حكاية تاجورية
-1-
طبيعة الحياة في الصحراء فرضتْ على البدوي الرحيل، من مكان إلى آخر، طلباً للكلأ، لأن الاستقرار موتٌ. الحكاية، أيضاً، مثل البدو الرُحّلْ، لكي لا تموت عليها الرحيل في الأرض، من بلد إلى آخر، بحثاً عن بشر تقيم بينهم، أو تعيش فيهم، ثم تتركهم لغيرهم. وهي لهذا السبب، وعلى عكس الكائن البشري، تولد بقدمين قادرتين، فورياً، على السير، لمسافات طويلة، في كل اتجاه. بعض الحكايات يولد بقدمين ضعيفتين، وقليلها يولد مُعاقاً، لكن أغلبها ما أن يرى النور حتى يسافر راحلاً في أرجاء الأرض. هذه الحكاية ولدتْ، جغرافياً، في ضاحية زراعية تسمى تاجوراء، قريبة من شاطئ البحر، على بعد كيلومترات قليلة شرق العاصمة الليبية طرابلس، ومعروفة، تاريخياً، بجودة فواكهها خاصة الرُمان والتمور. وتشتهر بجامعها الكبير، الذي بناه في القرن السادس عشر، أول والٍ عثماني في طرابلس العلج مراد آغا. وتاجوراء قلبها لا مكان به للغريب. فهي تُكرم الغرباء إذا جاؤوها ضيوفاً، وتحسن ضيافتهم. لكنّهم إن وصلوها بغرض السكن والإقامة، تعاملهم بغلظة وريبة وعداء، حتى يفرّوا هاربين بعد فترة قصيرة.
الحكاية المعنية، كما يبدو لي، ولدتُ زمنياً في فترة تاريخية قديمة نسبياً، قد تسبق فترة اكتشاف وتصدير النفط، أي في أواخر الخمسينات من القرن الماضي أو قبلها. وفي العام 2010 وصلتْ إلى مدينة لندن، حيث أقيم وأعمل. وهناك، في لندن، التقينا، ذات مساء ممطر وبارد، على غير موعد.
-2-
لو أن شمس ذلك النهار، في تاجوراء، كانت تدري بما سيحدث، لكانت يقيناً ترددت في الشروق، أو لتمنّت أن تمتلئ السماء تحتها بغيوم رصاصية، كبيرة الحجم ثقيلة الوزن، لتحجبها. ولو أن غابات النخيل الوارف، بقاماته السامقة، كانت تعرف ما الذي يحمله ذلك اليوم من توتر وأخبار مربكة مرعبة، لانكفأت بجريدها على الأرض خجلاً واحباطاً. البحر، فقط، بسبب المسافات التي تفصله عن موقع الحكاية، ظل في مأمن من الضجيج والتوتر، ومحتفظاً بهدوئه. لكن أهالي تاجوراء، في تلك السنوات البعيدة، وقبل أن تقضي على بساتينهم ومزارعهم وسوانيهم فظاظة الإسمنت، وسواد الأسفلت، وتحيلها إلى بيوت وفلل وطرق ودكاكين، كانوا يدركون تماماً ما سيحدث، قبل حتى أن تلدهم أمهاتهم، لو أن أحدهم تجرّأ مخاطراً بتجاهل ما ساد بينهم من عُرف وتقليد. وذلك الفلاح التاجوري، العالق بوَصْلة، في قمة نخلة، ذلك الصباح، لا يختلف عنهم رغم أنه كان مهدداً بالموت، ومسكوناً بخوف من مصير أسود ينتظره على الأرض، تحت النخلة مباشرة، لو أنه تجرأ ونزل منها متحدّياً.
-3-
قبل أن يتسلق بالوَصْلة لتلقيح نخلته، الواقعة بجوار بيت فلاح تاجوري آخر، قام بما تعود القيام به طوال الأعوام الماضية، بأن اقترب من الباب الرئيس للبيت، وصرخ بأعلى صوته، عبر السقيفة، منبّهاً النسوة داخله، بما ينتوي عمله، حرصاً على عدم انكشافهن له، لدى صعوده النخلة التي تطل على فناء البيت الداخلي المفتوح على السماء. لكن على ما يبدو، ضاع صراخه سُدى، لأن النسوة بالبيت إما كنّا مشغولات بأعمالهن المنزلية، أو بأطفالهن، أو.. الخ. لذلك لم يسمعن صياحه. وبدلاً من التأكد من أن تحذيره قد أوفى غرضه، التفت، على عجل، بوَصْلَتِه التي يحملها على كتفه، واتجه نحو النخلة الوحيدة التي ورثها عن جدته لأبيه في تلك الناحية، وربط الوصلة حول جذعها ووسطه، وأحكم عقدها، وبدأ التسلق بقدميه الحافيتين حتى وصل قمتها. توقف، وأخرج بيده اليمنى، من داخل كيس قماش، ما كان يحمل من بذور لقاح، واستغرق في عمله. وقبل أن ينتهي منه، ولسوء حظه، وصل صاحب البيت قادماً من السوق، فرآه أعلى النخلة. ثم دخل البيت ليطمئن على أن الأمور جرت وفقا للعُرف. فوجد النسوة يتحركن في وسط الفناء، ولا علم لهن بانكشافهن للرجل الذي يلقّح النخلة. حينها، فقط، أدرك أن شرفه، كرجل تاجوري، قد أُنتهك، وأن عليه أن يثأر له وقتياً. فرمى بجرده ونعليه على الأرض، وهرع جريا إلى فأسه الملقي في أحد جوانب الفناء، فألتقطه، وركض حافياً، إلى الخارج.
-4-
لو أن ذلك المشهد كان يعرض ضمن أحداث شريط سينمائي، في دار عرض في مكان ما، لتحركت في مكامنها قلوب المتفرجين من الإثارة، تهيؤاً للدراما المقبلة. الموسيقى التصويرية المصاحبة للمشهد، سوف تمهد لذلك، بإيقاع سريع، وباحتداد مفاجئ، يصمّ الأذان كعويل، يزيد في شدة إثارة المتفرجين، وتزايد دقات قلوبهم، وربما تفاقم ارتفاع ضغط الدم لدى بعضهم، كما حدث، تماماً، لضغط دم ذلك الفلاح التاجوري، العالق بوصلة في قمة تلك النخلة، وهو يرى، تحته، فلاحاً تاجورياً آخر، يهرع نحو النخلة، وقد طار صوابه، وبلا جرد وحافي القدمين، حاملا فأسا، متوعداً بقتله، لأنه صعد النخلة من دون أن يحذّر مسبقاً نسوة بيته، في اعتداء صارخ على شرفه العائلي، وعلى العرف التاجوري، أو هذا ما كان يظن.
المشهد الذي بدأ برجلين، تحوّل في أقل من نصف ساعة، إلى مولد كبير. إذ سرى الخبر بسرعة عجيبة، من سانية إلى سانية، حتى وصل إلى ساحة السوق، فقلب عاليها سافلها. فترك الناس ما بأياديهم من مشاغل، وهرعوا راكضين إلى ذلك المكان، بهدف حقن دم رجل تاجوري على يد رجل تاجوري آخر، يرغي ويزبد من شدة الغضب، ومقسما بأغلظ الطلاق بأنه سيشق بفأسه رأس الجاني قسمين.
-5-
انقسم التواجير الحاضرين في المشهد إلى ثلاثة. قسم من الرجال أحاطوا بصاحب البيت لتهدئته، وإسكاته. وقسم تجمع تحت النخلة لمحاولة تطمين الرجل العالق بوصلة في قمتها. وقسم ثالث ضم الشيوخ، انتحى جانباً في محاولة للبحث عن حل يجنّبهم حدوث جريمة قتل، ويمنع طلاق امرأة في آن معاً.
بعد مرور ساعات طويلة، توصل الشيوخ إلى فتوى تؤدي إلى تحقيق الهدفين. فالتاجوري صاحب البيت، كان قد أقسم بالطلاق أنه سيقتل التاجوري العالق بوصلة، في أعلى النخلة، بمجرد أن يحطّ بقدميه على الأرض. ولتجنّب ذلك، ومن دون تعريضه للحنث بقسمه، وارتكابه جريمة قتل، استقر رأيهم على أن ينزل الرجل من النخلة، على كتفيَّ واحد منهم، من دون أن تلمس قدماه الأرض، ثم يتحرك به مشياً، بعيداً عن المكان، حتى يوصله إلى بيته.