حول التجربة
تجربتي في كتابة القصة القصيرة بدأت منتصف السبعينات الميلادية، وهي المرحلة الزمنية التي شهدت حضور القصة القصيرة كفن أدبي تجاوز سذاجة الحكاية المسرودة بغرض التسلية إلى صياغة تلك الحكاية لتصبح قصة ذات تقنيات فنية عالية ودلالات إنسانية رحبة.
تشكلت تجربتي ضمن تجارب العديد من كتاب القصة في تلك المرحلة، كنا مجموعة حالمة من المتمردين على جمود الواقع الأدبي، كان عبدالعزيز مشري، سليمان سندي، عبدالله السالمي، جبير المليحان، جارالله الحميد، محمد علوان، عبدالله با خشوين، حسين علي حسين، محمد الشقحاء، محمد قدس، عبدالله با محرز، وغيرهم.
مرحلياً، جاء جيلنا بعد رواد القصة من أمثال الكبار أحمد السباعي، إبراهيم الناصر، حامد دمنهوري، عصام خوقير، وغيرهم ممن أشرعوا نوافذ السرد في أوائل الستينات.
ظل الخواء يلف الساحة الأدبية المحلية لدرجة الانقطاع وعدم التواصل مع الإبداع العربي والعالمي، كانت الساحة الأدبية المحلية الراكدة تحاصرها رياح التجديد في مجال السرد من كل فضاءات العالم وتمطر علينا بأسماء كبيرة ومضيئة كنجيب محفوظ، وعبدالرحمن منيف، ويوسف إدريس، وزكريا ثامر، وحيدر حيدر، وحنا مينا، وغيرهم من الأسماء المشرقة في تاريخ الإبداع العربي الحديث.
كان المبدع المحلي يتكبد عناء السفر، يخبئ في حقيبته وبين ثيابه عند عودته ليمرر ما تيسر من إبداعات تشيخوف، ودوستوفسكي، وهيمنغواي، وكامو، وكافكا، وموبسان، وماركيز، وغيرهم من كبار المبدعين في العالم.
كنت أقرأ لهؤلاء بشغف مستعيراً بعض مؤلفاتهم من الأصدقاء، أو من خلال سفري إلى القاهرة، أو إلى دمشق، حيث كنت أخصص معظم وقت إجازتي لقراءة ما أستطيع من تلك المؤلفات العظيمة، ثم أعمد لتركها في غرفة الفندق ليقيني بأن المراقب الصحوي عند عودتي سيصادرها بدم بارد!
لقد واجه جيلنا (جيل السبعينات) بكل تنوعه الفكري والثقافي ضربات موجعة من طرف المتشددين الذين كانوا يسيطرون سيطرة مطلقة على المؤسسات الثقافية، وقنوات الإعلام في بلادنا، ذلك الفكر الأحادي الممعن بإقصائيته وانعزاليته حد من توثب التنويريين بمختلف توجهاتهم الثقافية والفكرية وتعمّد التشكيك في نواياهم الوطنية وإعاقة طباعة أعمالهم وحرية التعبير عن آرائهم وتطلعاتهم المستقبلية.
لم يكن همي في تلك المرحلة أن أصبح كاتب قصة قصيرة فحسب، أو أصدر كمًّا من المؤلفات الأدبية، بل كان جل اهتمامي هو نشر وتفعيل ما يتصل بالإبداع الجديد المخالف لما هو سائد وراكد في الساحة الثقافية المحلية، كما كنت مهتماً بكتابة الزاوية الصحفية وإجراء الحوارات الأدبية التي تصب جميعها في دائرة الهم الثقافي، وقد تحقق لي بعض ذلك عبر صفحات الملحق الثقافي في مجلة “اقرأ” الذي كنت أشرف على تحريره.
كنت مهتماً كمحرر ثقافي بنشر أطياف مختارة من النماذج الطليعية للإبداع المحلي والعربي والعالمي بأمل تحريك ساحتنا الثقافية من ركودها وانقطاعها عن الاتصال والتفاعل مع الإبداعات العربية والعالمية التي سبقتنا تجربةً وزمناً.
وكانت في تلك الفترة (منتصف السبعينات) تصدر ملاحق ثقافية جادة ذات توجهات تجديدية في كل من: جريدة الرياض، والجزيرة، واليوم، والمدينة، وعكاظ. وكان للناقدين شاكر النابلسي ومحمد الشنطي دور كبير ومشكور في مواكبتهما النقدية للحراك الثقافي والأدبي المحلي، بحيث أصبحت مؤلفاتهم في هذا المجال تعد من أهم المراجع لدارس الأدب الحديث في المملكة.
كانت الصحافة الأدبية في تلك المرحلة مهتمة بتسليط الأضواء على قضايا المسرح والسينما وكل الوسائل التعبيرية العصرية من سرد وشعر وفن تشكيلي. وأذكر أنه كانت لدينا في جدة بحارة المظلوم وحارة الشام صالات عرض سينمائية بدائية، وهي عبارة عن أحواش كبيرة تعرض بداخلها أهم الأفلام المصرية، ويحضر لمشاهدتها الكثير من أهالي جدة، ولكن التيار المتشدد -بحكم هيمنته على منابر التعبير- أغلق تلك الدور المتواضعة، وأغلق معها كل منافذ التغيير والتنوير.
توقفت في تلك الفترة عن كتابة القصة وعن غيرها من الكتابات في الصحافة الأدبية لسنوات طويلة إلى أن أقنعني صديقي العزيز القاص سعود الجراد بطباعة مجموعة قصصية جمع بجهده نصوصها وأطلعني عليها وصدرت عن النادي الأدبي بحائل في عام 2008 بعنوان “رياح وأجراس″، وقد حظيت تلك المجموعة باهتمام نقدي مشجع ما حفزني على إنجاز مجموعتي القصصية الثانية. وأثناء البحث في أرشيف مكتبتي لإعداد نصوص مجموعتي الجديدة وجدت ملفاً يضم أكثر من ستين قصة تكفي لإصدار ثلاث مجموعات قصصية دفعة واحدة، وكان بعضها يمثل بدايات تجربتي التي لم تتحرر من أسر التجريب.
اقتنعت وأنا أنتقي نصوص المجموعة التي صدرت في العام 2011 عن “النادي الأدبي بالرياض” بعنوان “مساء مختلف” بأنه ليس كل ما يكتبه الكاتب في شتات الصحف جدير بنشره بين دفتي كتاب، كما أن غزارة الإنتاج بمعيارها الكمي لا تشكل عندي هاجساً مؤرقاً، مع إيماني بأن غزارة الإنتاج تبقى مهمة ومؤثرة إذا كان المنتج الأدبي أو المعرفي نوعياً وليس مجرد كم يعلوه الغبار ويملأ أرفف المكتبات.