حكايات المكان
“الغُربة لا تُهديك حُبا بل حنينًا لما فارقته، كل شىء تراهُ في نهارك يذكرك بحدث بعيد، كُل الوجوه تُكمل الشبه الأربعين”. من هذه الجملة المحورية في رواية “شاي باللبن في الزمالك” لفتحي سليمان، تطالعنا شبكة الحكايات الزمانية والمكانية، فالغربة في المكان يرافقها الحنين لملامحه الماضية فتستدعي الذاكرة كل ما اختزنه المكان من تجارب الزمن، لتأتي الحكايات غير منتظمة وغير متسلسلة، وكأن الكاتب فتحي سليمان لا يتحكم في نصه بل هو في المقابل محكوم به وبما يتوالد داخله من أحداث، تلك الأحداث التي تتشكل نتيجة جدل مستمر لشبكة من العلاقات الثنائية بين عالمين وزمانين، ونتيجة صراع الشخصية للوصول إلى التوازن بين هذه الثنائيات الزمانية (الماضي/الحاضر) أو المكانية (المكان الغائب/الحالي).
تبدأ حكاية المكان -حي الزمالك- بداية من العنوان الذي يعلن لنا عن الهوية الهجينة التي تميز ذلك الحي الذي “يضم خليطا من البشر يسكنون الجزيرة ويشكلون مجتمعًا كوزموبوليتاني” (ص 16)، في توافق رمزي مع خليط المكونات التي تكوّن الشاي باللبن المرتبط ثقافيا بهوية ذوي الأصول الأفريقية من ساكني الحي؛ ليتخذ العنوان طابعا تيماتيا -بتعبير جيرار جينيت- يحيل بطريقة ما على مضمون النص، ويؤدي وظيفة وصفية إيحائية يخبر بها العنوان شيئا عن النص في حضور مقصدية الكاتب ورؤيته الموضوعية التي ينوي تسليط الضوء عليها.
وتأتي لوحة الغلاف في الرواية الصادرة عن دار تبارك للنشر والتوزيع في القاهرة 2018 لتشكل تواصلا بصريا مع العنوان ومع فكرة النص الذي يتعامل مع الهويات المختلطة -ذوي البشرة السوداء والبيضاء- التي ملأت أرجاء الجزيرة، ومواجهة ساكنيه للتفرقة العنصرية التي دعمها المكان نفسه الذي فصل على جانبيه بين الأغنياء والفقراء؛ أولاد الباشوات وأبناء البوابين.
فغلاف الرواية يحتوي على لوحة تشكيلية لجسدين متعانقين يجسدان هيئتين ماديتين إحداهما لذكر جاء في لون داكن والأخرى لأنثى اتخذت لونا فاتحا، ليحيل ضمنيا إلى محاولات البطلين “أحمد صالح إدريس” -ابن بواب العمارة- و”قدرية” -ابنة العائلة الشركسية- مواجهة هذا الانقسام والتغلب على مسافاته عن طريق الحب ولو كان مستحيلا كما عزز السرد.
مشهد البداية يؤكد أن المكان لا يأتي فقط كخلفية للأحداث بل كعنصر حكائي مهيمن على النص، قادر على صنع الأحداث ودفعها نحو التطور وقادر كذلك على التعبير عن أحلام الشخصيات التي تتحرك في محيطه، فـ”على مدار الأربعة والعشرين ساعةً نتناوب حراسة المكان” (ص 7)، الذي شهد اعتصام المثقفين بمقر الوزارة في 4 يونيو 2013، اعتراضا على قرارات وزير الثقافة د. علاء عبدالعزيز، وكانت شرارة انطلاق ثورة 30 يونيو.
لتطل علينا من البداية دلالات الفعل “يحرس” وما تحمله من معاني الرعاية والحماية والمراقبة بل خدمة المكان أو الفرد لحفظه والسهر على حمايته، وهو ما يشغل الكاتب المدفوع برغبة ملحة -عبر بنيته السردية الكبرى وليس في النص الحالي فقط- في توثيق هوية المكان والتأصيل لملامحه خوفا من غيابها سواء بفعل الزمن أو بسبب النسيان.
وهنا نجد أنفسنا بصدد ما يشبه السيرة الذاتية للمكان التي يرصد خلالها الكاتب التغيرات التي مر بها الحي وما شهده من تحولات اجتماعية وسياسية، وما آلت إليه أحلام ساكنيه في واقع مضطرب مليء بصراعات ذاتية خاصة وأخرى تاريخية عامة. ليتجاوز المكان كونه مسرحا لحركة الشخصيات وتفاعلها ويصبح له دورٌ أكثر فاعلية على اعتبار أنه الإطار الذي يشكل أبعاد الشخصيات وتركيباتها الاجتماعية والنفسية، والمحرك الأول للصراع في النص.
ولذلك جاء الجانب التوثيقي لتفاصيل المكان بارزا بعد أن قام الكاتب بتطويعه وصهره في نسيج السرد الروائي، فتستعيد ذاكرة الراوي -على سبيل المثال- أهم القصور التاريخية التي أقيمت في منطقة الزمالك، وهو قصر الأميرة سميحة ابنة السلطان حسين كامل، وحفيدة الخديوي إسماعيل، الذي بني في عام 1902، والذي أصبح مكتبة القاهرة الكبرى في يناير 1995، بعد وصية الأميرة بتخصيص القصر لخدمة الثقافة والفنون.
ويوثّق الراوي كذلك لسيرة الحي من خلال ربطه بالأحداث، لتصبح مهمة المكان في هذه الحالة التنظيم الدرامي للسرد كله. فاختفاء “كوبري أبو العلا” من المشهد المكاني بعد تفكيكه وإزالته يحمل -إلى جانب الهم التوثيقي الذي يؤرق الكاتب كما أشرنا- إشارة إلى مشاعر العزلة والقلق التي تحاصر شخصية البطل والتي انتهت باغترابه عن ذاته وعن المجتمع الذي اضطر إلى مواجهته وحيدا:
“نظرت إلى اليمين البعيد..لم يعد هناك! هرب الكوبري المعدني بأعمدته التي صارت تشبه التجاعيد ومساميره المغطاة بصديد أخضر، هرب يحمل بصمات أقدام أبي وبعضا من دماء ساقي العرجاء، وبطولة الكونستابل الشجاع، وذكرى قبلات تمت في ظل عروقه. تقاعد مبكرًا وفضّل الانزواء بعد أن هزمه خصم إسمنتي” (ص 85).
فكان من الطبيعي، بالتالي، أن ترتبط حكايات المكان بحكايات الشخصيات التي تتحرك في إطاره، ومن ثم منح الكاتب حيزا كبيرا لشخصيات همشها التاريخ الرسمي ولم يسجل مساهماتها أو يذكرها بالصورة التي تستحقها، فيضيء لنا السرد -مثلا- حادثة الكونستابل “الأمين عبدالله” الذي أحبط مخططا صهيونيا ضد مصر باغتيال اللورد موين، الوزير البريطاني لشؤون الشرق الأوسط، في عام 1944. ليعيد السرد الروائي الاعتبار لمن همشتهم السرديات التاريخية في محاولة لتصحيح المسار عبر تفعيل تجاربهم وربطها بالإطار المكاني الذي احتوى دورهم المهم الذي يجب أن يظل خالدا في ذاكرة التاريخ.
وقد حقق الكاتب مبتغاه من خلال تقنية الصور السردية التي تجسد المكان من خلال فعل الشخصية، فتُحرّك المشهد السردي وتثير مخيلة القارئ من خلال رؤيته للمكان المكتوب مجسدًا، مما يضفي على النص السردي طابع الفرجة المسرحية:
“6 من فبراير 1944 الظهيرة حدثت واقعة ظل والدي يحكيها كثيرًا: فوجئ بالكونستابل’الأمين عبدالله’ يتوقف أمامه، وصوت مكابح دراجته النارية يصرخ وسأله: هل رأيت أحدًا من عمال شركة التلغراف قادمًا من ناحية الجزيرة” (ص 21).
هذا التهميش رفضه الكاتب منذ العتبة الإهدائية لروايته التي خصصها إلى (رُوحِ البطلِ المصريِّ الأمين عبدالله)، وقد ظهرت خصوصية هذا الإهداء من خلال ما يحمله من رسالة تكشف عن اتجاه الكاتب السياسي والثقافي، فكان المُهدى إليه العام يحيل -بشخصه وبدلالته معا- إلى جميع المهمشين أو المنسيين الذين يتم إقصاؤهم عن المشهد بشكل متعمد أو غير متعمد.
وتتواصل رسالة الكاتب في المقاطع السردية التي يستدعي فيها شخصيات تاريخية مثل “إبراهيم كروم” فتوة بولاق الشهير، الذي اشتهر بتحوله من تأييد الإخوان إلى مناصرة جمال عبدالناصر في النصف الأول من القرن العشرين، أو الرئيس “محمد نجيب” الأب المكلوم الذي رحل أبناؤه -علي وفاروق- في ظروف غامضة أثناء تحديد إقامته، أو التي يحيي فيها حكايات طوائف منسية مثل أبناء التكارنة من ذوي البشرة السمراء الذين عاشوا في حي الزمالك، أو بعض العائلات اليهودية التي سكنت به مثل عائلة الناشط السياسي “هنري كورييل” ووالده المصرفي “دانييل نسيم كورييل”.
ورغم أن هذه الشخصيات كانت غير متحركة في الحدث الروائي فإنها جاءت فاعلة -بشكل ما- في السرد بفضل ما أحدثه وجودها من توترٍ يدفع إلى الكشف عن دلالات وجودها، التي تدعم مقصدية الكاتب الرئيسة في توثيق المسار التاريخي للمكان، سواء كان رسميا أو شعبيا.
تجسد هذا المنحى التوثيقي بوضوح في استدعاء بعض الأحداث التاريخية كـ”معركة شيكان” التي وقعت بين قوات المهديين وقوات مصرية بزعامة بريطانية عام 1883، أو انتفاضة الخبز التي اندلعت في مصر ضد موجة الغلاء في عام 1977 وأسماها السادات بثورة الحرامية، هذا إلى جوار الخيط التاريخي الرئيس بالرواية الذي تتعالق داخله أحداث ثورتي 23 يوليو 1952 و30 يونيو 2013.
وقد تجاورت حكايات المكان -بملامحه وشخوصه وأحداثه- مع تيمة رئيسة هي إدانة جماعة الإخوان المسلمين في أحداث تاريخية عديدة، تلك الإدانة التي شكلت مرتكزا أساسيا في الخطاب الروائي حتى أصبحت بؤرة العملية السردية كلها في بعض أجزاء النص، بداية من سلسلة الاتهامات الموجهة لهم بعد وصولهم لكرسي الحكم الذي استمر عاما (يونيو 2012-يونيو 2013) وصفه الكاتب بالعام الثقيل، مرورا بالتشكيك في دورهم في حرب 1948 واتهامهم في أحداث حريق القاهرة في يناير 1952 وتورطهم في خروج يهود مصر بعد إثارة الغضب والكراهية تجاه اليهود المصريين في إطار الخلط المتعمد بين “يهودي” و”صهيوني” في خمسينات القرن العشرين، مما أدى إلى دعم الاستيطان الصهيوني بفلسطين عن طريق زيادة عدد المهاجرين اليهود إليها من البلدان العربية كمصر والعراق واليمن وغيرها.
وقد برز في ثنايا النص ارتياد كاتبه لأفق التجريب من خلال انفتاح خطابه الروائي على الفنون الأخرى واستعارة مكوناتها لإثراء المتخيل السردي ودلالاته المختلفة، وعلى رأسها الفن السينمائي الذي استمد منه تقنية المونتاج في ترتيب مجموعة من المشاهد السردية على نحو معين بحيث تعطي هذه المشاهد -من خلال ذلك الترتيب- معنى خاصًا يهدف الكاتب من ورائه تحقيق تأثير مقصود في المتلقي.
فتشكيل البعد المكاني-الزمني اعتمد في معظم الأحيان على الانتقال في لقطات متوازية يتم توليفها بشكل معين لتبرز مدى الصراع الموجود في الواقع الحاضر والغائب، كالانتقال في لقطات سريعة ومكثفة بين حي الزمالك وميدان التحرير، أو الانتقال بين انتفاضة الخبز واعتصام المثقفين بشكل يصدم وعي المتلقي، وكأن الكاتب يريد عن طريق ترتيب لقطاته بهذا المنحى إعادة ترتيب الواقع بالتركيز على مطالب الراغبين في إصلاحه وإبرازها في المشهد.
كذلك أدى الوصف النفسي، الذي يصور المكان من خلال إحساس الشخصية به، دورا مهما في الكشف عن الحياة النفسية للشخصية والإشارة إلى مزاجها وطبعها من خلال وصف مظاهر الحياة الخارجية، وهو ما يعرف بالوظيفة التفسيرية للوصف، خلافا لوظيفته الزخرفية أو الجمالية، التي تسهم في رصد العلاقات التبادلية بين الشخصية والمكان والحدث التي تتقاطع جميعا لتضيء موقف الشخصية من الواقع الحالي والماضي؛ فالاحتماء بالمكان أو النفور منه مرهون بحالة الشخصية وكذلك ضيقه واتساعه يتحدد وفق حاجاتها:
“وخرجت من محبسي لأستكمل سنوات العقوبة في ‘أستراليا’ نعم أستراليا… القارة الجزيرة التي كانت بكل شوارعها ومدنها وصوت تلاطم أمواج المحيط على شواطئها أضيق في نظري من حجم الزمالك!!” (ص 66).
ولكن في النهاية جاء الشعور بالإحباط من الأحلام الثورية وقدرتها على تحسين أوضاع الشخصية -التي تراوحت على مدار السرد بين اليأس والأمل- عاكسا لمعاناة التهميش والاغتراب داخل الوطن الذي لم تحقق ثوراته توقعات الفرد وأصابته في النهاية بخيبة الأمل.
من هنا لم تكن البنية الدائرية التي أطّر فيها الكاتب روايته مجرد حيلة شكلية إنما كانت شكلا ملائما لما طرحته الرواية من عالم يموج بالانكسارات على المستويين الخاص والعام، فهي بنية تكشف عن أن كل حركة ما هي إلا وهم حركة -بتعبير د. صبري حافظ-؛ لأنها تعود بنا إلى نقطة البداية، وتؤكد حقيقة الدوران في أفق مسدود.
فمشهد الاستهلال الذي فتح آفاق الرؤية على بعض المثقفين المصريين فى اعتصامهم أمام مبنى وزارة الثقافة ينغلق في مشهد أخير يرصد نظرات المعتصمين التي تتنكر لحكم الإخوان فينتج الدائرية التي تدعم الإحساس بالتوهة، مع إصرار الكاتب على إنهاء سرديته بعبارة يحاول من خلالها بث روح الأمل لدى قارئه ودعوته للتمسك بالحياة أو التفاؤل بالبدايات الجديدة رغم الانكسارات المتتاليية.
“وهنا على السطوح الذي شهد أيامنا الخضراء.. تطل من السماء نجوم عادت تلمع من جديد. هناك على بُعد خطوات… أيام تبدو جميلة” (ص 92).
وهكذا حاول الكاتب في نصه الروائي ألا يقف فقط أمام ماديات المكان الذي يؤرخ له، ليحفز قارئه إلى إعادة رؤية هذا المكان بوصفه عالما متكاملا يتجاوز المادي إلى اللامادي ويحمل في طياته طبيعة المجتمع والعلاقات الإنسانية به، ورغم ثبات المكان الموصوف في السرد -حي الزمالك- فإن تبدّل الأزمنة وتغير الأحداث داخله منح الفضاء المكاني بالرواية طابعا حركيا مفتوحا وقابلا لتأويلات عدة.