حولت سجني إلى حجرة دراسية
عقد لقاء حول المرأة في إسطنبول في بداية شهر مارس 2021. وقد طُلب مني إلقاء خطاب أيضًا. أنا حرة تماما في اختيار الموضوع. ومع ذلك، كان من السهل جدًا بالنسبة إليّ اختيار ما سأتحدث عنه. أريد أن أخبر الحضور عن امرأة أحبها كثيرًا. امرأة أحترمها كثيرا. امرأة أشعر بالسعادة عندما أفكر بها. امرأة تحفزني. امرأة تسعفني بالمعنويات عندما أكون حزينة.
هذه المرأة التي أحببتها كانت شاعرة، شاعرة بارزة. هذا ليس كل شيء. كانت من أوائل شعراء المقاومة الفلسطينية، ولم تعلن فقط عن مقاومتها في شعرها لاحتلال وطنها، بل واجهت أيضًا، وتجاوزت عرفاً سائداً. فلم يكن من المألوف أن تكتب النساء الشعر. وكانت من بين أوائل الشاعرات العربيات المعاصرات في عصر كان الأدب يهيمن عليه من قبل الذكور، ولم يكن العرف الاجتماعي ليسمح للنساء العربيات بكتابة الشعر.
لكنّ هذه الشاعرة لم تكن تكتب الشعر وحسب. فقد انخرطت في نضال الشارع الوطني ضد الاحتلال، وفي شتى أشكال الكفاح السلمي لشعبها الفلسطيني المعذب. كان هناك مخيم كبير للاجئين في مدينة نابلس. ذات ليلة تركت سريرها وذهبت لزيارة ذلك المخيم دون أن تخبر أحداً. وهناك في أحد البيوت رأت أشخاصًا يجلسون في الظلام بسبب انقطاع الكهرباء، ويختبئ الأطفال تحت بطانية صغيرة. بعد هذه الزيارة بوقت قصير، كتبت قصيدتها الجديدة “يا الله لقد كانت رحلة طويلة لي/اختصر طريقي وأنه رحلتي الآن”.
تلك المرأة الملهمة كان اسمها فدوى طوقان. لطالما أحببت التفكير في القصص البشرية. خاصة قصص أناس يمكن أن يكونوا على طبيعتهم بالرغم من الصعوبات العديدة التي يواجهونها. قصص أناس لا يتوقفون عن القتال. من أين بدأوا؟ وكيف بدأوا؟ وما طبيعة المغامرة التي لديهم؟ في تجارب النساء، عادة ما يتم إخفاء الكثير من القصص. على أن رحلتي مع فدوى طوقان أكسبتني أعمق المشاعر التي عشتها على الإطلاق. بينما كنت أقرأ، انتابتني شتى المشاعر. أحيانًا أبتسم وأحيانًا أبكي. شاعرة متعددة التجارب. قصص كثيرة كانت مخبأة في قصتها. وكانت تفاصيل كثيرة مهمة في مغامرتها.
من أكثر الأشياء التي أثارت إعجابي هي قصتها مع شقيقها إبراهيم. لقد أثرت قصة الأخوة هذه في نفسي كثيراً. ولاسيما كلام فدوى طوقان الذي قالته لأخيها بعد سجنها المنزلي “لقد حولت سجني إلى فصل دراسي. لقد حولت زنزانتي إلى حديقة ورود”.
جاء آل طوقان من الأردن واستقروا في نابلس في القرن الثاني عشر وكانوا عائلة قوية لعبت دورًا مهمًا في التاريخ الفلسطيني. ولدت فدوى كطفل سابع للعائلة، قبل وقت قصير من إعلان وعد بلفور، مذكرة إعدام الشعب الفلسطيني، في عام 1917. كان مئات الآلاف من اليهود يستعدون للهجرة إلى الأراضي الفلسطينية. من ناحية أخرى، بدأت أصوات التمرد ضد الانتداب البريطاني تتعالى منذ عام 1917 وظلت مستمرة في الارتفاع. شقيق فدوى، الشاعر إبراهيم طوقان، كان يكبرها بـ12 عامًا، وكان من أهم الشخصيات في مقاومة الاستعمار البريطاني.
بعد دراسته في الجامعة الأميركية في بيروت، بدأ إبراهيم طوقان العمل كمدرس في نابلس. أثناء وجوده في بيروت التقى بالعديد من الشعراء وشارك في مظاهرات مؤيدة للاستقلال. في المدرسة التي عمل فيها، كان هدفه الأكبر إلى جانب تعليم طلابه تاريخ الأدب العربي تلقينهم مبادئ الوطنية. وكان يشارك محادثاته مع طلابه والقصائد التي كان يكتبها مع أخته الصغيرة فدوى بحماس كبير. كان الشقيقان يتحادثان لساعات دون ملل. هناك حادثة وقعت لفدوى في السنوات التي بدأت فيها المراهقة عززت علاقتها بأخيها. فعندما كانت في طريقها من المنزل إلى المدرسة. ذات يوم، التقت بصبيّ يكبرها بسنتين أو ثلاث وكان هذا الصبي يعتني بها. وكلما صادفها بعد الخروج من المدرسة كان يتبعها إلى المنزل. واستمر على هذه الحال زمنا، وكانت في نظراته لها عن بعد شيء من الخجل. إلى أن جاء يوم وتقدم منها وأعطاها حفنة من الياسمين. سمعت العائلة بهذه العلاقة البريئة، واندلعت ضوضاء كبيرة في منزل آل طوقان ومنعت فدوى من الذهاب إلى المدرسة أو حتى مغادرة غرفتها إلا إذا لزم الأمر. وهكذا حُكم عليها بالسجن المؤبد.
خلال كل هذا الذي حدث لفدوى، كتب شقيقها إبراهيم، الذي كان في منفاه البيروتي، رسالة إليها بمجرد علمه بحالتها المستجدة. شيء ما لفت انتباهه في محادثاته مع أخته. فكلما كان يقرأ القصائد التي كتبها طلابه، كانت فدوى تستمع إلى أخيها باهتمام كبير ثم تفسر القصائد في ذلك الوقت. ومضت في ذهن إبراهيم طوقان فكرة أن يعلم أخته كتابة الشعر. كان يعلم أنه من الغريب أن تهتم المرأة بالشعر في ذلك الوقت، لكن إبراهيم طوقان لم يهتم بهذه القواعد.
نصح إبراهيم فدوى بقراءة الكثير حتى تتمكن من الاستفادة من الوقت الذي تقضيه في غرفتها. وأخذ يرسل لها من بيروت دواوين الشعراء العرب المهمين. لم تعد فدوى تشعر بالملل، وباتت تقضي كل وقتها في القراءة بشهية كبيرة. عندما طلب منه شقيقها أن تكتب قصيدتها الأولى، ارتجفت يداها واحتضنتا الورقة، وأرسلت قصيدة قصيرة أضافتها إلى رسالتها إليه في بيروت. فيما بعد أتبعتها بقصيدة أخرى وأرسلت بها إليه.
كتب إبراهيم طوقان إلى فدوى من بيروت رسائل كانت عبارة عن صفحات عديدة. فسر فيها لها قصائدها وشجعها بقوله إنه قرأها لأصدقائه في بيروت. كانت بيروت وجهة شهيرة للشعراء العرب في ذلك الوقت، وبدأت القصائد التي أرسلتها فدوى إلى إبراهيم من غرفتها في نابلس تحت اسم “دنانير” في الانتشار. قصائدها الأولى كتبتها بنسب كلاسيكية، لكنها سئمت من ذلك، وبدأت في الكتابة ببحور حرة، وقافية غير منتظمة، وهذا أضاف فرقا، إلى شخصيتها الشعرية. ومع هذه الخطوة الجديدة لم تكن فدوى متأكدة بعد من أن ما كتبته كان شعراً مهما حقًا وكانت تخشى استخدام اسمها “دنانير”. ومع ذلك، فقد بدأ شقيقها بالفعل في نشر قصائدها ذات النزعة الفنية الجديدة في المجلات الأدبية. وعندما تلقت نسخة من المجلة التي نُشرت فيها قصيدتها الأولى، قرأت فدوى ما وصلها والدموع تترقرق في عينيها.
وبينما هي تواصل الكتابة بجهد وجدّ كبيرين، كان شقيقها إبراهيم في المستشفى في القدس. كان يعاني من مرض في معدته لفترة طويلة. أصدقاؤه في القدس لم يتركوه وحده. إبراهيم طوقان، الذي لعب دورًا كبيرًا في التمرد بين عامي 1936 و1939 بقصائده الوطنية، كان شخصًا لا يتمتع بهويته المقاومة فحسب، بل أيضًا بأخلاقه الحميدة وشخصيته القوية. كانت غرفة المستشفى مزدحمة كل يوم. سوف يتحسن ويستمر في الكتابة. الجميع في حاجة إليه. لقد احتاجوا إلى أفكاره وصداقته وكتابته. كل أصدقائه كانوا يعتقدون ذلك. كان وطنه فلسطين يمر في لحظة تاريخية حاسمة، لم يشعر إبراهيم طوقان أن عليه ترك ما كان يقوم به، كانت المهمة الأكثر أهمية للشعر هي جمع الناس معًا وتشجيعهم على أن يكونوا قلبًا واحدًا في مواجهة الاحتلال والتحديات الناجمة عنه. وكان إبراهيم يفعل ذلك في شعره. وكان يحزم أمتعته ليخرج من المشفى ويستأنف من حيث توقف. صدقه جميع أصدقائه. ومع ذلك، في صباح يوم الـ2 من مايو 1941، زاره أحد الأصدقاء ووجد سريره فارغًا. لسوء الحظ، لفظ إبراهيم طوقان أنفاسه الأخيرة في سن الـ36 في المستشفى حيث كان يقيم. عندما وصل هذا الخبر المأساوي الجديد إلى نابلس، كان هناك حداد كبير ليس فقط في منزل آل طوقان ولكن في جميع أنحاء المدينة. شخص واحد كان أكثر حزنا وبؤسًا من أيّ شخص آخر، إنه فدوى. كانت خسارة لا تعوض لها. لقد فقدت شقيقها، مدرسها، صديقها، رفيقها، كان إبراهيم هو كل شيء لهذه الفتاة التي أصبحت يتيمة حقاً بسبب فقد إبراهيم.. بكت طوال الليل، حزنها لا يوصف.
عاشت فدوى حياة مديدة. بعد حلول الظلام، تراجعت إلى غرفتها وعزفت على العود عند حافة النافذة في ذلك الفناء الكبير، نافذة مطلة على الخليج في منزل والدها في نابلس، حيث قضت معظم حياتها. ولدت في أسرة عربية أرستقراطية ووطنية. اضطررت إلى ترك المدرسة. اختلط الحب عندها بالخوف. شقيقها إبراهيم الشاعر الكبير الذي توفي في عز رجولته لم ير قيام دولة إسرائيل. لكن فدوى سوف تشهد كل شيء: قيام إسرائيل، مذبحة دير ياسين، والحرب العربية الإسرائيلية 67، ومجزرة صبرا وشاتيلا، والانتفاضة الأولى. لقد شهدت دماء ودموع شعبها ومقاومته العظيمة. عاشت في مدينة نابلس، حيث ولدت وترعرعت وشهدت الاحتلال. رأت مصير أشجار البرتقال في حدائقها وقد احترقت، وأشجار الزيتون العزيزة قد قُطعت، لكنها لم تتوقف أبدًا عن الكتابة وإشهار صوتها صوتاً لمأساة شعبها.
فدوى طوقان التي مرت عبر هذا العالم، هي الشاعرة والإنسانة الملهمة التي تمنيت أن التقي بها، أن أستمع إلى صوتها يتردد في حديقة منزلها في نابلس أو في مكان آخر. ربما كانت تخبرني بالعديد من القصص التي لم أكن لأعرفها لولا أنني التقيت بها. الكثير من القصص التي لا أعرفها والتي ستذيب قلبي وأنا أستمع.