حطب سراييفو الذي أشعل حربين أهليتين
ينتقل سليم من الجزائر إلى سلوفينيا هرباً من أخبار الموت الذي طوّق بلده نهاية التّسعينات من القرن الماضي، وتصل إليها إيفانا أيضاً بعدما فشلت كلّ مشاريعها في المسرح في سراييفو، التي لم تشف من بقايا حرب الإخوة. يلتقيان ويتبادلان الأدوار في سرد حياتهما. كلّ الشّيء يوحي، من الوهلة الأولى، أنهما يقتربان من علاقة حبّ لكن جريمة مباغتة تفصل بينهما، وتعيدهما من حيث جاءا ويكتشفان أنهما ابنان غير شرعيّان. جعل منهما التّاريخ الدّامي في بلديهما مواطنين بلا أب.
يُفاجئنا سعيد خطيبي (1984-) في روايته “حطب سراييفو” (منشورات الاختلاف/ضفاف، 2018) بالتقاط اللامتوقع، ويكتب نصاً/سيرة بلدين، كلّ شيء يفرق بينهما ظاهرياً، لكن شيئاً فشيئاً يدرك القارئ حجم التّشابهات التّاريخية والثقافية والإنسانيّة بينهما. رواية يلتقي فيها البعيد بالقريب والقريب بالبعيد، تحت سقف مقهى “تريغلاو”، في العاصمة ليوبليانا، وذلك بعد أن استضاف “سي أحمد”، المناضل السّابق في حرب تحرير الجزائر قبل أن يصير عدواً لها، ابن أخيه سليم في بيته، قصد أن يصارحه بحقيقته، وبعدما قام بتوظيف إيفانا نادلة في المقهى الذي يمتلكه، لتتصاعد الأحداث وتتشابك إلى أن تصل ذروة التّأزم ويكتشف سليم، في النّهاية، حقيقة لم يكن بمقدوره تقبّلها إطلاقاً، وهي حقيقة أنّه الابن غير الشّرعي لمن اعتبره طوال حياته والده، هذه الصّدمة جعلت منه يُصارع الأحزان والمآسي لما عاشه من أكاذيب ربع قرن ويزيد، الأمر الذي أدى به إلى اتخاذ قرار العودة إلى الجزائر والرجوع إلى بلده، في الوقت نفسه تُقرّر إيفانا العودة إلى سراييفو، لأنّها لم تجد ما كانت تحلم به، تطوي مآسيها الشّخصية وتعيد بناء حياتها في مدينتها الأصليّة.
يفتتح خطيبي الرّواية على يوميات سليم وهو يواجه الخوف في الجزائر العاصمة. يعيش على هامش حرب أهلية، وأخبار تفجيرات ومجازر مروّعة، ويوزّع وقته بين عمله في الجريدة ومليكة أستاذة اللغة الإنكليزية التي تجمعه علاقة غرامية بها. قبل أن يجد نفسه بلا عمل بعد إغلاق الجريدة التي يعمل بها، ويتلقى دعوة لزيارة عمّه سي أحمد الذي يعيش منذ سنوات في العاصمة السلوفينية، بعد ذلك تقوم إيفانا بسرد قصّتها، فهي تعيش برفقة أمّها وأختها في مدينة أنهكها الحصار والحرب طيلة سنوات، فقد وجدت نفسها مجبرة على ترك البوسنة والهرسك، وحمل مخطوطة المسرحية التي تحاول كتابتها بالإنكليزية والذّهاب إلى ليوبليانا بحثاً عن عمل وحياة أفضل وفرصة لإتمام نصّها.
تمزج الرّواية بين حكايتين في رقعة جغرافية بعيدة ومختلفة، عما تعوّد عليّ الرّاويان، لكنّها متقاربة من حيث الهواجس والطّموح، حيث تلتقي المآسي والجروح وتتقاطع الآلام والأحزان، وتلتقي المشاكل الإنسانية رغم البعد المكاني والزّماني، وذلك في بحثهما الشّاق عن الأمن ونسيان الحرب والدّمار، والرغبة في تأسيس حياة جديدة لهما.
كما نقرأ في هذه الرّواية تاريخاً موازياً لثورة التّحرير في الجزائر. والد سليم المدعو “سي عمار” وعمّه “سي أحمد” كانا مجاهدين في الخمسينات، لكن بعد الاستقلال تفرّق الأخوان، بقي سي عمّار في العاصمة في حين سافر العمّ إلى سلوفينيا، مع موجة هجرة عمّال جزائريين إلى ما كان يسمى يوغسلافيا سابقاً، ولكل واحد منهما منظور مخالف لتلك الثّورة، الأول عاشها مناضلاً والثّاني انقلب عليها.
لاحقاً يشتغل سليم صحافياً بالقسم الثّقافي لجريدة “الحر” سنوات العشرية الحمراء والإرهاب الأعمى الذي ضرب الجزائر في التسعينات، ثم انتقل إلى القسم السياسي، غطّى وقائع ومجازر، مثل مجزرة “سيدي لبقع”، التي يحكي تفاصيلها في الرّواية، ومع الوقت بات يحسّ بإرهاق نفسي مما يحدث من حوله، وغير قادر على المواصلة، لكنه قاوم الوضع بكلّ تناقضاته، بعد إغلاق الجريدة بسبب الظّروف السائدة في ذلك الزّمن، تلقّى دعوة لزيارة عمّه سي أحمد وظنّ أنها فرصة مواتية للهرب بعدما سكنه الخوف من أن يصبح فريسة “القتلة” ويُغتال في غفلة منه وهو يكتب عن معاناة أناس يصارعون تلك المحنة، ترك عشيقته مليكة متوجهاً إلى الحلم على أمل احتضان جديد قد تمنحه إياه دولة تدعى سلوفينيا، قبل أن يعود خائباً منها، والأسوأ أنه سيفقد مليكة، ويشرع في رحلة جديدة في البحث عن أصوله، من هو والده الحقيقي ومن هي أمّه!
أمّا قصة إيفانا فهي شابّة بوسنية من أصل كرواتي تعيش برفقة أمّها وأختها في مدينة أنهكها الحصار والحرب طيلة سنوات، حلمها الوحيد هو أن تُصبح مؤلّفة وممثلة مسرح، كانت تعيش وسط أسرة مهلهلة، توفي أبوها الذي كان له تاريخ مُخز أيّام حرب البلقان، حيث كان يجهل هوية والده، وأمّ كان همّها الوحيد المحافظة على هذه الأسرة المتهاوية، وأخت تُعاني من اضطراب نفسي، كل تلك الظّروف الصّعبة والأصعب منها ظروف بلادها البوسنة والهرسك، والتي أصبحت توأمها وقدرها على امتداد تاريخها، حالت بينها وبين ترجمة ذلك الحُلم إلى واقع، لتُفكّر هي الأخرى في ترك هذا البلد والهجرة إلى مكان آمن حيث تستطيع هناك تحقيق أحلامها، إنها سلوفينيا حيث تنبعث منها نجمة في سماء المسرح يُنسيها هجر حبيبها غوران، وكل من أراد استغلال جسدها وأنوثتها، كانت الهجرة إلى سلوفينيا الحلّ الوحيد للابتعاد عن سراييفو والحرب التي لم تنته فيها. لكن جريمة قتل تتورّط فيها إيفانا سوف تعيدها من أين أتت ولا يدور في مخيلتها سوى سليم، الذي ضاع من بين يديها.
إنّها رواية الصّدمة، والتّاريخ المزيف الذي يعيش فيه أشخاص، ففي “حطب سراييفو”، نعيد تأمل تاريخ الجزائر، وهزّاته، وشبيه بتاريخ البوسنة والهرسك، وقد أصاب الرّوائي أن افتتح نصّه بمقطع من الشعر البوسني يقول “نحن إخوة في الألم، عدا ذلك فإن كلّ شيء يفرّقنا”. إن الحربين الأهليتين اللتين تحكيهما الرّواية، لم تكونا فقط حربين على السّطح، بالنّار والسّكين، بل كانتا أيضاً حربي هوّية مفتتة.