خدوجة
الطريق طويلة والوقت فجرٌ. ولا بد للطفل أن يقود الأعمى. يَصعدان ويهبطان مع العقبات. يظهرُ القليل من جسديهما، في البداية، ثم يصعدان من جديد بجهد. والطفل يقيسُ المسافة بالعين والأعمى يقيسها بالذاكرة.. قد لا تُفضي الدروب الطينية الطويلة التي يسيران فيها، على طول طريق الواحة الملتفة بالنهر، وقد لا تقود إلى مصير، لكن المسافة تموت عند كل فجر، في اتجاه السوق الأسبوعي..
وهما لا يهتمان لبرد ولا غريب، لأن البهجة في اختلاطهما وفي تذكّر غبار السوق وأصوات الباعة، وفي دأبهما وحماسهما للبيع والشراء..
كل يوم يقصدان مكانا مختلفا: الاثنين سوق قرية تُسمّى “أعلى الريح “، الثلاثاء السوق الأسبوعي لقرية “تيمضاض” الأمازيغية، والأربعاء سوق قرية “فم الحسن” وهكذا.. ثم إنهما يسيران. في السير كفاية للذي لا يريد سوى تأمل وجوه الحياة، كما يحدث للصبي الذي يبدو أكبر من سِنّه بالشعر الكثيف والطول الفارع واليد المُمْسِكة بإصرار على يد عمّه الأعمى..
يسير الأعمى والصبي، فيخدعُ الصبي نفسه في الطريق بقوله إنني أقود عمّي كما أقود دراجة أو قَصَبة وأستمتع، هي لُعبة إذن لا عمل، وحين سأكبر سأبني لنفسي بيتا وأشتري سلعة وأصبح تاجرا وأتزوج خَدّوجَةَ ابنته. لم يَسُقْ درّاجة من قبل، لكنه يستطيع تخيّل نفسه يركبها. سوف يتكئ على الحائط في الأيام الأولى ثم بعد أن يستقيم الأمر يسوقها بلا مشقة، يسوقها ويصيح بالأطفال أن يبتعدوا كي لا يدهسهم لأن أسلاك الكابح مقطوعة فيهرب الجميع إلا خَدّوجَة التي تشاكسُه وتقف لبرهة أمامه حتى إذا اقترب منها زاغت.. أما الأعمى فلا ينظر إلى أَمَامٍ. لا يتحسس جسده أبدا لأن الجسد تُغطّيه الجلابيب الكثيرة التي تَحْرِصُ العجوز على وضعها فوق جسده وهي تعامله كأنما لا يزال في المهد صبيا، وحين يضجَر تُذكّره بعَماه وضعفه وأنها أمه التي تخاف عليه. يسير ولا يكاد يشعر سوى بالشعر الكثيف للصبي ليطمَئِنَّ بأنه يمشي معه، لا يفكّر في شيء كأنما دماغه أعمى كالبصر. لم يفقدِ البصر إلا متأخرا، كان قد بدأ يرى ظلال الأشياء ثم ماتت الرؤية، ومع الوقت أصبح يتحسَّسُ الأشياء ولا ينظر إليها. لم يعدْ يعرف معنى أن ينظر، كلمة، أصبح يتذكرها مثل حوار قديم تختلط مُفرداته في الذاكرة. يتحسّسُ شعر الصبي ويقول له:
- بُنَي، عليك أن تقص شعرك، لقد أصبح طويلا..
لا يردُّ الصبي. الصمت المعهود فقط. صمتٌ يُدخِلُ نفسه فيه كل حين. هل قالا كلّ ما ينبغي سلفا؟ يتخيّل الصبي نفسَهُ بين قدمي عمّ ثان مبصر، في الخيمة التي نصبوها عند حافة الواحة لمّا عادوا من الصحراء. يأتي العمّ بالمقص الكبير الذي يُعالج به نعاج الواحة كلّها، ثم يبدأ في حلق شعر الصبي الكثيف حتى يتركه مثل أرض محصودة نسي الفلاحون على صفحتها سنابل متفرقة وغادروا..
في الليالي المقمرة يسيران أيضا. عائدَيْنِ من السوق، بعد أن يكونا قد أنهيا المهمة. لا يسأل الضرير ابن أخيه عن جمال السماء ولا عن الأرض، ولا عن البشر الذي يُراوغ مشيهما حين يقتربان فيستحيل الناس مجرد ظلال، يسيران صامتين وأحيانا يكسِر العم الصمت فيغني فقرات يحفظها جيدا من الشعر الحسّاني القديم..
يسمعُ الصبي غناء عمه ويحفظه بذاكرته القوية. ولكنه سرعان ما يهرب منه إلى الواقع حين يكونان في الحافلة المكتظة التي تُقلّهما بين الأسواق، وقتها لا يفكّر سوى في الطريقة التي يردُّ بها عن جسد عمه لَكَزات الباعة الذين لا يلتفتون لجسده الهش ولا لعمى عمّه المخبوء وسط الجلابيب..
ثم إن الأيام تسير بهما. الطفل يقود الأعمى في الطريق، والعمّ يتحسس بحنان رأس ابن أخيه. لكن الطفل، دون أن يفهم لم، خاف يوما من عمه. ليس خوفا مفهوما، بل خوف غامض رآه حين تمعّن في عين الضرير. لقد شكّ بأنه يرى أكثر مما يدّعي. حينها تساءل هل من أقود عمّي فعلا أم أقود شبيها له؟
شَغلته الفكرة بعد أن تمعّن يوما مليّا فأدرك أن العين لم تمت كاملة، كانا قد ابتعدا قليلا دون أن يصلا إلى السوق فضلاّ الطريق والعمّ يتبع خطو الولد، وحين طالت الطريق ارتجف الرجل ورمشت عيناه، حينها سمع الطفل صوت عقله يقول له اهرب من هذه العين التي قد لا ترى لكنها تجمع الصور.. رأى العين ذاتها ترمُش يوما أيضا حين كان يفكّر في خدّوجة ولا يرغب أن يعرف الأعمى بالأمر. كان عمّه يحدّثه عن السوق فإذا بالولد ينطقُ اسمها المحبّب: خّدوجة، دون سبب. اسمها خديجة، لكنه نطقها خدّوجة، فَنَظر إليه عمّه من وراء العين البيضاء فخاف خوفا شديداً..
لكن، من أنا ؟ الأعمى أم الصبي؟ أم سارد هرب به المركب نحو شطآن جديدة؟ لا أدري ، وليس عليّ في ذلك من حرجٌ. ربما أكون شخصا آخر: مزارعا يُراقب فحسب، يَرى من ثقب الباب كل صباح دخول الطبيعة على الطبيعة والضوء على الظلام فيرقُبُ رجلا مغطىً بالجلابيب وفتىً يرتعد من البرد يُساقُ إلى السوق فيكتُم صرخة التي تَحته، تلك التي غاب زوجها طويلا، التي اعتادت أن تتسلّل إلى بيت التّبن عند اللّيل.. يختلي بها وحين تغادره ينام نوما متقطّعا ثم يستيقظ فينصرف ليُعدّ أدوات الفلاحة ويستحمّ ويستغفر. يرى الطفل والأعمى يمران في وقتهما المحدد فيُسكِتُ صوتَ شهوتها لأن فجْرَ القرية يُسمع من به صمم.. ربما أكون رجلا آخر: مدرّس الصبي الذي رمت الأقدار به في قرية بعيدة، وتَعب وهو ينصحُ العم بالانتباه لما سيأتي، فالطفل غائب عن الدرس على الدوام، والعم يقف احتراما أمام المدرسة، يحرّك عصاه كأنما يهش شيئا ويُنصِتُ، يقول نعم، لكنه يقودُ الطفل عند السادسة صباحا إلى السوق.. ورغم أنه مدرّس، والولد مجرد رقم، إلا أنه يحلم بكل ما يدور، ويهتم لما يحصل له كأنّه ابنه. ومن أحلامه الدائمة بعد العصر، أنّه يرى فقيه الدوار عبدالله يقف بباب المدرسة ويَطلب منه مساعدة، ثم يدعوه إلى نظم قصيدة معارضة لقصيدة كتبها علي ابن أبي طالب، تبدأ هكذا (المتكئُ على الزمان.. لا بُد الزمان يَغْدِرُ به).. ويتعجّب المدرّس، ويحاول أن يُفسّر للفقيه أن القصيدة ليست لعلي ابن أبي طالب، بل للمغربي سيدي عبدالرحمن المجذوب، لكن الفقيه يضحك ويرفض الاستماع ويُصبح مثل طفل صغير حين يمنعُ المدرّس من الكلام بإصدار أصوات مختلفة مُضحكة ليُثبت كلامه ويفرضه..
حسنا، هناك شخصان لن أنساهما وقد أكونهما في حكاية أخرى: أوّلهما رجل لا علاقة له بالولد ولا بعمّه ولا بالمزارع ولا المدرّس ولا الراوي، لكنه أحبّ خدّوجةَ حين كبُرَت وأصبَحَت عروسا ويكاد يقتله الحسد والغيرة من بائع فقير تزوّجها، ورغم أنه متعلّم وهي مجرّد بدوية ترعى الغنم إلا أنه لم يكن يحلم حين ينام بغيرها، ينام ملء عيونه فيتحول في الحلم إلى شجرة من كثرة الخمول ومن كثرة التفكير بها، وحين يستيقظُ يسأل نفسه العارفة بالكتب: ما العلاقة بين الخمول والخميلة والخليلة؟ وثانيهما رجل لا يُحبُّ خَدوجة ولا يعرفها ولا علاقة له بالأمر كلّه، لكنه يعيش الكوابيس ويرى نفسه في الأحلام مثل شجرة يابسة، وحين يستيقظ يتساءل : ما العلاقة بين يابس ويائس..
أمّا أنا، فقد وجدتُ نفسي أخيرا بعد أن تهت في الممرات، على الطريق الوحيدة الحقيقية، تلك الطريق التي لا تَهتزّ تحتَ الأقدام، الطريق العزيزة التي سأنحني الآن لأبوسها، أمام الوادي الذي يلُفُّ الواحة. أنا والليل والظلمة ترخي رداءها على الطريق، وعلى الجانب واد ممتد لا أعرف عمقه.. لا أسوق أحدا ولا يسوقني سوى الصبر. عيناي عينا صقر ترى في الظلمة كل الأشياء. لستُ أعمى ولكن يدي قادت الأعمى طويلا في هذه الممرات. تضعني “التاكسي” القادمة من سوق أسبوعي أمام الوادي ومعي كيس كبير. ثمة من ينتظرني في البيت على ضوء القنديل؛ خدّوجة التي تحبني وتشتهيني ولا تقول ذلك بل تضحك وهي تمضغ السّواك البلدي بلا توقّف حتى تُصبح لثتها حمراء. والطفلة الصغيرة التي لم تبلغ الرابعة بعد، أتذكّرها وأنا في الماء، أنزل إلى الماء البارد للنهر وأعبُر إلى الاتجاه الآخر وأضحك. أتذكر فمي يمسك بطرف البالون وحدقتا عينيها تتسعان وأضحك وأخاف أن أُفلتها، عيناها مصوبتان نحوي ويداها إلى أعلى، وحين يتمزق البالون الصغير اكتشفُ أن عمري أصغر من عمر الصبية لأنني تبعتُ هواي، وأنها قد غضبت لأنني ضيّعت بالونها. أعبُرُ الوادي وأشم رائحة القصب. هل أشمُّ رائحته أم أسمع صوتهُ يحك الريح؟وهل للقصب رائحة؟ أم هي رائحة الطين الذي يَنغرس القصب في جسده بعد سيل عارم جرف التراب وعرى العروق؟ أرى خدّوجة عند الباب تحمل البنت وتحثني على قطع الوادي، أرجّ الكيس الكبير لأتأكد من أنه على خير، وأتذكر عمي الأعمى الذي كنتُ أسير معه في هذه الطريق وكيف انقطعتُ بسببه مبكّرا عن الدراسة ومدرّس القرية الذي كان يهتمّ بي ويصارع لأبقى في المدرسة وحلمي القديم بأن أصبح تاجرا كبيرا، لكن الدراسة والتجارة لا تهم ما دامت خدّوجة أمام الباب تنتظر وصولي.