خمس حكايات من طرابلس
حكاية أولى
حين تحط بك رحلة طائرة شركة خطوط “الأجنحة الليبية ” في مهبط مطار” معيتيقة” بطرابلس الغرب قادمة من مطار قرطاج بتونس ذات مساء سبتمبري خلت سماؤه من الغيم وسطعت متألقة نجومها، استجمع رباطة جأشك، وحاول، ما أمكن، التماسك نفسياً، لأن وصولك إلى طرابلس، ووجودك في طرابلس، وإن كان يعني لك، شخصياً، الكثير فإنه، في نفس الوقت، لا يعني شيئاً لطرابلس: متى كانت المدن على تعدد أصنافها وجنسياتها، تبدي مبالاة بمن يحلّ بها أو يغادرها، بمن يحبها أو يمقتها؟
طرابلس مدينة من مدن دنيا الله التي يمتلئ بها كوكبنا الأرضي الصغير، لكنها تقع في جزء غير منظور منه أولاً، وثانياً أن ما تدّعيه وتزعمه عن وجود علاقة خصوصية حميمة بينك شخصياً وبين طرابلس قول مردود عليك لأنها علاقة مزعومة أحادية الجانب، وبالتأكيد لا تعني مدينة كطرابلس مر بها غزاةٌ من كل فجاج الأرض، ناهبين سالبين، ثم عافوها وتركوها كقارب مهجور تحت رحمة حرارة شمس ساديّة، على شاطئ بحر تجوبه أساطيل حربية وسفن تجارية، وفي السنوات الراهنة صار يقصده مهاجرون فقراء حالمون يعبرون صحراء قاتلة على أمل وصولهم أحياء إلى شواطئه ثم تحمّل مشاق وأهوال عبوره على أمل وصولهم أيضاً أحياء سالمين لاجئين إلى جحيم جنة موعودة في الضفة المقابلة. وهي مدينة ظلت على مر العصور في مرمى نيران الأعداء من الخارج وفي الداخل، وسقطت مرّات عديدة، ونالها من الأذى الشيء الكثير، لكنها ما زالت حيّة تسعى وإن كانت تجد صعوبة في التنفس، وما زالت تتوسد الصبر وإن كانت غير قادرة على الغناء والبوح، وما زالت كذلك تعيش حياتها كموتور يتملكه ترقب وتوتر في أن تتاح له فرصة واحدة صغيرة ليثأر لنفسه وتهدأ في قرارة روحه، أخيراً وإلى الأبد، نيران ألم ظلت ملتهبة في أعماقه.
تدخل بقدمين مترددتين، كعهدك بهما، مع غيرك من المسافرين إلى صالة الواصلين بمطار معيتيقة، في ليل طرابلسي ساكن ومريب، وتحسّ في ضيق صدرك بتزايد سرعة دقات قلبك المُسنّ، وتنتابك مشاعرٌ خليطٌ من خوف غريزي لا يفارقك وفرح من عاد بعد غياب متهيئاً لملاقاة طفولته. تقول لنفسك مصبّراً “اللي تصبّه السمواتْ تتحمّله الأراضي!”.
حكاية ثانية
طرابلس، كانت دوماً ولا زالت، حكاية أليمة في مجملها، موغلة في القِدم والعراقة والمحن والسذاجة وغرابة الأطوار وتشابك التفاصيل، يرويها رواةٌ بألسنة مختلفة، وبسحنات مختلفة، وقلوب أكثر أختلافاً، وبنبرات أصوات تطول وتقصر، تعلو وتهبط، تتوتر كسهم في قوس مشدود، أو تتدلى باشتهاء واسترخاء كعناقيد في دالية: فكيف يضيق قلبها بتفصيلة صغيرة: أنا؟
مباشرة، لدى مغادرتي مطار معيتيقة، عَنّ لي سؤال:
ماذا لو أن الكاتب الإيطالي إيتالو كالفينو زار طرابلس ودوّن تلك الزيارة في كتابه “مدنٌ غير مرئية”؟
لا أعتقد أن قلعة كالسراي الحمراء، رغم جمالها وسحرها، ستثير فضول كاتب قادم من بلد يعج بالقلاع والحصون، ولا أظنه سيفتح نوافذ روحه أمام عصافير قلبه لتنطلق عالياً في سماء مفتوحة كمفازة من زرقة لا تهرم، ثم تحطّ على قباب جامع من جوامعها العتيقة، وهو القادم من بلد يزدحم بالكنائس والكاتدرائيات والقباب العتيدة، لكنه قد تسرح به قدماه صدفة نحو أزقتها وحواريها العتيقة المهملة والمهدمة، وربما يفتنه ما يكتشفه باقياً مخفياً بين سطور صفحات تاريخها منقوشاً على الجدران ومحفوراً على أبواب البيوت ومتدلياً من تصدعات وشقوق النوافذ والشرفات.
ماذا لو علم كالفينو أن طرابلس متميزةٌ عن غيرها من مدن الدنيا بكونها تاريخياً المدينة الوحيدة على سطح كوكبنا الأرضي التي حكمها “قهواجي” طيلة أحد عشر يوماً؟
أقول لنفسي مذكّراً:” اللي ما هزّه ريح البارح كيف يهزّه ريح اليوم؟!”.
حكاية ثالثة
خلال السنوات الطويلة نسبياً التي قضاها بعيداً عنها، هائماً في مدن الدنيا بحثاً عن نفسه وعن دنياه، ساعياً بدأب وصبر لإيجاد خيط، مهما كان صغيراً وضئيلاً، يشدّ قدميه إلى تراب أرض لا تغلق سماؤها الأبوابَ أمام جيشان روحه، تغيّرت طرابلس كثيراً:
بدلاً من تلك الصغيرة المضمومة على نفسها، كمشموم فلّ، ظهرت أخرى، تمددت في الأرض بشكل سرطاني، ملتهمة البساتين والسواني، أشجار الزيتون والنخيل، حتى غدت غابة اسمنتية معدومة السمات معماريّا وحضاريّا، وبرزت أحياء عشوائية عديدة جديدة بأسماء غريبة.
التغيرات طالت الأحياء والمناطق القديمة والجديدة، إن صح الوصف، رأسماليّا. إذ صارت كل منطقة تعرف بتخصص تجاري معيّن: فمنطقة “زاوية الدهماني” مثلاً صارت مركزا لتجار المواد المدرسية ولوازمها، ومنطقة “رأس حسن” صارت مركزاً لتجار الهواتف المحمولة، ومنطقة “فشلوم” صارت مركزاً لتجار المواد المنزلية. منطقة “الظهرة”، حيث تقيم أسرته منذ خمسة عقود زمنية، تغيّرت هي الأخرى، وصارت مركزاً لتجار الحاسوب أولاً، وفي السنوات الأخيرة، صارت سوقاً مالية منافسة للسوق المالية المشهورة الواقعة في السوق المعروفة تاريخياً باسم “سوق المشير”.
السوق المالية التي يقصدها بائعون ومشترون للعملات الأجنبية كانت في الماضي سوقاً شعبية للخضروات والفواكه واللحوم والخبز وفي أواخر الستينات قامت البلدية بتحديث السوق حيث أزيلت الأكواخ الخشبية وحلَّ محلّها بناء حجري حديث بمحلات حديثة على طابقين قامت البلدية بتأجيرها لتجار الخضروات والفواكه واللحوم والمواد الغذائية لكن في التسعينات بدأ تجار العملة في التسلل إلى السوق ثم الاستحواذ عليها وتحويلها إلى مكاتب صرافة.
بجوار هذة السوق حد التلاصق، مقبرة قديمة تعرف باسم “مقبرة سيدي بوكر”، قامت البلدية في السنوات الأخيرة بإقفال المقبرة ومنع دفن الموتى، كخطوة تمهيدية لإزالتها بعد انقضاء الفترة الزمنية الشرعية. لكن بعد انتفاضة فبراير 2011 عاد الناس لدفن موتاهم بالمقبرة كما كانوا يفعلون في الماضي. ما يلفت الاهتمام هو أن قبور الموتى بعد كل هذه السنين تراكمت وارتفعت بحيث فاقت علو سور المقبرة وصار من السهولة بمكان على المارّين مشاهدة القبور.
سوقٌ لزينة الحياة الدنيا ومقبرةٌ لقبر الحياة الدنيا وزينتها متجاورتان في وئام وسلام!
تساءل في نفسه متعجّباً: “من منهما تسخر من الأخرى؟”.
حكاية رابعة
قبل تجربة السجن، لم أعرْ طرابلس أي أهمية، بل واعتبرتها مدينةً مأهولةً بضجر لا يطاق، وسجناً كبيراً تقفُ أسواره حائلاً بيني وبين تحقق حلمي في الطيران في فضاء الله، فارداً جناحين من شهوة للحياة والانفلات من كل ما يشدّني من قيود.
وكنتُ، أحياناً، في المرحلة الأولى من سني الشباب أحسّ وكأنني طيرٌ محبوسٌ في قفصٍ معدني، وضعتْ فوقه قطعة من قماش كثيف أسود اللون، فصار حاله كحال رهين المحبسين.
في السجن، بعد انجلاء رعب الأسابيع والشهور الأولى، بدأتُ، تدريجياً، في محاولة السيطرة على نبض قلبي، ومحاولة إعادة التوازن إلى روحي. في تلك الفترة، بدأتْ خيوط علاقة جديدة، مختلفة تنسج بأياد خفيّة بيني وبين طرابلس. وشعرت، لأول مرّة، بافتقادها، وكنت كلما انتابتني حالة من حزن أو كآبة أفرّ إليها في أحلامي ويقظتي. وازددت تعلقاً بطفولتي وبصباي، وبدأت بوعي أتصيّد في ذاكرتي كل ما كان يراوغني، بفعل الزمن، من ذكريات في حواريها وشوارعها وأسواقها ومدارسها، وحين وصلتْ تجربة السجن منتهاها، وجدتني، من جديد، وجهاً لوجه مع مدينة أخرى غير ما أحببتُ وافتقدت طيلة سنوات السجن.
لم أعدْ أذكر التفاصيل، أو كيف حدث ما حدث لي، بعد كل هذه السنين، لكن ربما كان ذلك سبباً ضمن أسباب أخرى لا وقت للخوض فيها، جعلتني أحزم حقائبي على عجل، وأغادرها غير آسف ولا نادم، قاصداً مدناً أخرى، باحثاً عن أرض تمكنني من التنفس بحرّية، وتعيد لسماء روحي ما فقدتْ من صحو وصفاء.
الآن، وأنا أجرّ في شوارعها قدمين كهلتين، متعبتين من ثقل سنوات عمري، وأوجاع قلبي، مُفكّراً ومتأملاً فيما انقضى من حياتي بين أسوارها وبعيداً عنها، متحسّراً على عمر تسرّب من بين أصابع يديّ، تمنيتُ فجأة لو أن هناك إمكانية لإيجاد مساحة، لا بأس بها، تمكنني أنا وطرابلس من الوقوف عليها متقابلين، لكي أسألها: “ألم يحن الوقتُ بعد ليذهبَ كل منّا في طريقه؟”.
قلتُ في نفسي متسائلاً: “هل تبقتْ لي طريق؟”.
لندن - ديسمبر 2017 – 3 يناير 2018
حكاية خامسة
مرّ بها أهل الله: أولياء صالحون وقديسون، تشعّ الطيبة والمحبة من وجوههم وقلوبهم منابع للخير والصفاء، ثم غادروها سريعاً لغيرها من المدن والبلدان، بعد أن تأكدوا من أن وجودهم فيها يزيد صدور أهلها ضيقا وكرباً. ومر بها علماء ورحاّلة من أقاصي الأرض، كرسوا حياتهم للترحال طلبا لعلم نافع، توقفوا فيها لفترة قصيرة، بقصد الراحة واستجماع الأنفاس، ثم غادروها مسرعين غير آسفين، بعد أن تيقنوا أن وجودهم بين أسوارها لن يحرك نأمة فضول لعلم في عقول أهلها.
تولى حكمها قراصنةٌ فجّار، وغزاةٌ أعمى بصائرهم التعصب، ولصوصٌ يحترفون النهب والسلب مرة باسم الله ومرة باسم استعادة تاريخ وأمجاد، وقطّاعُ طرقٍ جاءت بهم رياح الصحراء، وجميعهم جعلوا من سراياها الحمراء مأوى لهم وسجوناً لمن ناصبهم العداء، وجميعهم نصبوا مشانق في ميادينها لتعليق معارضيهم، وجميعهم ارتكبوا مجازرهم ونهبهم وسلبهم تحت شعارات عديدة بأسماء مختلفة وهدف واحد: كسر شوكتها وإخضاعها.
كلهم ذهبوا غير مأسوف عليهم، وبقت هي على حالها: بحرٌ من أمامها وصحراءٌ من خلفها، تتوسد مرارةَ صبرها، تنظر بعينين يسكنهما خوفٌ وترقبٌ، شرقا وغربا شمالا وجنوبا، وحين تغيب شمس نهارها تدفن حزينةً رأسها في صدري… ولا ننام.
أقول في نفسي: “يُرْقد المتهنّي”.