حيّز للإثم

الخميس 2018/03/01
لوحة: كمال جبرالله

هناك شاعر يصنع مفارقة شعرية مدهشة حين يدخل بك إلى الأشياء من زوايا مختلفة تسمح لك بإطلالة جديدة. بينما تقرأ نصوص هذا الشاعر تراودك دائما شهوة اقتباس جملة أو عدة جمل تستعيدها وترددها وتشاركها على جدارك الأزرق، وترى أنها كافية للتعبير عن شعورك أثناء التحليق في جوّ النص؛ هذا شاعر جيّد.

هناك شاعر آخر، لا يمكنك أن تخرج بسهولة، وربما لا تستطيع على الإطلاق، أن تخرج من بين نصوصه بجملة أو مجموعة جمل، لأن المفارقة التي يصنعها لا يجوز ضبطُها في جملة أو عدّة جمل شعرية، إن عالمه الشعري بأكمله مغزول من حرير المفارقة.

وما المفارقة؟ المفارقة مصطلح يحمل دلالته الواضحة إلى حدّ كبير في الثقافة الغربية، ولكنه -لأسباب كثيرة لا محلّ لمناقشتها هنا- ملتبس وملغز في الثقافة العربية. البعض يقف معه عند حدود “السخرية” (Irony) والبعض يرى أنه نوع من استخدام الكلام في غير معناه. وآخرون ذهبوا أعمق قليلا فاعتبروها أحد أشكال “البارادوكس″ (Paradox)، وإن كان منهم من توقف عند تعريف الأخير بوصفه “عبارة موهمة بالصحة”.

والمفارقة -كما أقصدها في مناقشتي لكتاب “حيّز للإثم” للشاعر مؤمن سمير، “بتّانة – مصر 2017″- هي أن تصنع بالكلمات ذاتها عالما من المعاني يفارق ثوابته ودلالاته المشاعة. فيه تحتفظ كل مفردة بصيغتها البنائية ولكنها تنضح بدلالة يصنعها البناء الشعري الذي يبدو وكأنه ينبش في تواريخ المفردات مستخلصا منها أرواحا مفارقة للسائد، فتعمل كل مفردة بوصفها لبنة جديدة في تشكيل عالم شعري يفارق الثابت أو المعتاد أو المتوقع أو الشهير، يغادر أفق المعنى مبحرا في أفق التأويل لا يتجمّد فيكون قالبا، ولا ينفرط إلى الحدّ الذي يصبح معه سائلا لا شكل له، إنما هي “هيولى” الشعر القابض على كل خصائصه وصفاته، قد شكلته يد الشاعر ونفخت فيه هيئات جديدة تعرف نفسها وتتجلى مع القراءة.

قد يتسرع البعض فيصف تلك النوعية من الكتابة الشعرية بالغموض، وهو في ظني خطأ كبير؛ فالغامض شيءٌ يستحيل إدراك معناه، لأنه مغلق في ذاته لا يؤدّي إلى معنى. قد نستعين على معرفته بما هو خارجه؛ مثل “علبة معدنية مغلقة في محلّ مجوهرات”، لن نعرف ما بداخلها إلا إذا فتحناها، ولكن -بما أنها في محلّ للمجوهرات- فقد تكون “علبة مجوهرات”! إلا أن الأمر لا يعدو أن يكون احتمالًا لا علاقة له بجوهر العلبة ومعناها، جاء من خارجها… وأحد الاحتمالات الأخرى أن تكون قنبلة مثلا.

أما المفارقة فلا غموض فيها ولا استغلاق، لأنها إعادة صياغة للمفردات لإزاحة المعنى، أو لصنع معنى مختلف، أو للمخايلة بمساحات مختلفة يستكمل صنعَها القارئُ بما يمتلك من معرفة.

المفارقة ليست غموضا، إنها كتابة موارَبة بذكاء لتفتح أبواب التأويل وتستدرج القارئ إلى عالمها الجديد. وما الشعر إن لم يكن كذلك؟

المضيُّ قراءةً في عالم “حيّز للإثم” للشاعر مؤمن سمير، يشبه تحسسك لكائنات غرفتك في الظلام. لا تغيب الألفة؛ فالغرفة غرفتك، ولكن لا تغادرك الدهشة والفرحة بالاكتشاف… فأنت في ظلام.

أنت في غرفة تخصك، تعرف أشياءها وزواياها وأبعادها وموجوداتها، الجديد أنك تعيد التعرّف على هذا العالم باستخدام حواسّك الأخرى التي طالما قمعها البصرُ وجعلها تبدو عديمة النفع. إنها الآن تتجلّى بعد أن رفع البصر قبضته الغاشمة عنها.

أغمض عينيك وأعد تحسّس عالمك. هذا ما يدعوك إليه مؤمن سمير، اترك لحواسّك الأخرى الفرصة في الرؤية والإدراك، سوف تصلك -بلا أدنى شك- رسائلُ جديدة من الكائنات نفسها. هذه الرسائل كانت دائما هناك، يحجبها عنك بصرُك الغبيّ الذي يصرّ دائما أو نصرّ نحن على أنه وحده من يستطيع الرؤية. وكأن مؤمن سمير يعمل وفق القاعدة التي تنصّ عليه تلك الجملة من كتابه “زحزح البيوت قليلا لتدخلَ في وسط القرية، بالضبط عند بيت الحب، الذي يشبه كل البيوت، إلا أن غيمة باسمة تلفّه”.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.