خفة وتسطيح
لا شك أن وجود حركة فنية سوية في عالمنا العربي تتطلب منجزاً نقدياً موازياً، فليس من الطبيعي أن تستمر التجارب الإبداعية الفنية بمعزل عن النقد، فهو وحده الذي يستطيع تقويم اتجاهها ومسارها والمساهمة في وضعها داخل إطارها الصحيح، المرتبط بمحيطها الإقليمي والعربي ثم محيطها العالمي الأشمل. غير أن الافتقاد إلى حركة نقدية سليمة وحقيقية قائمة على رؤية واضحة ومنسقة فكرياً يأتي على رأس المشكلات التي تعاني منها الحركات الفنية في وطننا العربي، وهي شكوى دائمة وملحّة من قبل الفنانين والمهتمين بالفن على حدّ سواء. وتعاني الحركة الفنية في مصر كغيرها من الحركات الفنية الأخرى في الوطن العربي من ذلك الخلل رغم ريادتها وسبقها في التفاعل مع الحركات الفنية الغربية منذ نهايات القرن التاسع عشر، ما أسهم في إنشاء أول أكاديمية متخصصة في تعليم الفن بمفهومه الحديث في مصر عام 1908 وهي مدرسة الفنون الجميلة التي أسسها أحد أمراء أسرة محمد علي وهو الأمير يوسف كمال.
المتتبّع لحركة الكتابة النقدية المتعلقة بالفنون البصرية في مصر يدرك بعض مواطن الخلل التي تعاني منها تلك الحركة. يأتي على رأس هذه المشكلات الافتقار إلى الناقد المتخصص الواعي، واقتصار النقد الفاعل على الكتابات المقدمة في الصحف والمجلات، في ظلّ عدم وجود إصدارات متخصصة أو مؤلفات نقدية حقيقية مهتمة بالفنون التشكيلية إلا فيما ندر. ونجد أن هذه الإصدارات الصحافية غالباً ما تتعامل مع المادة الفنية كمادة مكملة أو من قبيل المنوعات.
وإذا ما نظرنا إلى من يتصدّون للكتابة الفنية في هذه الإصدارات سنجد أن الغالبية العظمى منهم هم في الأصل فنانون دخلوا عالم الصحافة من باب الرسوم الصحافية كالكاريكاتير أو الرسوم المصاحبة للموضوعات (الستريشن)، ثم دُفعوا دفعاً فيما بعد إلى الكتابة من دون إعداد أو سند فكري أو مهني في أغلب الأحيان.
وبطبيعة الحال يملك كل من هؤلاء الكتاب رؤيته الخاصة للفن وطبيعة الممارسة الفنية، ما جعل من حكمهم على الأمر خاضعاً لتلك الرؤى الشخصية التي تتقاطع في نفس الوقت مع ما يشكّلونه من صداقات أو عداوات مع فنانين آخرين، فيتباين ما يكتبونه بين التحيز والمجاملة أو التحامل أحياناً، فإذا غضب أحدهم على سبيل المثال على واحد من الفنانين خسف بتجربته الأرض، وإذا رضي عن آخر رفع من شأنه فوق ما تحتمله تجربته.
قد لا تخرج أحياناً بعد قراءتك لمادة من تلك المواد المنشورة في الصحف عن فنان من الفنانين سوى بالقليل عن طبيعة تلك التجربة وعلاقتها بالممارسات الفنية الأخرى محلياً وعالمياً، لا شيء سوى المزيج من الصور اللغوية والمحسنات البلاغية والتغزل في التجربة أحياناً.
يمثل النموذج السابق نمطا من الكتابة الفنية يمكن أن نميز بينه وبين نمط آخر يميل إلى الاستعلاء والوعظ. غير أن الأزمة الفعلية هنا تتمثل أحياناً في أن هذا الاستعلاء قد يكون دون سند فكري، بل قد يمتلئ بالخلط بين المفاهيم والمصطلحات الفنية والفهم المشوّش لماهية الفن وآلية تطوره كممارسة إنسانية، وهو أمر من شأنه أن يؤدي إلى بناء نقدي مشوّه وغير منصف.
أتذكّر أن إحدى الصحفيات المهتمات بالكتابة عن الفن قد أسرّت لي ذات يوم أنها لا تستطيع تفهم تلك الممارسات الغريبة التي تتبناها إحدى القاعات، قاصدة بتلك الممارسات هذه الأعمال الفنية المعاصرة التي تمزج بين الوسائط المختلفة. ولأنها لا تفهم تلك “الخزعبلات” كما أصرّت على تسميها حينها فقد آلت على نفسها أن تهاجم في صحيفتها كل ما يتعلق بتلك الممارسات الهدامة وغير المفهومة من وجهة نظرها.
المشكلة الحقيقية هنا تكمن على ما يبدو في التصنيف أو في تحديد الدور الذي يضطلع به الكاتب أو الصحافي المعني بالشأن الفني، وهو دور يراوح بين مستويين، يتعلق الأول بمتابعة الأنشطة الفنية وعرضها عرضاً صحافياً لائقاً، وهو أمر له أهميته وتقديره، ولا يمكن الاستغناء عنه، أما المستوى الآخر فهو يتعلق بالتصدي لهذه الأنشطة تحليلاً ونقداً، والتداخل بين المستويين هو تداخل مربك في الحقيقة لكل من الصحافي والفنان والقارئ أيضاً ويمثل أحد العلل التي تعاني منها الصحافة الفنية بل والثقافية عامة، ما ينعكس على ضبابية وتشوش الكثير من المصطلحات والمفاهيم المرتبطة بالممارسة الفنية لدى القارئ والمتابع ومنظّمي العروض، بل لدى بعض الفنانين أنفسهم نتيجة للخلط وانعدام المهنية في تناول ما يقدّمونه من منجز فني.
في نهاية العام الماضي نظمت إحدى المؤسسات معرضاً كبيراً بالتعاون مع وزارة الثقافة المصرية عن أعمال السرياليين المصريين وهو معرض كبير ضم العشرات من الأعمال الفنية المصرية التي تمّ جلبها من داخل المتاحف ومن أصحاب المجموعات الخاصة وطاف عددا من البلدان والعواصم الأخرى خلافاً للقاهرة.
مثّل هذا المعرض مثالاً صارخاً للخلط بين المفاهيم والتواطؤ بين القائمين على تنظيم العروض من ناحية وبين من يتصدّون للكتابة الفنية في الصحف من ناحية أخرى، إذ بدا الأمر كأن منظمي المعرض قد اعتمدوا في انتقائهم للأعمال المشاركة على الفهم الشائع لدى عامة الناس عن تلك المدرسة من أنها تحوي كل ما هو غريب، فتاهت التجارب السريالية بين العشرات من الأعمال الأخرى التي لا تمتّ للسريالية بصلة. أما التغطية الصحافية للحدث فقد تماهت هي الأخرى مع تلك النظرة المشوّهة للسريالية، وكأن ثمة اتفاقا أو تواطؤا خفيا بين هؤلاء الكتاب والمنظمين على تضليل المشاهد والمتابع للشأن الفني لترسيخ ذلك الفهم الشائع والخاطئ للسريالية.
أزمة المصطلح المعاصرة نموذجا
مفهوم الفن المعاصر هو أحد المفاهيم التي ما تزال مثيرة للجدل والنقاش بداية من تاريخ استخدامه الفعلي إلى دلالته كمفهوم أو مصطلح فني، غير أن هناك شبه اتفاق أن حلول المعاصرة كمصطلح قد ظهر بين ستينات وسبعينات القرن الماضي مع نهاية ما يسمّى بالحداثة وانحسار المدارس الفنية التي يمكن تصنيفها بسهولة. وقد حمل المصطلح منذ بداية ظهوره العديد من الرواسب المتعلقة بدلالته اللغوية والمفاهيمية التي تطوّرت عبر العقود الأربع أو الخمس الماضية، فمن ناحية الدلالة اللغوية تم الخلط في البداية بين المعاصرة والحداثة نظراً لاقتراب المعنى اللغوي في الإنكليزية لكلمتي حداثة (Modern) ومعاصرة (Contemporary) وهو الأمر الذي ينطبق أيضاً على معنييهما في اللغة العربية.
أما من ناحية المفهوم فقد تأثر المصطلح بالعديد من المؤثرات المتعلقة بطبيعة ما يشير إليه من ممارسات فنية ناتجة من انبثاقه في مرحلة تحول كبرى من مفاهيم الحداثة إلى مفاهيم مابعد الحداثة على كافة الأصعدة، فتم التعامل معه كمصطلح يشير إلى كل ما يخالف الحداثة من آراء وممارسات فنية.
مع الوقت تراجع الخلط اللغوي بين الكلمتين إلى حدّ ما، كما توسع المفهوم خلال العقدين الأخيرين تحديداً ليشمل أبعاداً أخرى أكثر شمولاً لتبرز المعاصرة كمظلة واسعة تقف تحتها مجموعة من الظواهر والممارسات المختلفة في تحدّ للهياكل القائمة لصنع الفن ونشره ومشاهدته. وبات الفن المعاصر يمثّل هذه النوعية من الممارسات التي تقدّم مزيجاً ديناميكياً من المواد والأساليب والمفاهيم والمواضيع التي تتجاوز الحدود التقليدية والتعريف السهل دون وجود مبدأ تنظيمي أو أيديولوجي محدد، ودون تهميش أيضاً (وهو الأهم) لأيّ من أنواع الممارسات الفنية الأخرى.
أما عندنا في مصر أو في الوطن العربي بشكل عام فمازالت هذه الرواسب العالقة بالكلمة في مسار تشكلها كمفهوم أو مصطلح محطّ تأثير كبير على مستوى الكتابات الفنية والنقدية وعلى مستوى القناعات الشخصية لدى بعض الفنانين والقائمين على العديد من الفعاليات الفنية التي يتم تنظيمها، بداية من الفعاليات الجماعية الكبيرة إلى العروض التي تستضيفها بعض القاعات الصغيرة والتي لا تعدو كونها محالّ صغيرة لبيع اللوحات. فبين الحين والآخر تشهد القاهرة حدثاً فنياً يتخذ من المعاصرة عنواناً له، كأن تنظم ندوة عن الفن المصري المعاصر في بداية القرن العشرين، أو يقام معرضاً لأعمال الفنانين المصريين المعاصرين، وحين تذهب لزيارة المعرض لا تجد له أيّ صلة من قريب أو بعيد بالمعاصرة كمفهوم، مجرد لوحات ومنحوتات لعدد من رواد الحركة في أربعينات وخمسينات القرن الماضي تم انتقاؤها بهدف الاستثمار ليس أكثر لغلاء أسعارها النسبي، فلا تدري حينها السبب الحقيقي الذي دفع القاعة إلى تضمين كلمة المعاصرة في عنوان المعرض، هل استناداً لمدلولها اللغوي المباشر، أم هو فهم خاطئ لمدلول المفهوم؟
هذا التشوش والخلط في مدلول الكلمة هو أمر شائع في معظم الكتابات الصحافية المهتمة بالشأن الفني في مصر. لا يقتصر الأمر على الصحافة وحدها، بل نراه حاضراً كذلك في بعض الكتابات النقدية المنشورة، كأن يقحم أحدهم مصطلح المعاصرة ضمن عنوان لكتابه عن الفن المصري الحديث، خالطاً فيما يبدو بين المعنى المباشر واللغوي للكلمة وبين كونها مصطلحاً له دلالته الخاصة. أما على مستوى الفنانين الذين يتبنون الممارسات الحداثية في أعمالهم فنجد أن بعضهم يحمل أحياناً نظرة استعلائية مشوّهة لكل ما يمتّ للممارسات التقليدية بصلة، متوهّمين أن المعاصرة التي يتبنّونها تخرج هذا النوع من الممارسة ضمن تصنيفها. هكذا يتم سحق المصطلح بين التسطيح والتعصب الأعمى والفهم الخاطئ لمدلوله في ظل غياب سند نقدي حقيقي يمكن الارتكان إليه أو الاهتداء به.