خطوتان للفرج

الاثنين 2015/06/01
لوحة: رندة مداح

عَبرتُ الحُدودَ إلى اللاّ سوريا مع عشرات الأشْخَاص في أحدِ التّشرينَين.

باستِثناءِ حَرارتِه التمّوزيّة، كان يَوماً عَادياً، بِما في ذَلِك الـْ(مِيغ) التّي تَحسبُها تُقدّم عَرضاً بَهلوانياً احتِفالاً بإبعادِكَ عنْ مسَاحةِ سيطَرتِها، ورَغبةً مَكبوحةً لبَعثَرتِك تَحت رُكامِ وابِلِها، فيما لو أنكَ أبعدُ قَليلاً عن الشِّيك( ).

فحتّى الآن ( ) عَددُ شُهداءِ دَرعَا حَوالي تِسعةُ آلافِ شَهيدٍ، ربّما نِصفُهم قتَلتْهُم هذه الـ(ميغ) ولا ضَيرَ مِنْ جَعْلِهم تسعةُ آلافٍ وسيّارة! والحقيقة أن شيئاً ما في داخلي كان يتمنى أن تفعَلَها! فأنا لا أخشى الموت.. أنا أخشى أن أترهلَ في غربتي وأفقدَ الرغبة بالشجاعة، أن أراقب موت أصدقائي على شاشة حمقاءَ عاقر، وأجهَدُ في إقناع نفسي أني فعلتُ الصحيح.. وهربت.

ما هذا الموت البطيء الذي فضّلتُه!

حاجزُ النّصرَة الذّي اعترضَ طريقَنا، كانَ أيضاً حدثاً عرَضياً. كلّ ما هنالِك أنّ هيأتي أثارتْ شيئاً في نفوسِهم! هكذا أخبرَني الحَجّي( ).

سألتُه بثقةٍ ساذجة: مين قائدهم الميداني؟

همسَ مُنوّهاً: هَظولْ غير جماعَة الغُوطة، خَلَّي الشّباب يَتْصَرَّفونْ. وأَردفَ مازحاً: كِيفِش مع الرّكَظ؟

تسمَّرتْ عيناي على حِذائي الرّياضي سوريّ الصّناعة، مُنقذي وحليفي الذي لم يخُنِّي يوماً.

ولكن.. ممن أهربُ؟ الميغ.. أو حاجز النصرة! الموتٌ خيارٌ جيدٌ عندما تتقنُ اختيار قاتِلك.

يا إلهي.. لو كان جهاد ( ) مكاني ماذا كان ليختار؟ كان يقول إنه وقتُ المصابرة.. لا بدَّ من المصابرة.. آآخ يا جهاد ما الذي ذكرني بك الآن؟! لا أريد أن أضعف بافتقاد نفَسِك وصوتِك.. فهذا الفقدان..موتٌ بطيءٌ آخر!!

اخترق الحجي دماغي: لا تخافين.. هذول ما بيوكلو بنات.. لو هُمّا خامّين ( ) كانن ذبحوش قبل ما يسألو عنش. أدارَ محرك السيارة، وتابعنا طريقنا إلى المنفى. وما زلت أفكر: تباً لهذا الهرب ولهذا الاختيار.

في ذلك اليوم،عندَ الشّيك، كان العشراتُ ينتظِرونَ تبديلَ وطنٍ ـ ضُيِّقَ عليهم ـ بخَيْمة.

عشراتٌ، وقبلُهُم عبَرَ آلافٌ، جَمعوا على عجلٍ ما استطاعوا من أحلامٍ بـ(بقجة)، وترَكوا مَا تَبقّى مِن حُطامٍ لذَاكرتِهم وتفَاصِيلَ حَياتِهم ودِماءَ أبْنائِهم.

عَشراتٌ ينتظرونَ.. وأنا منهُم.

عبرتُ الشّيك.. عَلى مودِ ضَابِطَ مُخابراتٍ لا يشبهُ بهيأتهِ أحَداً من الضّباط الذين استقبلوني في فُروعِهِم.. لم يَلبسْ حِذاءً رِياضيّاً.

هذهِ المرّة، كانَ ليَ الامتيازُ بارْتِدائِه.

***

زرتُ عمّانَ مراتٍ عديدة (قبل الثورة).

لم أنوِ رؤية ما يعجبني فيها. تعاملت معها كأني في مكتب صرافة.

لكن الآن.. سيكون التأقلم مع مكان فُرضَ عليك، ليسَ سهلاً.

بادئ ذي بدء سيلفِتُ انتباهك هذا الفائض الهائل من الكهرباء والأكل والدواء. أين العدل من هذا الإسراف المرضي في استهلاك كل شيء!

سيكون إحساسُكَ الداخليّ، هكذا: رفضٌ مكبوتٌ حيناً، وصريحٌ أحياناً لأيّ مُقارَنة.

كل شيءٍ في تِلك البلاد “التي هجرَتْنا” أجملْ، مَشتى الحلُو أجملُ من عَجلون، وتدمر أجملُ من البتراء، وبُصرى أجملُ من جَرش، والبدروسيّة أجملُ من أُم قَيس، واللجاة أجملُ من وادي رَم، وأين برتقالُ الساحلِ من هذا البُرتقالِ الغورانيّ!

عندما تَصحو ستَعرف أنّ الجَمالَ لا هَويةَ له. لكن إدراكُه يتطلبُ الاعترافَ الكاملَ أن هَذا المكانَ لا يهاجُمكَ، ولا يكرهُكَ، ولا يعني التّخلي عن انتمائِك للجَمالِ المطلقِ الذي أُرغمتَ على تَركه.

في التاكسي يسألني السائق: سورية؟

أنظرُ إلى حذائي السّوري، وأردُّ: نعم.

ـ والله يا مدام كُنا ننزل سيران ع سوريا (أشرد عن هذا الكلام المكرّر ِالأناني، نصفُ شعبنا لا يعرف من السيران إلا الجندي المجهول وبزر دوار الشمس، الآن هذا النصف.. إما لفّه التراب.. أو لفّته الخيمة).

ـ أسبوع آكلين شاربين نايمين، ونجيب اللحمة واللبس وَلِكْ حتى المي، ونعبّي بنزين للسيارة، وكُلّه بـ100 دولار( )، الله لا يوفق إسرائيل خربَت البلد، وانحرمنا من كُل هاظ.

أفكر: لا بدّ من “إسرائيل” لتبرير كل شيء! وكأنها الحقيقة المطلقة الوحيدة. كالموت تماماً.

إلا أن إسرائيل.. لم تقتل شعبها!

أرد: لا تواخزنا معلم… نزعنالك السيران.

ذلك السائق لم يرض أن أدفع الأجرة.

***
التسكعُ في هذهِ المدينةِ ليسَ سيّئاً، ميزتُها أنك أينما وقفتَ فأنت على جبلٍ، وتطل على جبلٍ. سيغريكَ مشهدُ الطائرات الورقية المتقابلة بين التلال. وكشخصٍ خرج حديثاً من بلاده التي احتلت الميغ والسوخوي سماءها، ستحسبُها تنفذّ غاراتٍ وهمية، قبل أن تلمح من بعيدٍ طفلاً يحاول عبثاً مسك الحبل السري لتلكَ الـ(ورقة).

ستغريكَ الأدراجُ المطابقة حدّ الالتباس لدرجات جادات المهاجرين، وستغريكَ الأزقة الضّيقة الهارِبة من الشّيخ محي الدّين، وسيغريكَ الحجر المرصوف على الأرض، ودعوةً مفتوحةً للمشي حافياً.

سيغريكَ تمازج مقام الكرد للمؤذن المقدسي، مع السيكاه لأطلال أم كلثوم.. لأطلالك.

ستغريكَ طاولة الزهر التي تشبه بتفاصيلها الشام القديمة، بما في ذلك صراع الأحجار البيضاء مع السوداء، في مشهدٍ يعيدك إلى باب توما. وستغريكَ طرطقةُ النرد.. وتهليلةُ الفائز: خشب.. خشب!

ولكن…

عندما يتسلل تمنّي كـ”لو أني في دمشق”، ستُطلق كل دفاعاتك لتُبعدَه. لتنفي هذه الحقيقة التي تشبه، في كل شيء، الكذب! حقيقة أنك الآن هُنا..

هُنا اللاّ مَكان.. لنْ يَعنيكَ كلَّ هذا الجَمالَ الّذي حولَك.. فَهو لَيس جمالُكَ، ليسَ لَكْ.

***
دخلتُ إلى (إسكافيّ) لإصلاحِ حذائِي السّوري، لم أجرُؤ يَوماً على رمْيه، كان بمثابةِ إثباتٍ لجِنسيّتي، بعدما فقدَتِ الأوراقُ قيمتَها.

تفحّصه، كطبيب يحاول جاهداً إنعاشه: هاظ وضعو صعب، ما ظل مكان للدرزة، يعني إسمعي: إذا بدي أَرَكّب الظبان لازم أشيل ألف طبقة، كم ظبان راكب فوق بعظ!! وحتى لو.. ما هو النعلة مهترية، والكعب… فش كعب!!

للحظة، حسبته يتحدث عني، حيث كل ذكرى، كل جرح، وكل واقعة مدونة بأطرافه، كلُّ طبقةٍ توثّق لمرحَلة، لحالة. كلُّ خيطٍ دُرزَ، له حكاية، هل يعرف أنّ هذهِ النّعلة اهترأتْ مِن كَثرةِ الجَري تفادياً للقَنصْ!

ـ طيب معلّم بطّلت.. حقك على راسي.. أنت ما دخلك بس يعني تذكرت شغلة.. برجعلك إنشالله.

خرجتُ، بعدما تفوهتُ بهذه الفوضى الكلامية، وأنا أمسك حذائي كأن أحداً حاول مسحَ تاريخي، اغتصابي وسلب هويتي.

***
خمسُمئة وعشرون يوماً، مرّت على وجودي هنا.. اعتدتُ هذه الشّوارعَ التّي أصبَحت صديقَة، أعرفُ تفاصيلها وكأني عاصرتها دهراً، أزاود على سائقي سيارات الأجرة بمعرفتي للطرق المختصرة، أفاصلُ أصحاب المحلات، أميّزُ الأماكنَ التَّي تؤيّدُ المؤامرةَ منَ التّي تعارِضُها.

خمسُمئة وعشرون يوماً، أراقب اهتراء حذائي وروحي، وأخشى استبدالهما يوماً بسلّة غذائية أو جَواز سفر.

خمسُمئة وعشرون يوماً، القهرُ يأكل من قلبي كما القط يأكل صغاره. أبحث بين صور شهداء التعذيب عمّن انتظرتهم طويلاً، لأُنهي هذا الانتظار، وأجهد في إقناع نفسي بالعودة، أفكر، أتحمس، أقرر… أخاف، أتراجع، وأقنع نفسي، ثانيةً، إني فعلتُ الصحيح.. وهربت.

وعندما يسألني أحدهم: ماذا بعد الأردن، تركيا.. أم أوروبا!

يخرس لساني عن القول.. وأنا أردد في داخلي: تباً لهذا الاختيار.. تباً لهذا الاختيار.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.