حول العالم في قصيدة
وأنت تقرأ شعر صلاح فائق تحس أنك لا تقرأ قصائد، بل أنت تتهجى منفى متجددا، منفى غريب الملامح، غريبا بكامل أشيائه، بنوارسه وشطآنه، بمبانيه وشوارعه وقواربه ونسائه وحيواناته وسمائه.. الخ.
صلاح فائق شاعر يتعامل مع عالمه في كل طرفة عين بشكل مختلف، فنجده ذلك الشاعر الغريب في كل نصوصه، غريب هو بين كل شيء وكل اسم وبين كل مفردة وأخرى حتى أنه لا يستعمل لها تعريفا.
هنا تتأكد عندنا غربة الشاعر في عالمه ومنفاه، حيث حتى العراق وذكريات الطفولة وما يسترجعه الشاعر لا يحمل تعريفا لا بألف ولام ولا بنعوت ولا بغيره، فقط هو يكتفي بنحت غربته، بسخرية حياتنا، ويقدمها لنا في دهشته التي ينقلها إلى قارئه طازجة كما هي، ودون زخرف أو تجميل، فهو يستخرج الشعر من كل شيء، هذا ما يجعلنا إزاء قصائد برية، تحفّزنا على اكتشاف عالم الشاعر مع الشاعر نفسه، هذا الشاعر الذي لا يقدم لنا حقائق أو وصايا، فهو ليس وصيّا على قارئه، هذا الشاعر الذي لا يرشدنا ولا يجرنا خلفه قائدا نصه، بل يجعلنا معه في نفس الخط حيث يصطف هو وقارئه ونصه ثلاثتهم معا يتحركون في فضاء عوالم غريبة حتى وإن كانت أليفة، ففائق يجعل من كل تفصيل وكل مكون من هذا العالم محل شك وريبة، محل جمالية ما ودعوة إلى تفكيكه وإعادة تركيبه مع عناصر أخرى كأن يدمج جبلا ببحر أو سفينة بشجرة..
لا يفكر صلاح فائق كثيرا في بناء قصائده، بل قصائده تبدأ فقط دون أن تنتهي، تبدأ من تفصيل بسيط من حياة الشاعر، لتذهب إلى أبعد ما يمكنها في تهجي تفاصيل أخرى تنشئ من خلالها مبنى لعالم يبدو للوهلة الأولى اعتباطيا وفوضويا، ولكنه متسق برؤية الشاعر وحدها، تلك التي نلهث خلفها بلذة الاستكشاف والكشف عن الشعر الكامن في أبسط العناصر وأكثرها اعتيادية.
ولعل تعويل صلاح فائق على بنية المقاطع في نصوصه هو بمثابة محطات لقارئه لإعادة التفكر فيما مر به من أسطر شعرية، أو هي راحة من اللهاث خلف سحر الصورة، والصورة التي يشكلها لا تعتمد على بلاغة أو إضافة شعرية أو نعوت، صورته مشاهد تكونها أسماء نحيفة متجردة من كل ما يثقلها من زيادات لغوية، لذلك تطير بنا لنتفاعل مع نصه، نص الشاعر كائن حي يمكنك الانجذاب إليه، يمكنك الانبهار به، يمكنك كرهه، يمكنك محاولة معانقته والطبطبة على ظهره، أو الانزعاج منه ومحاولة خنقه. ولا نجد نجاعة لشاعر أرقى من أن تجعل من القصيدة كائنا له ذاته وصفاته، له إنسانيته هو الآخر. وهو في ذلك يسعى أن تكون نصوصه صادقة إلى أقصى درجات صدقها، منطلقة من الواقع ومن الأنا، لكنها ليست الأنا المركزية المعتادة تلك التي يتمحور حولها العالم، يستلهم من كل تفاصيل حياته بجرأة عالية ليقدم لنا ذاته كما هي، بانيا جسر ثقة وتواصل مع قارئه أينما كان، إذ لا يخفي عنه شيئا تقريبا، وبهذا يتمكن فائق من إمساك يد أي قارئ في أي مكان من هذا العالم ليمشيا معا انطلاقا من المنفى إلى الطفولة والعراق المريض، إلى الوطن العربي وكل أصقاع الأرض ومساحة السماء. إنه يمشي مع قارئه حول العالم في قصيدة.
صلاح فائق كما أثبتنا شاعر يحمل منفى دائما بكلماته، هو في قصائده غريب كما قلنا، قاس في أحيان كثيرة، مستهتر بعمق، هو الشاعر الساخر من كل شيء من عالم المادة، من الصباحات التي تزف العمال إلى التعب، ساخر من المدن والقرى من الزيف الإنساني ومن الحرب، ضاربا عرض الحائط بالنظم الأخلاقية والقوانين التي لا تطبق إلا على الضعفاء. لكن كل هذا لا يجعل منه تلك الشخصية الباردة التي تتقن أن تكون حوذيا للكلمات ومن خلفها القراء بصمت إلى لذة المجهول، بل هو يحمل رهانا جماليا لإنسان عراقي، عربي، كوني.. إنسان يريد أن يكون أكثر إنسانية
*شاعر من تونس