خط الموت
” كلما سيطرت الآلة على الإنسان كلما زاد شر الزمان عرامة “
( نيكولاي برديائيف)
يرنّ منبه الساعة الرقمية، أضواء النينون الفسفورية تشير إلى السابعة صباحاً، يتمطى على فراشه ليأخذ غفوة صغيرة، يرنّ المنبه مجدداً، يهرع إلى ماكينة القهوة؛ يكبس الزر، لحظات ويصبح كوب القهوة جاهزاً، يرتدي ملابسه على عجالة، ويلتقط حقيبته الملقاة عند الباب، يركب سيارته ويدير زر المذياع.. موسيقى هادئة تزيده توترا، يلعن الطريق والزحام والسيارات المتكدسة قبل إشارة المرور، يصل إلى عمله أخيراً.. يعتذر إلى زملائه بصوت خفيض، يخيل إلى كل من يرى عينيه أنهما تتضرعان كالكلاب الودودة، يرمقه زميله الأصلع الذي يجلس بجواره إلى المكتب بنظرة جامدة، ويدير رأسه بطريقة آلية..
غاص في مكتبه، ومضت ساعات اليوم الطويلة، ملتصقاً في مكانه، الجميع يتحركون من حوله، وبقي مسمّراً كما لو كان ذراع كرسي خشبي، عروة درج مكتبي، حاملة مستندات، لم يجرؤ على أخذ استراحة الغداء، بل بقي لكي يحرس الوقت، لكي يثبت للجميع أنه يقدر هذه السلعة الثمينة، مهما بدا لهم عكس ذلك، حسبه أنه يشعر بذلك في أعماقه، لقد أصبح وجهه كميناء الساعة، ينظرون إليه لكي يحاسبوه، لقد ضاق ذرعاً بهم!
غابت الأصوات التي تضج في المكان، وأخذت الإضاءة في الخفوت والجو يزداد برودة، الساعة تشير إلى تمام السادسة، وضع إبهامه على جهاز البصمة وأخذ يجر قدميه بتثاقل، مرت ساعات اليوم بسرعة مذهلة كالقطار الذي يدهس كل ما يعترض طريقه من بشر وحيوانات وشجر، وضع يديه في جيبيه وتلمّس شقاً في البطانة الداخلية، وأدرك في سره أن كل أوقاته أصبحت كالجيوب المثقوبة خالية من المعنى وبلا قيمة.
هبط الظلام، وعاد صاحبنا إلى بيته كجثة هامدة، يشكو آلام الرأس والبدن والجيوب المثقوبة!
في صباح اليوم التالي يرنّ منبه الساعة الرقمية، أخذ يتمطى قليلا على فراشه، لم ينم مبكراً في الليلة الماضية، كان الأرق والقلق يلعبان كرة المضرب على جبينه طيلة الليل “طق.. طق” كان الصوت يتكرر على مسامعه بلا نهاية، صوت بعيد.. ولكن مهلاً، كان الصوت يقترب!
فجأة.. نزع أحدهم اللحاف وبرزت قدماه الباردتان لينكمش على السرير فجأة، لم يتبين ملامح هذا الشخص ولكنه يعرف صوته جيدا، كانت مديرته التي تبدو كالذبابة بفعل نظاراتها الكبيرة في غرفة نومه تقرّب وجهها من الوجه النائم وتصرخ “اقترب الموعد أيها الكسول ولم تنجز مهمتك بعد.. أخبرتك بأن المفترض أن تقوم بتسليمها اليوم، هيا قم إلى العمل”.
انتفض من فراشه والعرق يتفصد من جبينه ـ وحده الله يعلم ـ كيف وصل إلى عمله هذا الصباح المخيف، الجميع يقصفون بالضحك، حتى أن زميله الأصلع خرج عن صمته البارد “يبدو بأنك مستعجل جداً حتى إنك لم تبدل ملابس النوم”، نظر إلى جزئه الأسفل، وتفاجأ بأنه لم يغير سروال منامته المخطط، ما زال يرتدي خفه المنزلي، أخذ يشعر بالتضاؤل، تمنّى أن يختفي داخل هذه الأسمال، فلا يعد له وجود، الجميع حوله يضحكون بصخب. فجأة، حطت يد مشعرة وكبيرة على كتفه، أدار رأسه بخوف، وخرج صوته المختنق من داخل المنامة: من أنت؟
أنا الطبيب المسؤول عن حالتك يا بني، اسمح لي من فضلك.
وضع الطبيب القوي البنية حقيبته الجلدية على المنضدة، ثم فحص صدر المريض وأخذ يستمع إلى نبضات قلبه الذي يخفق كحمامة مذعورة، تناول عوداً خشبياً وطلب منه أن يقول “آه” نفّذ المريض أوامر طبيبه، وبآلة ينبثق منها النور طلب منه أن يفحص عينيه، حملق صاحبنا في النور وأخذ بؤبؤا عينيه يضيقان “حسنا” قال الطبيب.. “لديك ثلاثة أشهر وعشرة أيام كحد أقصى.. حاول أن تستمتع بما لديك.. يفضل ألا تتأخر عن كتابة وصيتك”.
التفت صاحبنا إلى زملائه الذين شهدوا ما حدث، اختلجت شفتاه وفاضت عيناه بالدموع “أسمعتم ما قاله هذا الوغد، أسمعتم؟ “جلس ضاما ركبتيه الى صدره وأخذ يجهش بالبكاء، انصرف الجميع إلى مكاتبهم وبقي يبكي “أيها الحمقى، أيها الأوغاد” ولكنّ أحدا لا يبالي. وما هي إلا دقائق حتى تناهى إلى سمعه صوت طقطقة تقترب، ها هي مديرته واقفة كعملاق كبير، تنظر إليه من أسفل زجاجتي نظارتها رفع رأسه بتضرع “لقد تم تمديد المهلة، لديك ثلاثة أشهر وعشرة أيام لكي تنجز مهامك، فلتبدأ الآن”.