حسنٌ ما سوف نفعله

الخميس 2015/08/20

في الثانية عشرة والربع ظهراً تسللت تباعاً ثلاثة غربان الى المطعم قبل ربع ساعة من موعد فتح بوفيه طعام الغداء‭.‬ «من فَتَح الباب الزجاجي، من أبقاه مفتوحاً»، هذا هو السؤال الذي خطر ببال العاملين وقد تبادلوه ما بينهم بصمت وتقريع‭.‬ النادلة تنفي:» ليس أنا‭..‬ أنا أغلق الباب دائماً، وأحكم إغلاقه»‭.‬ الرواد لم يحضروا، لم يفتح الباب أحدٌ منهم، والمطعم لم يفتح «أبوابه» بعد لاستقبالهم‭.‬ ثلاثة غربان انتصبت بأنفة على ثلاث طاولات غير متجاورة‭.‬ النادلة تقول: توقعتُ ما حدث، وتخفض عينيها أمام عيني غراب مُسدّدتين نحوها‭.‬ الغراب يبدو كمن ينتظر أن تشرع النادلة في خدمته‭.‬ تتململ النادلة وتتأهب كالمسحورة للقيام بخدمته، فمن هي حتى تتحدّاه‭.‬ طاهٍ من كارهي الغربان يخرج اليها ويصرفها بازدراء، ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

متفادياً أن تطير الى الداخل‭..‬الى بهو الفندق حيث يتصل المطعم مباشرة بالبهو بغير باب‭.‬ الغربان تنسلّ تباعاً الى فضاء البركة، وتنساب خارجةً‭.‬ تتنهد النادلة وتضع كفّها على صدر قميصها الأبيض، وقد أكملت غفوة الدقائق الثلاث على مقعد في ركن منزوٍ من المطعم‭.‬‬‬‬‬‬‬‬‬

II

غربان سود يقِظة تهبط مع أشعة الشمس الأولى في الحديقة الخلفية لفندق في الشارقة، تنشط على مدى النهار حول البركة، وعلى أغصان الشجر وعلى الكراسي البلاستيكية البيضاء، وفوق مبنى حمّام ، وعلى سطح مطبخ صغير‭.‬ تنعق بشدّة واقتضاب بضع مرات في اليوم‭.‬ غربان لامعة تبدو متأهبة لمهمة عاجلة‭.‬‬‬‬‬‬‬

ثمة حمام يحطَ ويطير في الفضاء لا تؤذيه الغربان، وعصافير صغيرة وأخرى متوسطة الجرم، لا ينشأ احتكاك بينها وبين الغربان‭.‬‬‬

النادلة الأندونيسية تخاف الغراب رغم أنه لا يؤذيها، تخاف من كبريائه، واعتداده، ونزوعه الى المكوث على الأرض أكثر من الطيران، خلافاً لبقية الطيور الزائرة‭.‬‬‬

تخاف انغلاقه على ذاته، وعدم اكتراثه بوجود الآخرين‭.‬‬‬

النادلة الشابة حديثة العهد بالخدمة تخشى أن يطلب الغراب بطريقةٍ ما طعاماً، وتخاف أن تمتنع عن الاستجابة لطلبه، وينتابها قلق لو استجابت له فلسوف يظن ربّ عملها الظنون بسلامة مداركها‭.‬‬‬

الغراب لا يطلب طعاماً ولا ماء‭..‬ لا يطلب شيئا، يجوس بمنقاره بحثاً عن الطعام فيجد الفتات والحبوب على أطراف البركة وتحت كراسي النزلاء، أما الماء فيملأ البركة الكبيرة ويكفي قبائل من الغربان‭.‬‬‬‬‬

النادلة لن تصادق الغربان‭..‬ لن تحبها لن تألفها‭.‬‬‬‬‬

أوه ما أكثرها‭.‬ إنها كثيرة جداً في نوفمبر‭.‬ أكثر عدداً من رواد الفندق والمطعم، تُحلّق وتتنطنط وتتوقف بثقة وأمان في الموضع الذي تشاء، كأن المكان برمّته خاصتها‭.‬‬‬‬‬‬‬

لا أحد يطردها، لا أحد يُرحب بها‭..‬ تعايش سلمي، وتقاسم أرزاق بين كائنات‭.‬ لكن النادلة تتمنى لو يطردوا الغربان برفق ولطف‭.‬ لو يوجّهوها بطريقة ما نحو مكانٍ آخر‭..‬ أو فندق آخر!‭.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

الرواد يأتون ويذهبون، أما النادلة فتواصل عملها كل يوم في المطعم المجاور لفضاء البركة الذي يغُصّ على الدوام بغربان‭.‬ جدار زجاجي شفاف يفصل البركة، ويتيح للنادلة رؤية الغربان على مدى النهار في الجوار الملاصق‭.‬ ثم رؤيتها من قُرب مع امتداد خدمتها الى الخارج قريباً من البركة، حيث لا حاجز هناك يفصلها عن الغربان الأنوفة الرشيقة المتأملة‭.‬‬‬‬‬‬‬

النادلة تستيقظ مذعورة من غفوة الدقائق القليلة في ركن منزوٍ‭.‬ تجول ببصرها في أرجاء المطعم: لا غربان في الداخل‭.‬ ولا يلبث أن يفد زبائن فرادى متجهمون أو شاردون‭..‬ ‬‬‬‬‬‬

III

النادلة الشابة لم تتم العشرين من عمرها، تخشى نقمة الغراب الذي طلب الخدمة منها، ولم تتمكن من خدمته، مع أنها كانت على أهبة القيام بخدمته‭.‬ ربما لم يطلب شيئا، ربما بدا كذلك فقط، ليس نزيل فندق أو زبون مطعم حتى يطلب طعاماً أو شراباً، لكن كيف لها أن تتأكد‭.‬ لقد رآها جيداً وحدّق بها تلك التحديقة الثاقبة، وقد رأته بوضوح وحدّقت به وليتها لم تفعل‭.‬ تقول: لعل الغراب ينساني، أو ينشغل عني بالطاهي ضخم البنية الذي صرفه‭.‬ وتتبسم في سرّها، تخجل، وتتمنى الخير لزميلها‭.‬ ثم تشجع نفسها بالقول إنه مجرد حلم، وعليها أن لا تأخذ الأمر مأخذ جدّ، فيأتيها صوت نعقة توقظها من خدر طمأنينتها، فتستدرك: حتى لو كان مناماً فقد رأيته ورآني‭.‬ إنني أتذكره، ومن المؤكد أنه يتذكرني‭.‬ لا بد أنه في الخارج الآن‭.‬ ذاكرة الغراب قوية‭.‬ ونازع الانتقام لديه قوي‭.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

IV

النادلة الشابة اغتنمت الفسحة بين الغداء والعشاء، وانسلّت الى المطبخ، وبعد أن حيّته وروت له الحلم القصير، سألت بعد شيء من التردد زميلها الطاهي السوري طارد الطيور السوداء إن كان يخاف انتقام الغربان منه‭.‬ راق له السؤال، وتبسّم ابتسامة عريضة قائلاً إن الأمر لا يخطر بباله، مع أنه يعرف حكاية ولع الغربان بالانتقام‭.‬ لكنه لم يؤذها‭.‬ صرفها فقط كما جرى في الحلم، وقد انصرفت الغربان بهدوء بعدما اكتشفت خطأها، أجاب الطاهي البدين ابن الثلاثين ربيعاً الذي يبدو أكبر من عمره، من خلال ابتسامة مرحة، وهو يرنو الى عينيها السوداوين الصافيتين الواسعتين‭..‬ بدت النادلة مقتنعة بما قاله زميلها الذي أكمل « مرافعته»: أنت لم تؤذ الغربان بشيء‭..‬ هل كان يجب أن تقدّمي لها وجبة طعام مثلاً ؟ وضحك الطاهي على تساؤله المتهكم‭.‬ أما هي فارتبكت، إذ لم تدرك المقصود بالسؤال، فاستفسرت منه: هل كان يجب أن أقدّم لها وجبة طعام، أم أن لا أفعل؟ ضحك زميلها وقد ودّ احتضانها بعدما فوجىء بمدى براءتها، لكن بدلاً من ان يجيبها عن استفسارها، حانت منه نظرة عشوائية الى سكين كبيرة منتصبة لامعة النصل من أدوات المطبخ‭.‬ خافت النادلة وكأنما فوجئت بوجود السكين، فاقترب منها قائلاً : الغراب هو من يتعين أن يخاف، لا أنا ولا أنت‭.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

لكن الخوف لم يزايلها‭.‬ فهي وحيدة والغربان كثيرة‭.‬ الطاهي يعرف ذلك، وإذا لم يكن يعرف فيجب أن يعرف‭..‬‬‬‬‬‬‬

الطاهي أخذ «يصادفها» كثيراً في أروقة المطعم والفندق، ويمازحها بعبارات مثل: سأهديك غراباً إفريقياً وسوف تحبّينه كثيراً، وتستيقظين على نغمات صوته في الصباح‭.‬ أو: لن يمكنك أن تعيشي بعد الآن بدون رؤية الغربان وسماع أصواتها‭.‬ أو: الغراب يحبّك وقد تسلل الى المطعم من أجلك أنت فقط، والطائران الآخران كانا حارسين مرافقيْن له‭.‬ وقد أسعدتها كل عبارة في كل مرة قيلت لها فيها ، فلسببٍ ما كانت تنسى مؤقتاً أمر الغربان مدار الحديث، وتتعلق أنظارها بعينيّ زميلها الزرقاوين، ويخفق صدرها الصغير لنبرة صوته الجياش، وتُحب كل ما يقوله بصرف النظر عما يقوله!‭.‬ وفي مرات أخرى حدّثها قليلاً عن نفسه، وعن عائلته الباقية في مدينته حمص التي هدمتها غربانٌ معدنية نفاثة وأرواحٌ سوداء، ومع ذلك فأبناء المدينة لا يتطيّرون من شيء سوى العبودية‭.‬ وقد اغرورقت شفتاها لِما سمعته، من دون أن تهتز ثقتها بأن زميلها جبلٌ بشريّ لا يملك أحدٌ أن يهدمه‭.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

V

لم يكن مستغرباً بعدما مضت أسابيع معدودات، أن تصغي النادلة الشابة بكل جوارحها لنصيحة زميلتها النيبالية التي تكبرها بأربع سنوات، بأن أفضل طريقة لحمايتها من هاجس الطيور السود هو أن ترتبط بزميلها طارد الغربان، حتى أنها صادفت الجرأة في نفسها، وأفضت له ذات صباح وبأقل قدر ممكن من الخفر والارتباك بهذه «الوصفة» الموصوفة لها، وقد سمعها بملء روحه وبادر ضاحكاً هانئاً لاحتضانها على عجل‭..‬ بلطف وبذراع واحدة قائلاُ: حسنٌ ما تفعلين أيتها الحسناء‭.‬ حسنٌ ما سوف نفعله.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.