حين تستيقظ الذاكرة
لم أحتج لأكثر من صورة وبضع كلمات حتى تتفتق مسامات الذاكرة وأرحل إلى ليلة تشبه هذه الليلة كثيرا إلا أنها تسبقها بثلاثة عقود، منتصف الثمانينات، منزل جدي المكتنز بالفرح والزغاريد والبخور، أربع صغيرات يقفن على الباب المعدني الذي أشرعه الحنين أقسمن أن يكن أولى المستقبلات.. أسأل بصوت وجل متى يصلون؟ وأتنهد.. وأنّى لطفلة لم تتجاوز الخامسة أن تتنهد، أن تفهم بشكل مبهم جدا أن السياسة أحيانا تختطف من نحب، إنه -وياللغرابة- “يا ما في السجن مظاليم”، وأن تعرف معنى الحب والشوق من دموع والدتها كل ليلة ودعائها “يا راد يوسف إلى يعقوب”، أن تتذوق اللوعة مبكرا جدا بعد أن خرج خالها العزيز يوما ولَم يعد…
أسند رأسي الصغير على الزجاج الأخضر لباب الألمنيوم، تقترب ابنة خالتي التي لم تدنس السياسة براءتها بعد وتهمس أنا أخاف من المجرمين، أحاول أن أشرح ليس مجرما هو فقط… فقط… أكتشف أني أنا أيضا لا أفهم.. كبرت، وما زلت لا أفهم!
يصل فوج أخوالي يزفون شقيقهم الأصغر.. يشرق وجه جدتي كما لم يشرق من قبل، ظننت لوهلة أن عتمة عينيها قد انجلت فها قد عاد يوسف وعاد القميص.
يعلو صوت الزغاريد، تتقدم عروسه الخجلة التي لم تعرف منه إلا الغياب، تزفها له النسوة ويمازحنه هذا زفافك الثاني لم يعد عليك الآن أن تبحث عن زوجة ثانية أسوة بإخوتك… يا إلهي هل أتذكر حتى المزاح!.
أتذكر صوت الأهازيج، تكدسنا بالقرب من قدميه والتصاقنا به لساعات، اصطفاف العجائز قرب باب المجلس الكبير.. دموعهن التي بللت قطع التل الأسود المسدلة على محياهن والتي اعتبرنها حينها حاجبا كافيا كي يقتربن منه فيقبلن خده وجبينه، ففي ساعة فرح طاهرة كتلك تذوب كل الخطوط الحمراء ويسمو الحب، الحب وفقط.
أبيض أسود
لم أحتج إلى لحظات تفكير مطولة حتى أختار مقعدي بالقرب من الفتاة المنكمشة التي تكاد تختبئ داخل مريولها المدرسي في الزاوية. فرغم أن لا أحد يعرف الآخر هنا تقريبا إلا أنها الوحيدة التي يظهر شعورها بالغربة وعدم الراحة جليا. اقتربت، ألقيت التحية سريعا، وجلست. وإلى اليوم لا أعلم هل وفقت ساعتها في إخفاء ملامح الذعر التي اجتاحتني حين تأملتها عن كثب أم لم أفعل؟ فهذه الشابة قد ولدت حيث يسِمون الصغيرات تماما كما يسمون الماشية. في الحقيقة إجابة السؤال ليست مهمة، المهم أن تلك اللحظات المربكة لم تعق نمو علاقة الصداقة الجميلة التي جمعتنا لأعوام، والتي جعلت من الشقوق الغائرة بخديها أمرا هامشيا جدا حين أتذكر الجمال المشع من عينيها. لم تصمد علاقتنا أمام ارتحالات الزمن، لكن ما صمد هو ذلك الوسام الخيالي الذي أكسبتنيه، والذي طالما أشعرني بالرضا عني وعن المجتمع الطيب الذي أنتمي إليه.
أعوام طويلة مضت قبل أن تجمعني الحياة مجددا بحسناء أخرى بنكهة الشوكولاته، استقبلتها بحب وبريق، وسامي القديم يؤكد لي أننا سنكون على ما يرام، حتى أتى اليوم الذي كنت أتحدث فيه على سجيتي بما تمليه وثاقة علاقتنا الحميمة فيزل لساني وأختزل عرق أحدهم وأصوله وتاريخه وأصفه بالعبد! تمنيت لو يعود الزمن إلى الوراء، لو أن الأرض تنشق فتبلعني، لو أنني كنت صماء خرساء لا تنطق دون فائدة.
اتهمت نفسي، حاكمتها، ورفعت الجلسة، لكنني أدركت أن كل ما حولي متواطئ بصمت معي. اللغة، المفردات، الثقافة، الموروث، كل شيء كل شيء. خوفنا منذ الصغر من القط الأسود، من الرجل الأسود، ندعو بسواد الوجه على العدو وببياضه للحبيب، فالسواد لون العتمة والشر والبياض لون النقاء والنور.
تحطم وسامي إلى أشلاء صغيرة فأدمتني شظاياه قبل أن تجرح صديقتي وفهمت متأخرا جدا أني وكل انتماءاتي ممن يحسبون، يحسبون فقط أنهم يحسنون صنعا.