حول اللانهاية
المخرج السويدي روي أندرسون من المخرجين المقلين جداً فهو لا يملك حتى هذا اليوم سوى ستة أفلام روائية طويلة بدأها عام 1970 ثم توقف لأكثر من 25 عاما. وربما يعود الأمر لانهماكه الكبير في صناعة الإعلانات التجارية والتي يموّل منها أفلامه أيضاً على الرغم من أنه قدم العديد من الأفلام القصيرة وفيلمين وثائقيين. يتميز بأسلوبه الخاص الذي برز بوضوح منذ فيلمه “حمامة تجلس على الغصن تتأمل الوجود”.
قبل اختيار السينما كوسيلة مفضلة له كان أندرسون يرغب في أن يكون مؤلفا أدبيا. بدت الكلمة المكتوبة أكثر مهارة لافتتانه بالخطاب الفلسفي وتاريخ الفن. فاز فيلمه “أغاني من الطابق الثاني” بجائزة لجنة التحكيم في عام 2000، وكان مستوحى من قصيدة لشاعر بيرو سيزار فاليخو وهي البداية لثلاثية المخرج السويدي وأعقبها بالجزء الثاني وهو فيلم “أنت… الذي تعيش” عام 2007 وختمها بالفيلم الحائز على جائزة الأسد الذهبي لمهرجان فينيسيا في دورته الحادية والسبعين عام 2014 “حمامة تجلس على الغصن تتأمل الوجود”. في أفلامه السابقة يشخص المخرج السويدي حالة تجرد البشر من إنسانيتهم بعد أن طحنتهم قسوة الحياة وظروف العمل الشاق في الأنظمة الرأسمالية وفي فيلمة “حول الخلود” أو “حول اللانهاية” الذي عرض في مهرجان البندقية عام 2019 وفاز بجائزة الإخراج ونفذه بشكل سلسلة من المشاهد القصيرة ذات الصلة ولكن ليست بالضرورة متصلة، كل منها تم تصويره بكاميرا ثابتة وهي سلسلة من التابلوهات يصور فيها الحالة الإنسانية بحيث يتم تصوير كل مشهد تقريبا بالكامل من وجهة نظر ثابتة. أراد المخرج أن يصنع فيلما من مجموعة من القصص والمواقف التي لا تنتهي أبدا، لهذا السبب أطلق على فيلمه اسم “حول اللانهاية” أو “حول الخلود”.
المشهد الافتتاحي لفيلم روي أندرسون “حول اللانهاية”
يبدأ الفيلم بصورة جذابة لرجل وامرأة يحلقان عبر سماء رمادية غائمة تقتبس من لوحة مارك شاغال لعام 1913 “فوق المدينة” أصابها الخراب بعد أن دمرتها الحروب. بعد تسلسل العنوان، يلاحظ زوجان يجلسان على مقعد في الحديقة قطيعا من الطيور يطير إلى المناخات الأكثر دفئا. كعب حذاء امرأة ينكسر وهي تدفع عربة أطفال عبر محطة قطار. أب يتوقف لربط حذاء ابنته تحت المطر الغزير أثناء سيرهما إلى حفلة عيد ميلاد. رجل يبكي وهو يحمل ابنته الميتة بعد قتلها في جريمة شرف. الكاهن الذي فقد إيمانه بالله، تقوم ثلاث شابات برقصة مرتجلة على أنغام الموسيقى لعدد قليل من رواد البار. وربما يجب أن نكون سعداء لكوننا على قيد الحياة. زوجان يضعان الزهور على قبر ابنهما. امرأة تنتظر شخصا ما في محطة قطار. ينتهي الفيلم بعودة الطيور المهاجرة، كما لو كان يردد سؤال شيلي “إذا جاء الشتاء، فهل يمكن أن يكون الربيع متأخرا كثيرا؟”. انظر كيف يركع الأب في الوحل ويدمر ملابسه الخاصة، أو كيف يؤكد الزوجان لابنهما الميت أنهما سيعتنيان جيدا بمخلفاته حتى لا يحرج أمام زملائه في القبور. في نهاية المطاف يقترب رجل من المرأة في المحطة. لا تبدو سعيدة جدا برؤيته. من المشاهد الأخرى التي تتسم بالسريالية مثل مشهد رجل يجلس وحده على طاولة في مطعم يقرأ صحيفة يقف بجانبه نادل يرتدي سترة بيضاء ويحمل زجاجة من النبيذ الأحمر. الرجل يتذوق القليل من النبيذ وحين يبدأ النادل في الصب يسهو وينسكب النبيذ فيلطخ فرش المائدة ناصع البياض. يمسح النادل النبيذ الذي انسكب بمنديله يحاول محو جريمته لا يتم نطق كلمة واحدة في هذا المشهد. لكن التعليق الصوتي بصوت أنثوي (جيسيكا لوثاندر) يلخص ما يجري “رأيت رجلا عقله في مكان آخر”. الراوية تستخدم ملخصات وصفية مقتضبة وبهمس تروي “رأيت امرأة تحب الشمبانيا”، أو “رأيت رجلا ضل طريقه”.
الفيلم يشكل مجموعة من اللوحات الحية التي تم تقديمها بشكل مكثف تصور تفاصيل الحياة اليومية بكل مجدها الدنيوي والحياة الأبدية التي وعدنا بها في العقيدة هي بالنسبة إليه ديمومة فنه. إذا كرس حقائقنا غير القابلة للتصرف والبؤس المرتبط بها، يطلق أندرسون النار على الخلود من خلال صنع أفلام في خدمة التجربة الإنسانية، يصرح بهذا الخصوص “إذا لم نثق في الإنسانية فإننا نضيع”. “الفن هو الدفاع عن الإنسانية”، ولهذا السبب يصنع أفلاما بأسلوبه المتميز لأنها تمثل مشاهد مضحكة ومأساوية ومؤثرة في إطارات أندرسون المصممة بدقة. في المقاهي وغرف النوم والمكاتب وزوايا الشوارع المكتظة بالأبيض والرمادي الصامت، والجدران عارية في الشقق البائسة في المدينة. يتكاثر اللون الرمادي والأبيض كما لو أن الألوان فقدت بريقها في العيش في هذا المناخ البارد مع شخصيات (معظمها من غير المحترفين) يشاركون في رسم لوحات تشكل صورة من انعدام الأمن والشك والإحباط والهشاشة. السماء في ستوكهولم ملبدة بالغيوم أو شاحبة وتخيم على بعض المشاهد العتمة. الكلمات الأولى التي تنطق على الشاشة من امرأة تشاهد مع رجل بينما يختفي سرب من الطيور المهاجرة، “إنه شهر سبتمبر بالفعل”، ومع تقدم الفيلم يخيم فصل الشتاء وعند الاقتراب من نهايته نصل إلى مشاهد تساقط الثلوج بهدوء.
الشخصية الرئيسية التي تتكرر أكثر من مرة لكاهن (مارتن سيرنر)، نشاهده في أول مرة حين يطارده كابوس يظهر وهو يحمل صليباً خشبيا ثقيلا يسير في شارع جانبي في المدينة ويتعرض للجلد والبصق من قبل مجموعة من رجال غوغائين يرتدون ملابس عصرية، وهو يتألم ويصيح “ماذا أفعل الآن بعد أن فقدت إيماني؟”. ولكن يظهر فيما بعد في عيادة طبيبه يائسا للحصول على المساعدة، (الطبيب النفسي لديه حافلة للحاق بها ولا يمكن أن يكلف نفسه عناء الإجابة) وكل ما يمكن أن يقدمه له الطبيب هو توصية بالعودة مرة أخرى الأسبوع المقبل، يشعر الكاهن باليأس والخذلان ويرد “أنا آسف”، وترد عليه موظفة الاستقبال “نحن على وشك الإغلاق”.
نشأ المخرج روي أندرسون في أسرة لوثرية ومن خلال هذه الشخصية يرسم صورة غير جذابة لزعيم روحي وهو الكاهن الذي فقد إيمانه، وفي مشهد آخر يبتلع الكاهن النبيذ المقدس قبل مواجهة رعيته، ويتمتم بالدموع، نفس السؤال الثاني الذي طرحه على زوجته ومعالجه. ماذا علي أن أفعل الآن بعد أن فقدت إيماني؟”. يتحدث المخرج عن هذه الشخصية ” ربما يمكنك القول إنه الشخصية الرئيسية الوحيدة في الفيلم ولديه الكثير من الأشياء ليحملها على كتفيه!، إنه يتحدث عن الله دون أن يصدق. لذلك لديه الكثير من الاحتمالات (كشخصية ) أنا لست متدينا. أريد فقط أن أصف كيف يتصرف الناس. لكنني أحترم المتدينين ومعتقداتهم”.
يجسد الفيلم غياب الروح عن عالمنا وهروبها منا، حين انعتقت وتحررت من المادة بعد أن أضحى الإنسان غير مبال بما هو روحي ليتحول الجسد بذلك إلى آلة كما أقرّ ديكارت. هناك مشاهد من العبثية ومشاهد من الخسارة وهناك مشاهد من الألم، وبطريقة أكثر وضوحا بكثير من أيّ من أفلام أندرسون السابقة، هناك مشاهد من الفرح، مشاهد جعلها أندرسون بالفعل ذات أهمية متساوية تقريبا. جنود مهزومون، رجل يبكي في حافلة، طبيب أسنان ساخط، قاتل يقتله الندم وحتى هتلر في مخبئه يواجه الدمار المنهار بسبب طموحه الشرير. ومع كل هذا، هناك إشارات حب وإخلاص لأب يربط أربطة حذاء ابنته تحت المطر الغزير. وهناك الفرح الخالص للشابات اللواتي يرقصن خارج حانة ريفية.
يظهر المشهد الافتتاحي السريالي ليس فقط أطلال المدينة التي مزقتها الحرب بل زوجين شابين يحلقان فوقها في عناق جوي وهذا هو الحب والموت المتشابكان في جسد واحد وهي الصورة الأكثر ديمومة في الفيلم لرجل وامرأة يرتديان ما يبدو أنه فستان القرن التاسع عشر أو أوائل القرن العشرين، هما عاشقان محلقان فوق مدينة جميلة كان تم تجديدها لكنها الآن تم تخريبها بفعل الحرب… ملفوفان في ذراعي بعضهما البعض، يطوفان عبر السماء الرمادية العالية فوق منظر المدينة. السرد الصوتي ينساب عن طريق صوت المرأة الذي قدمه المخرج، تشرح صديقنا الراوية (شهرزاد) ما نراه، لدرجة أنه يمكن تفسيره “رأيت زوجين، عاشقين، يطوفان فوق مدينة تشتهر بجمالها ولكنها الآن في حالة خراب”. وسنرى أيضاً شاباً وحيداً لم يعثر على الحب رغم أن هناك فتاة تروي شجرة أوراقها ذابلة تبدو كأنها على طريق الاحتضار، فهل هناك علاقة بين الشاب والشجرة؟ فينظر لها الشاب بحب وكأنه يقول “أنا من يستحق رعايتك، أنا في حاجة إلى من تحبني وترعاني وليست تلك النبتة”، كما أن المشهد يعكس ثقافة الشاب من خلال وقوفه أمام واجهة المكتبة، وعلى مدار الفيلم يمر الكاهن بأزمة إيمان يمكن أن يرتبط بها العديد من الأشخاص الأتقياء السابقين. في الكثير من الأحيان بالنسبة إلى الأشخاص المؤمنين، يساعد إيمانهم في تشكيل هويتهم، وعندما ينهار إيمانهم، يضطرون إلى التساؤل من هم الآن. هناك ثلاثة وثلاثون مشهدا مع موسيقى بيتهوفن، وصف المخرج أندرسون شريطه السينمائي على أنه “مجموعة من القصائد القصيرة عن الوجود”. وقال أندرسون بشكل صريح “أنا لست شخصا متشائما ولكن الحقيقة هي: لا يوجد أمل”. وفي الواقع الفيلم بأكمله هو نوع من المقطوعات الشعرية – السينمائية التي تعرض أفضل في الإنسانية وأسوأ ما فيها. في المشهد الأخير يظهر رجل تعطلت سيارته على طريق ريفي معزول يبدو أنه يمتد إلى ما لا نهاية في المسافة. وهكذا فإن هذا الفيلم لا ينتهي بقدر ما يتوقف فقط مما يتركنا غارقين في التعسف هنا والآن في رحلتنا عبر الأبدية، وكلها تبدو بطريقة أو بأخرى مناسبة تماما لعمل عن اللانهاية. الحياة الأبدية التي وعدنا بها في العقيدة هي بالنسبة إليه ديمومة فنه. إذا كرس حقائقنا غير القابلة للتصرف والبؤس المرتبط بها. يطلق أندرسون النار على الخلود من خلال صنع أفلام في خدمة التجربة الإنسانية. ماذا تعني لك كلمة “لا نهاية “؟، أجاب محرر مجلة “صورة وصوت” قائلاً “لا نهاية لها؟ أعني أن الوجود وكما يقول الشاب في الفيلم (الطاقة هي كل شيء لا يمكن تدميرها ويمكن تحويلها إلا إلى أشكال أخرى). لهذا السبب يقول لصديقته إنه يمكنك أن تكون طماطم أو بطاطس. لكن لا يمكنك تدميرها. يجب أن تكون هناك. وربما سيكون بطاطس، لكن هذا أفضل من لا شيء”.
يتوافق أندرسون مع ميوله نحو الفن التشكيلي لذا يعمل جاهداً لجعل كل مشهد يخرج مثل اللوحة. ولكن على غرار اللوحة هناك قيود على المشهد لأنها تضع المشاهدين في لحظة زمنية محددة. كل مشهد هو لوحة وكل لوحة لها تفاصيل خفية. يتم فصل تأطير أندرسون عن قصد مما يلفت الانتباه إلى تفاصيل الخلفية التي تشير إلى السياق والرمزية والشخصيات التي تحيط بالموضوع الأساسي، نحن نرى عواقب الأشياء في الكثير من الأحيان أكثر من الأشياء نفسها، مثل الندم الفوري المتجذر في روح الأب جراء قتله المروع لابنته بداعي الشرف أو الحزن المستمر على والدي ضحية الحرب وكذلك شخص ما يجر صليبا فوق تلة شديدة الانحدار بينما كان السكان المحليون الغاضبون يضربونه وتبين أنه حلم الكاهن الذي يطارده كاشفاً خطورة فقدان إيمانه.
يوثق أندرسون الشخصيات التي تغرق تحت وطأة العزلة والاكتئاب واليأس والملل. كذلك نرى امرأة شابة تهبط من القطار بحقيبة سفرها فلا تجد أحداً في انتظارها، بينما قبلها بقليل قد هبط رجل وجد في انتظاره دفء الحب الذي غمرته به زوجته وطفلته. كما يوثق الشخصيات التي تتأثر بالحب غير المشروط والرومانسي ومن دون أن يغفل المخرج – المؤلف توابع الحرب وآثارها، فهناك أبوان فقدا ابنهما في الحرب، في حين أن الماضي والحاضر يتداخلان في الكثير من الأحيان، يجمعان المشاعر الإيجابية والسلبية حسب الرغبة.
يمكن القول إن نوايا أندرسون واضحة منذ البداية. في الحياة، نشهد الخير والشر، والجمال وعدم الرضا، والرتابة والغبطة المرتبطة بالحياة، بالنسبة إلى أندرسون فإن مأساة مرور الوقت وتغيير الحياة هي نوع من القفز إلى تجارب عدد قليل من الشخصيات المختارة التي تواجه خياراتها الخاصة والحقائق الحالية. كاهن لديه كوابيس لإعادة تمثيل الآلام، يستيقظ ليدرك أنه فقد إيمانه بالله. إنه تجاور مذهل وحتى مقلق بعض الشيء أن نرى هذا النداء الصارخ على الشاشة، وبهذه الطريقة نفترض الدوافع الإنسانية في إخواننا البشر فقط ليتم تذكيرنا بأنه في الواقع، يجلس جنود حقبة الحرب العالمية الثانية مكتئبين في غرفة مؤتمرات تعرضت للقصف فقط لرفع ذراعهم بالكاد في التحية عندما يدخل هتلر (نعم، هتلر) الغرفة لمسح الأضرار. يستوعب الرجال اللحظة كما نفعل، وينظرون حولنا لاستيعاب كل شيء، ويتساءلون عما حدث وما سيحدث بعد ذلك. نادرا ما يختلف عمل المخرج السويدي روي أندرسون من فيلم إلى آخر حيث تشكل كل منها من مجموعة من اللوحات المصورة بدقة.
فنانون ومخرجون ملهمون
في أحد اللقاءات سئل أندرسون عن الفنانين أو المخرجين الآخرين الذين ألهموه في صناعة فيلم “حول اللانهاية”، أجاب قائلا “كان لفيلم ‘هيروشيما’، وكذلك فيلم ‘مون آمور’ تأثير مهم جدا لهذا الفيلم. والمشهد حيث يواجه رجل زوجته المنفصلة في سوبر ماركت مستوحى من فيلم ‘الصرخة’ للمخرج الايطالي مايكل إنجلو إنطونيوني”، أحد الاختلافات في “اللانهائية” هو إضافة راو، صوت أنثوي هادئ يعلق على كل مشهد من المشاهد القصيرة مستلهماً من حكايات ألف ليلة وليلة شخصية شهرزاد “رأيت شابا لم يجد الحب”، “رأيت رجلا لا يثق في البنوك”، “رأيت امرأة تحب الشمبانيا. كثيرا. كثيرا”. تتحرك الشخصيات في كل مشهد ببطء كما لو كانت خائفة من أن يتم اكتشافها. وفي الصورة الأساسية للفيلم، يمسك رجل وامرأة ببعضهما البعض بإحكام أثناء طوافهما يطوفان فوق مدينة هائلة تعرضت للقصف. (إنها صورة لكولونيا ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهي نموذج مصغر استغرق أندرسون وطاقمه شهرا لبنائه). رأيي في “اللانهاية” هو أنه يوضح تفاهة الوجود وكيف يصرفنا عن تقدير الحياة بشروطها الخاصة. يصف روي أندرسون فيلمه بأنه “مجموعة من القصائد القصيرة عن الوجود. هناك المزيد من الحزن في هذا الفيلم، حزن سببه إدراك أن الحياة تمر وتختفي خطوة بخطوة. هناك سطر في هذا الفيلم مستوحى من “العم فانيا” لتشيخوف حين تقف الشخصيات بجانب نافذة في انتظار فرد آخر من العائلة وأخيرا يقول أحدهم “إنه بالفعل سبتمبر”. إنه حزين للغاية ومشهد غني بالمعلومات حول كيفية مرور الحياة. وهذا هو السطر الأول من الحوار الذي يتحدث عنه هذا الفيلم، في حديث المخرج روي إندرسن لمراسل صحيفة “لوس أنجلس” قال “إذا لم نثق في الإنسانية، فنحن ضائعون”. “الفن هو الدفاع عن الإنسانية، ولهذا السبب أصنع أفلاما بأسلوبي لأنها تمثل ذلك”. وأضاف “يمكن أن أصنع في بعض الأحيان كوميديا، لكن أفلامي مأساوية بشكل عام. ولكن من الجميل جدا أيضا أن نرى أن الفن هو أداة لمقاومة اليأس وبمساعدة الفن يمكنك أن ترى كيف يمكن أن تكون الحياة لطيفة وجميلة. وهذا يكفي، حتى لو كان ذلك لفترة قصيرة”. نرى شخصيات من جميع مناحي الحياة. طفل صغير يقذفه والده في الهواء بينما تشاهد جدته. كاهن فقد إيمانه. امرأة في محطة قطار، وحدها تنتظر أن يتم التقاطها وتتساءل عما إذا كان حبيبها سيصل في أي وقت مضى. جيش مهزوم يسير مظللا بالخذلان. الانطباع العام الذي تركته هذه المشاهد الصغيرة متناقض، لوقت يمر ولكن يبدو أنه توقف أيضا. لم يبق للناس سوى فقدان آمالهم وأحلامهم. تسود خيبة الأمل وجوه أرواح أندرسون القديمة. كل مقالة قصيرة تدور حول شكل آخر من أشكال تسرب اليأس إلى أعماق الروح. يصبح الكاهن في حالة سكر على النبيذ السري بينما ينتظر أبناء رعيته الشراكة. رجل ينام في سريره في شقة قاحلة، والمال الذي أخفاه في الفراش الذي ينام عليه. يعكس الضوء الرمادي دائما تقريبا، المنبثق من الكآبة التي تخيم على أغلب المشاهد، رغم أنها جمال لا يمكن إنكاره. يجد أندرسون ببراعة أن هناك إشراقة مزدهرة للحياة، حتى في الهزيمة. الألم والحزن هما محك عنصريان.
في فيلم “حمامة تجلس على الغصن تتأمل الوجود”، استمد أندرسون موضوعاته المركزية من الرسام الهولندي بيتر بروغل الأكبر “الصيادون في الثلج”. أما في فيلم “حول اللانهاية”، كانت ضربات الفرشاة التي تواصلت معه هي الخاصة بالفنان الروسي مارك شاغال. الصورة الأبرز للفيلم والتي ظهرت في الملصق، صورة عاشقين يحلقان فوق مدينة. يعتقد أندرسون أن هذا المرئي بالذات يوضح تنويعه الدقيق في الإلهام. عن قصص فيلمه يقول لنفس المجلة “أنا لست راوي قصص، أنا أكثر تعبيرا وغالبا ما أعود إلى تاريخ الفن وتاريخ الفن ليس رواية قصص، الفن هو لحظات وتفاصيل وعلامات توضح كيف يمكن للبشرية أن تكون وهذا يكفي”. “في رأيي ليس من الضروري أن تكون لديك قصة خطية لتقديم جوهر نظرتي للعالم”. ولتحقيق ذلك، غالبا ما يعمل كمصمم إنتاج مبكر له يرسم رسومات تخطيطية لمجموعاته المتصورة وزوايا الكاميرا لمساعدة المتعاونين معه على تطويرها وفقا لمواصفاته. كما أن بقايا الصراعات المسلحة والاستعمار تتغلغل في رؤيته. ولد أندرسون في عام 1943، وكان طفلا صغيرا خلال الحرب العالمية الثانية. كان والده جزءا من الجيش السويدي وحرس الحدود مع النرويج التي احتلها النازيون. منه كان أندرسون الشاب يسمع حكايات عن لطف الجنود الألمان. في وقت لاحق، أدرك الفظائع التي ارتكبها الألمان خلال ما يسميه “عصر الجنون”، شعر بالخجل من أوروبا والبشر بشكل عام لتطوير مثل هذه العقليات الوحشية. مستفيدا من تجاهل المخرج للتوقيت المناسب، قام أدولف هتلر وضباطه، الذين تم تصويرهم على أنهم خاسرون مثيرون للشفقة في نهاية حبلهم.
هناك فيلم وثائقي رائع عن أندرسون، بعنوان “أن تكون إنسانا” (2020) من إخراج فريد سكوت، يركز على كيفية تنفيذ فيلم “حول اللانهاية”. هنا نرى أندرسون سيد مجاله في أستوديوهات الإنتاج الخاصة به، في شارع متواضع في ستوكهولم. يتناول الفيلم بكل دقة جوانب من حياة المخرج الصعبة التي مرت في حياة المخرج الشخصية التي أصبحت الآن في الماضي.