأن السارد بريء، ولكنه مصرٌّ بكبرياء فلا يستعطف أو يتنازل لجلاديه وسجانيه. التعذيب والتنقل بين السجون والضغوط النفسية يجسدها قضاة وصفهم بالنسور الصلعاء القاسية. والتهمة كما في الملف “إهانة مجندة”.
يتوعده المحقق بأنه سينتزع منه اعترافه بالذنب؛ لأنه لم يدع متهما مر به إلا واعترف، لكن السارد يتحدى مهارته تلك ويصمد ليواجه مصيره ويحاوره كندٍّ له. حين يسأله رئيس المحكمة عن مهنته، ويعلم أنه كاتب ومدرس متقاعد، يسأله إن كان يعيش من بيع كتاباته لمن يدفع؛ فيرد عليه “لا، لمن لا يدفع أيضا”. ويسأله: هل ستكتب عنا؟ فيجيب “نعم. وأفضح هذا الزيف. ينبغي أن تعرف الأجيال هذه الجرائم التي لحقت بأبرياء، بي وبغيري، لتتم محاكمة جثثكم في المستقبل”.
نهايات فريدة يخرج بها قارئ الخفاجي، يستبطن حلم مايكل المجند الشاب من كارولينا الشمالية الذي يحلم بأن يجمع من هذه الحرب مالا ليشتري شقة على الشريط الساحلي، ويتخلص من مأوى المشردين بعد تسريحه، لكن أحلامه تنتهي حين تهب عاصفة على السجن فيطير من برج المراقبة الخشبي، ويسقط فوقه صندوق ضخم يصيبه بشلل دائم وكسر في الظهر.
لكن إنسانية المثقف السارد تبدو في مكانها حين يختم القصة بالقول “من بوسعه أن ينسى موت إنسان حتى لو كان عدوا، وهو يلقى حتفه بعيدا عن عائلته؟”.
قال الخفاجي ذات لقاء إنه “يؤمن بأن الجمال وحده ينقذ العالم”، ويكمل بأن السرد هو المنقذ المنتظر، وشاءت أقداره أن يستعين بالسرد متغلبا على ما هُدر من سنوات عمره في ظلمات السجن وعسف السجانين.
هكذا دوَّن الخفاجي معاناة مقطرة بصفاء في حبكات واقعية، وتفاصيل أحداث تدق حتى تترك في النفس شعورا بالضيق الذي تفرضه أمكنة القصص وأزمنتها ووقائعها. تلك هي حياة سجين ضمتها متاهات قصصه ورمزيتها وواقعيتها المفرطة أحيانا.