خادمات المؤسسة الذكورية

عبودية التحرك في عجلة الهامستر.
السبت 2022/10/01

“العالم هو ما يشكّل عقول الناس، والرجال هم من شكّلوا العالم. لهذا فإن عقول النساء شكّلها الرجال” هذه العبارة التي تقول الكثير بكلمات قليلة ترد في رواية “الارتياح للغرباء” لآيان مكيوان على لسان إحدى شخصياتها: روبرت. هذا الرجل الذي يتغنّى بكون الرجال شكلوا العالم وعقول النساء يعطي في الرواية نموذجاً عن التشكيل المزيف والمشوه للمؤسسة الذكورية. فروبرت تم تشويهه منذ طفولته من قِبل أبٍ سلك كل مسلك لمنع وردع بناته من ممارسة حياتهن وفق منظورهن الخاص، وأطلق في المقابل يد روبرت الطفل للتحكم بالنساء في عائلته. لم يكن روبرت الطفل راضياً بداية عن هذا المسلك، بل لقد وجد الأمر غريباً وغير عادل، لأنه أدّى بسرعة إلى زرع التفرقة وكره إخوته له، لكنه فعل ما فعل خوفاً واعتقاداً منه أن هذا سيجعله قوياً ورجلاً مثل أبيه.

أتخذ هذه العبارة كمقدمة لأني أراها تجيب عن الكثير من الأسئلة بخصوص العنف المُمارس من قِبل المؤسسة الذكورية ضد النساء. وأفكّر بالبدايات الممكنة للحديث عن هذا التوحش في عالمنا، فنحن – حتى البعيدات عن الألم والوحشية – معنيات به لأننا مرتبطات ببعضنا من خلال جنسنا وظرفنا الاجتماعي وبيولوجيتنا أولاً، ومن خلال الروح المجروحة التي تحوم حولنا وداخلنا بينما نحن ننعم بالقليل من العافية الظاهرية الواقية ثانياً.

من أين نبدأ عندما نتحدث عن وضع المرأة وعن العنف ضدها؟ السؤال ليس غير عملي كما يبدو للوهلة الأولى، فالبداية تعني ترتيب الأولويات، والنظر في المشكلة من جذورها، ومحاولة الإحاطة بها وفهمها قبل اقتراح الحلول. لكن ما يعترضنا في خصوص قضايا المرأة هو ذلك الكائن المسخ المتُشكّل من مجموعة ضخمة من الأحكام المسبقة والأخطاء العلمية والمظالم التاريخية والهشاشة الثقافية والإجحاف الديني والموازنات السياسية والأفكار التسلطية إضافة إلى الضربات القاضية للسياسات الحياتية المتحكمة. وبصيغة أخرى، كل مجال للحديث عن المرأة ووضعها والعنف الممارس ضدها يحيلنا إلى مجموعة كبيرة جداً من القضايا، لا تنتمي منفردة لإجحاف القانون ولا لحتميات البيولوجيا ولا للموروثات الثقافية ولا للظروف الاقتصادية، بل إلى مجموعها كلها. وواضح أن المجالات تتسع وتكبر بمقدار كبر دور المرأة وحضورها.

ولأن كل البدايات تؤدي إلى المتن أود هنا الوقوف قليلاً على خادمات المؤسسة الذكورية، وذلك من منطلق أن الضوء لا يجب أن يكون مسلطاً على العنف الذكوري الواضح فحسب بل العنف الآخر الخفي، لا على مَن يتسبّب بالعنف ظاهرياً، بل على الداعم والمساند للعنف في الخفاء أيضاً، أي على النساء اللاتي يلعبن – بوعي أو بغير وعي – دوراً بارزاً في تعميق الظلم وترسيخ عبودية بنات جنسهن.

إن فكرة تشكيل الرجال لعالم النساء، باستعارة من مكيوان، تشير إلى أن النساء لا يعشن كما هن، بل وفق منظور ذكوري تسلطي رسّخ مبادئه وقوته بكل الأشكال الممكنة وعبر العصور. هذا التشكيل لعالمهن أنساهن ما يردن حقاً فركّزن على ما تطالب به المؤسسة الذكورية، لذا ستجد نساءً يؤمنّ بالحرب، بالعنف، بالتحكّم بالنساء، بتشويه الأنوثة لصالح رؤية محددة، نساء يؤمنّ أن مكانهن المطبخ والغرف المغلقة، نساء يحرصهن على نحت بناتهن وقولبتهن بما يتناسب مع سوق العرض والطلب في المنظومة الذكورية. كل هذا الظلم تقترفه النساء بغير وعي بحق أنفسهن وبحق بنات جنسهن لسبب واحد، وهو أنهن امتصصن وصدّقن الرواية الذكورية عن العالم وعنهن وآمنّ بها إلى حد التوهم أن هذه حقيقة العالم وحقيقتهن.

في روية مكيوان لا يتضح عبر منطوق روبرت الأثر السلبي للتربية الذكورية في تشكيل العالم والناس، بل على العكس يتذكر روبرت ذلك العهد بحنين ويأسف أن تلك الحقبة الملكية انقضت وولّت. لكن ليس علينا النظر في نتائج هذا التشكيل المشوّه للعالم من خلال قول روبرت، بل من خلال ما صار عليه هو نفسه، أي من خلال روبرت البالغ المشوّه نتيجة تصديقه لرواية الأيديولوجيا الذكورية عن نفسه، وعن النساء وعن شكل العالم وحقيقته.

الذكورية

تحيل المؤسسة الذكورية إلى مجموع العادات والأفكار والشرائع والقوانين والأدوات التي يسنّها ويستخدمها النظام الذكوري لترسيخ سيطرته على المرأة وبما يتناسب مع مصلحة الذكر الحاكم، بحيث أن هذا الخليط المتكامل من القمع لا يُبقي للنساء سوى خيار تدبّر العيش في مملكة الذكر وتفادي شره لتحمّل الحياة إلى جانبه. وقد سهّل تبني النساء لوجهة نظر النظام الذكوري محاولتهن التكيّف مع واقعهن لتخطي الظلم الواقع عليهن. وحين نقول مؤسسة ذكورية فنحن لا نحيل إلى فاعل بعينه ولا إلى جنس فاعل بعينه، بل لحاملي هذا الفكر الاضطهادي عامةً. فهذا الفكر تنقل من جيل إلى جيل لأن الحامل له هو المجتمع بذاته. ويمكن تقريب الفكرة بتشبيه المنظومة الذكورية بأيّ حزب أو تجمع سياسي، يمكن أن يكون أفراده مختلفين تماماً لكنهم يعملون رغم اختلافهم على إنجاح هدف محدد هو هدف الحزب لا الهدف الشخصي. وأقول هذا لا للتبرير بل لتوضيح الجهات التي يجب وضعها في مرمى الهدف، وغنيّ عن القول إن التصويب على الهدف جزء كبير من التعامل مع أيّ مشكلة وجزء مهم من حلها. ومرمى الهدف هنا يشمل النساء والرجال من خَدَم النظام الذكوري. والتركيز على النساء ها هنا أمر مفصلي لأن كلمة “ذكورية” في هذا السياق تُفهم أحيانا فهما قاصراً إذ يشعر كل ذكر أنه معني بها وتعتقد كل أنثى أنها معفاة من هذا الإنتاج الثقافي القامع. والواقع أن جزءا مهمّا من الثقافة “الذكورية” التي يجب أن تنتبذ قويت ودُعمت على يد نساء على مر التاريخ. وبغض النظر عن أن هذا الدعم نتج من خوف أو قلة حيلة فإن أحقية أسبابه لا تنفي ولا تخفف من فداحة آثاره. وما يجب فعله ابتداء من هذه النقطة ليس كيل اللوم للنساء، ولكن إدراك أن هناك عملا كبيرا يتوجب القيام به لمحاربة الأفكار الذكورية التي تحتضنها النساء من خلال العمل على النساء أنفسهن وبكل الوسائل التوعوية الممكنة.

إن لعب النساء دوراً في قمع بعضهن البعض ليست فكرة جديدة، فنحن نسمع كثيراً أن النساء تكره النساء ونسمع هذا الحكم غالباً في مناسبات تبرير العنف الذكوري. ويرى أصحاب هذه الادعاءات أن ممارسة المرأة دور المستبد تجاه بنات جنسها يجعل عنف الذكر واستبداده مقبولين بالمقارنة. يضاف إلى ذلك افتراض أن التضامن يُدعم في البيئات التي يسود فيها الظلم، أو أن التضامن حتمية بين أعضاء الفئة أو الطبقة الواحدة، ولنقل طبقة النساء هنا، لكن هذا الكلام خطأ بالمجمل. فعندما يعاني أفراد طبقة من ظلم ما، يحكم التشتت والتشرذم علاقات أفرادها، أي تتغلب إرادة النجاة الفردية على رغبة البقاء الجمعية، ومحاولات الإنقاذ الشخصي تسبق كل وعي تضامني خلاق. بمعنى آخر، لا تفكر الطبقة الأدنى، وهنا أقصد النساء، في وجودها كطبقة، بل كأفراد، وفي حالة النجاة الفردية لا يكون التحرّك ممكناً على المستوى الأفقي، بل العمودي. أي أن المصلحة الفردية ترتبط بشكل مباشر بمن يمكنهم أن يديروا ويباركوا هذه المصلحة، أي بالذكور. أما شعور الطبقة، أو شعور التضامن بين النساء، فتحقيقه عسير إن لم تدرك المرأة أولاً واقعها المضطهد، وترى كيف أنها تمثل طبقة في مواجهة طبقة أخرى. أما العمل الفعلي ضد السياسة الذكورية فيأتي كخطوة تالية حين يطغى شعور الجماعة وتدرك النساء أنهن يخدمن المؤسسة الذكورية لا مصالحهن ورغباتهن الخاصة.

فالكره بين النساء لا يتأتى من طبيعة، بل من واقع، وهو ليس عقبة بيولوجية، بل عقبة تاريخية وثقافية. ولذا فإن لحظة وعي واحدة لموقف النساء كمجموعة مضطهدة قد تكفي لخفض نسبة العداء حتى دون أيّ تغيرات وإجراءات عملية تُذكر على المستوى العام.

يجدر القول هنا إن وضع المرأة كموضوع وعرضها على طاولة التشريح يسهّل تسليط الضوء على كرههن لبعضهن بينما لا يُناقش غالباً كره الرجال لبعضهم البعض رغم أننا نراه في الحروب وأشكال السيطرة الأخرى. وتوضح الدراسات أن مستوى كره الرجال لبعضهم يصل إلى مستويات خطيرة، فمثلا مغزى كره امرأة لأخرى ينصبّ عادة على الحط من قدر الأخرى، أما كره الرجال لبعضهم فيرقى إلى مستوى العنف والقتل.

أما كيف حدث أن البعض من النساء سلكن المسلك المجحف بحق بنات جنسهن عبر السنين، فقد حدث من خلال حفاظ النساء على موروثات قامعة تناقلنها جيلا بعد جيل، وبرزت هذه السياسات القامعة بقوة في دورهن التربوي. وقد خدمت بعض النساء بوفاء وشبه عمى ولازلن الثقافة الذكورية كما يحرس ويخدم العبد ممتلكات سيده. واعتداء النساء على بناتهن سواء نفسياً أو جسدياً أو من خلال الصمت عن قمعهن، أمرٌ شائع في مجتمعاتنا إلى حد كبير. لكن في هذه القضية كما في كل قضية شائكة أخرى لا يجب الوقوف عند النتائج، بل العودة إلى الأسباب.

والأسباب تتعلق بما يحدث خلف الكواليس، فالنساء المضطهِدات لغيرهن يستبطنّ وجهة نظر النظام الذكوري التي تعتبر المرأة مرتبة ثانية. هذا الاستبطان، أي نقل حكم الخارج إلى الداخل، هو جوهر ما يحدث على المستوى اللاواعي، فيصبح اضطهاد امرأة لأخرى عملية تلقائية آلية غير مُفكّر فيها. إذ عندما تستبطن طبقة ما دونيتها لا يمكن لأيّ منطق خارجي أن يعدل قناعتها بسهولة. دارسو المجتمعات التي رزحت تحت العبودية يعرفون هذا الأمر جيداً، لقد صدّق العبد الأسود طويلاً رواية الأبيض عنه، ولا تزل المرأة تصدق رواية الرجال عنها إلى اليوم. تقول السوسيولوجية النسوية دانييل كيرغو “السلطة الذكورية مُستبطَنة بقوة في النساء لدرجة أنهن يصغّرن أنفسهن بأنفسهن. إنهن ينكرن ما هنّ مراراً لأنهن يرين أنفسهن كنوع منخفض القيمة ومليء بالعيوب”.

الذكورية

وكلنا يعلم كيف تُبنى مجتمعاتنا من خلال التربية المنزلية، وكيف تتحمل هذه التربية مسؤولية إطلاق ذكور في المجتمع هم أقرب إلى الصبيان منهم إلى الرجال الأسوياء ونساء أقرب إلى الفتيات الصغيرات الخانعات ينقصهن النضج والوعي بأنفسهن. نتائج هذه التربية الذكورية تظهر في كلا الجنسين، إذ يتم تشويههما في سبيل دعم المؤسسة الذكورية على حسابهما.

في رواية آيان مكيوان تظهر نتائج هذه التربية واضحة في حياة روبرت البالغ، رجل سادي يستلذ بضرب زوجته حد استسهال قتلها والتلذذ بذلك العنف، بل تتوسع هذه الرغبة وتتحول إلى هوس بالجريمة والاحتيال والتدمير الذاتي. كأن النسخة المشوّهة التي صنعها الأب (التربية الذكورية) كبرت لتثبت للمربي أنها عند حسن ظنه. روبرت البالغ هو صبي لم يكبر. في المقابل تبدو زوجته مازوخية تتلذذ بالعذاب بل تطالب به، إنها سجينة تشعر معه أنها بلا حول وضئيلة حتى العدم. في علاقتها المَرضية معه تشعر بالعار من نفسها ثم تشعر بلذة من عارها، وتحب أن تعاقب، لا بل أن تُسحق وتُقتل: إنها أيضاً وبالمختصر وريثة ثقافة تُجمّل في عينها الخضوع والذل.

إن تشكيل العالم الذي يفخر به روبرت في العلن يشوهه حتى أدق تفاصيله في الخفاء، إنه تشويه يكتسي ثوب التكوين، لأنه منظور مشوه أحادي للعالم، منظور لا يلتفت لرؤية المرأة لنفسها بل يسعى لقولبتها بطريقة لا فكاك منها، ويزيد على ذلك بقولبة الرجل بطريقة يصعب عليه رؤيتها أو انتقاد كوارثها.

هناك نقطة فاصلة في كل هذه المعمعة وهي لحظة إدراك النساء انتماءهن لبعضهن. ليس على النساء فعل شيء حيال كرههن وقسوتهن وظلمهن لبعضهن، بل حيال عجلة الهامستر التي يتحركن داخلها دون توقف وسؤال. والمعني هنا عجلة الهامستر المخصصة لطحن النساء بيد النساء أنفسهن. إنها عجلة العبد الكاره للعبد شبيهه، والمتملق للسيد الحاكم. إن شعور الانتماء أو شعور الجماعة هو المفتاح الأول لإدراك الطريق. الكثير من الحلول يمكن أن توجد من تلقاء نفسها، لأن شعور الجماعة سيولّد التضامن، وهذا الأخير يولّد حب الآخر كما هو.

إن وعي النساء وإدراكهن كم هنّ مطحونات في عجلة الهامستر ستكون بمثابة الصحوة. تكفي بعدها قفزة واعية واحدة تلقيهن خارج العجلة ليدركن كم أمر عبوديتهن معقد وبسيط في آن واحد.

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.