خيال ذكوري جامح
إعادة قراءة نص مرّت عليه حقبة من الزمن تصل إلى قرابة ربع قرن كما يظهر في شعار الاستكتاب، أمر أجده علامة مهمة على صعيد المشروع أي الاستكتاب وعلى صعيد المنهج. على الصعيد الأول إنه مشروع يقارب واقعنا بين ما قيل وما هو قائم مقاربة تبين نجاعة الخطاب الثقافي العربي من عدمه، أي تبين بجهد تحقيبي أن كثيراً من الإشكالات الثقافية والاجتماعية كان للثقافة العربيّة دورها السبّاق بها بالمقارنة مع نظيراتها من الثقافات؛ إلا أنها لم تظهر أثراً محموداً على الواقع بالمقارنة مع غيرها من المجتمعات، فالقراءة بهذا الشكل تبين أمرين سبق ثقافتنا لغيرها في طرح ومناقشة أمور مهمة كان لها السبق على غيرها من الثقافات، إلا أنها لم يكن لها التأثير نفسه بالمقارنة مع غيرها من الثقافات والمجتمعات مما يبين عدم نجاعة الثقافة العربية من حيث التأثير والقدرة على إحداث المغايرة الحقيقية وكان المجتمع العربي يعاني من استفحال التخلف وتأبيده له، وهنا تكمن أهمية الاستكتاب فهو يقدم إعادة قراءة للمشاريع الثقافية وقياس أثرها من عدمه في الواقع المجتمعي وهذا جهد محمود وسباق.
أما الأمر الثاني فإن قراءة المشاريع الثقافية السابقة ونقدها يعد من الأمور المنهجيّة والحيويّة وظاهرة صحيّة من الناحية الثقافيّة، فبدلا من أن تكون ثقافتنا مجرد ترديد للثقافات الأُخرى تمر بمظاهر تقليد المشاكل والأجواء الثقافية التي لم تعشها أصلا وتترك الرهانات الحيويّة داخل الثقافة العربية وبهذا المشروع النقدي يتم تحقيق المراكمة والقراءة لما تم طرحه من مشاريع تحقق تقويما وتمثل استيعابا وإعادة إنتاج نقدي يحقق التقويم وإعادة طرح لمشاكل بعد فحص الآليات والمنهج وتقويم عدم النجاح أو تحليل إمكانيات النجاح من حيث راهنية المشكلة وحضورها الطيفي في الواقع العربي.
انطلاقا من الأمرين معا أجد أني أقف بإزاء مشروع ثقافي قدّمه مثقف كان له مشروعه الذي يشكل إضافة على صعيد المنهج والرؤية، فهو منفتح على المتغيرات الثقافيّة المعاصرة من ناحية ومشتبك بالواقع ومشاكله من ناحية ثانية أي أنه مطلع على المتغيرات العالمية بكل حداثتها وعلى الواقع بكل محليته مع إدراك المؤثرات الثقافية للماضي واشتباكه مع الحاضر والقوى الاجتماعية الحاضرة التي تقدم مقاربات مختلفة انطلاقا من مصالحها؛ وإن كانت توظف الماضي أو الحداثة من زاوية براغماتية طبقيّة من ناحية ثانية.
وهذا يتطلب منا أن نقدم تعريفاً للمثقف ورهاناته الثقافية والاجتماعية أولاً ومنها الرهان الحاضر في مقالة موضوعها المقاربة النقدية: أولاً من هو؟ ثانياً ما هو الرهان الذي حضر بقوة هنا في هذا المقال؟
أما على صعيد السؤال الأول الذي هو مقاربة منهجية لما هو علم من أعلام الثقافة العربية كان حاضراً بشكل بارز في الواقع الثقافي والأكاديمي، فإن عزيز العظمة هو كاتب ومفكّر وباحث سوري ولد في دمشق عام 1947، والتحق بمدرسة برمانا العالية في لبنان وهو في الثامنة من عمره، ودرس التاريخ والفلسفة في جامعة بيروت قبل أن يلتحق بجامعة توبنغن الألمانيّة إذ تحصّل على درجة الماجستير في الفلسفة تحديداً في الدراسات الإسلاميّة والعلوم السياسيّة. وواصل تعليمه بجامعة أكسفورد التي تخرّج منها بنيله شهادة الدكتوراه في الفلسفة تحت إشراف ألبرت حوراني وكان موضوع رسالته “ابن خلدون في الدراسات الحديثة”. (انظر: موقع مؤمنون بلا حدود).
وقد تناول العظمة في مؤلفاته الكثيرة والمتنوعة شخصيّات ومشاكل لها أثرها في الواقع العربي ومن هذه المؤلفات التي يمكن أن يكون لها أثر في -دراسته هنا- وهي من ضمن كتبه: (ابن تيمية، الماوردي، محمد بن عبدالوهاب، ابن خلدون وتاريخيته، أبوبكر الرازي، المسعودي، التراث بين السلطان والتاريخ، الإسلام والحداثة، العلمانية في الفكر العربي الحديث، العرب والبرابرة، إفصاح الاستشراق، المستقبل العربي)، والشعوبية ضد الديمقراطية (عن كتاب ديمقراطية من دون ديمقراطيين-سياسات الانفتاح في العالم العربي الإسلامي).
درّس في جامعات بيروت والكويت انطلاقاً من سنة 1985 ودرّس العلوم الإسلاميّة في جامعة الشارقة فضلاً عن تدريسه لمادة التاريخ المقارن في جامعة بودابست. ودعي أستاذا زائرا في جامعات ييل وكولومبيا وكاليفورنيا وجورج تاون. ودرّس وحاضر في العديد من الجامعات والمؤسسات العربيّة والأجنبيّة. وعمل في هيئات تحرير عدد من المجلات العلميّة الأكاديميّة. وشغل منصب أستاذ كرسي الحضارات الإسلاميّة في جامعة إكستر ببريطانيا. وترأّس المنظمة العربيّة لحقوق الإنسان/فرع بريطانيا. (المصدر السابق.)
النتيجة التي يخرج بها “أن الخطاب الأدبي والفقهي واليومي عن المرأة نزع عنها إنسانيتها -أي فاعليتها وشخصيتها وكيانها الوضعي- واختصرها في أنوثتها المفهومة على كونها انفعالا، ورمى بواقعها إلى حيز ما هو غير طبيعي”
هذه المؤلفات تنطلق من مقاربة حداثية في قراءة الواقع العربي ومشاكله الثقافية بالانفتاح على الآخر سواء كان التراث وحاكميّة النص أم الآخر وهو الغرب وتمركزاته.
ثانياً: ما هو الرهان الذي حضر بقوة هنا في هذا المقال؟ لقد تمركز المقال على نقد التمركز الذكوري في الثقافة العربية قديمها وحديثها في تهميشها دور المرأة، بكل ما يتعلق بحق المرأة ونقد التمثيل القائم ضدها ثقافيا واجتماعيا، القائم على نفيها وإخفاء صوتها، وقد يكون الملفوظ المشترك بين الرجل والمرأة هو الحرية والكرامة في مجتمع حرّ، بعيدا عن كل تهميش وإقصاء هذه هي أطروحته المركزية في هذا المقال.
العنوان الفرعي يكثف كل المقال “العفة للرجل والشبق للمرأة، السيطرة على المرأة عنوان السويّة الاجتماعية والوفاء للتراث والجماعة المتخيلة“. يقول بارت إن العنوان هو ثريا النص، بمعنى أنه يكثِف النص، وهذا العنوان الفرعي هو بمثابة تكثيف لمحاور المقال الذي يدور حول ثنائيّة نمطيّة تخيليّة إقصائيّة، الرجل/العفة تقابلها ثنائيّة سلبيّة المرأة/الشبق، هذه المقابلة تمنح الرجل وثقافته الذكورية دورا يتمثل في المركز وتجعله يتحلى بالعفة فيما تجعل من المرأة بعدا إيروسيا رهينة إلى الشبق الجنسي. والهدف المرجو من هذا التنميط التخيلي ارتهان إلى الأحكام التراثيّة من ناحية ومن ناحية أخرى جعل كل هذا يصب في الحفاظ على الهويّة للجماعة المتخيلة تلك الجماعة التي يعرفها بندكت أندرسن، “الأمة هي جماعة سياسية متخيلة، حيث يشتمل التخيل أنها محددة وسيدة أصلا” (الجماعات المتخيلة، ص63).
فهذا الخطاب التخيلي للجماعة منح المرأة دوراً نمطياً إقصائياً تجلى في ثلاثة خطابات هي الخطاب الأدبي والفقهي واليومي، وقد نزع عن المرأة إنسانيتها في صورها الخطاب الأدبي بوصفها “الأنثى المتصورة والمتخيلة، مخلوق برأسين: ملاك وأفعى، لا واسطة أو صلة بينهما. أو حورية وأفعى، هناك الأنثى الأم ضامن الاستقرار النفسي والاجتماعي ضامن مفهوم الجماعة عبر مفهوم الشرف وإعادة إنتاج الجماعة القيمية، ونرى طبعاً، أن الجماعة إنما هي جماعة الذكور الأشداء الأبطال، يضمن شرفها مخلوق ناقص، هو المرأة!” وهو يرى أن هذا الخطاب المتخيل بهذه الصور النمطية منساب في “في كل زوايا الخطاب العربي العالم والجاهل على حد سواء”.
أما على مستوى المخيال الشعبي العربي في الخطاب الشفاهي نراه يصور المرأة تصويراً غير إنساني بل هو مجرد موضوع للرغبة والإثارة والشبق “وهي ذات ردفين يجتمعان في عجيزة فخمة، لعل أبلغ من وصفها هو نجيب محفوظ في معرض كلامه عن الذوق النسائي للسيد أحمد عبدالجواد”.
يقدم عزيز العظمة تفسيراً عن مسوغات إنتاج تلك الصورة النمطية حول المرأة بوصفه “تصوراً قائماً على إتاحة المجال لخيال الرجل من دون مساءلة. وفي الأحيان القليلة التي حصلت فيها مساءلة على نحو جدي، لم تنته على خير، بل سجّل خطابها وكأنه هجاء للذات، كما حصل في بعض الحكايات البغدادية التي يروي لنا الجاحظ بعضاً منها، كحكاية الجارية التي سلكت مع غلام سلوك اللائط بالملاط به، شهّرت في الأسواق على ظهر جمل، وإن كانت لم تحجم عن الاستمرار في الاعتراض وفي التنديد، وهي مشهّر بها”.
أما على المستوى الفقهي “وهذا، طبعا، أمر كان يجري تبعا لطبيعة المجتمعات العربية الإسلامية القديمة التي لا تتمايز عن غيرها من المجتمعات الوسيطية، بل هي تشترك معها بكونها قائمة على تراتبية اجتماعية معلومة، عبّر عنها الفقه الإسلامي في فصله للقابلية القانونية للأفراد بين الحرّ والعبد والمرأة والرجل، والمسلم والذمي والمستأمن.. إلخ”.
والنتيجة التي يخرج بها “أن الخطاب الأدبي والفقهي واليومي عن المرأة نزع عنها إنسانيتها -أي فاعليتها وشخصيتها وكيانها الوضعي- واختصرها في أنوثتها المفهومة على كونها انفعالا، ورمى بواقعها إلى حيز ما هو غير طبيعي”.
وهذا الأحكام تشهد اليوم تحولا مهما إذ جاء التصور المعاصر وقد شكّل قطيعة مع الفهم القديم بقوله “ولكنّ التاريخ قد منّ علينا في القرنين الأخيرين بتصور مغاير يقوم على اعتبار المرأة بوصفها مواطنة، أي من دون تمييز قانوني بينها وبين الرجل، في وضع ليس هناك فيه تفريق بين الحرّ والعبد، والمؤمن والملحد”. إن تلك المقاربة النقدية تقوم على ثوابت أساسيّة يمكن إجمالها بالآتي:
“أنوثة وذكورة “: في هذه المقاربة نجده يؤكد على إنه لا يعتقد: أن ثقافتنا العربية المعاصرة بلورت خطاباً حول الأنوثة. هناك صوت أنثوي، وهناك خطابات كثيرة ذكرت، وأخرى انثنت…”، وهو هنا يركز على التمثيل الذي قدّمه الغرب عن الآخر بوصفه صوت أنثويا كما تجلّت تلك الصورة في النصوص “الكولونيالية الأوروبية التي تنتمي إلى القرن التاسع عشر
الإسلام والمرأة
أولا “الإسلام والمرأة“: في هذه المقاربة يؤكد “الإسلام على شاكلة معظم الأديان، خصوصا التوحيديّة منها، يذكر السلطة الإلهية بالسليقة، ويجعل منها سلطة أبوية. وثمة دور بالغ الأهمية، في بعض الأحيان، لشخصيات مقدّسة نسائية كالعذراء مريم. ولكننا نرى أن الدور الذي تؤديه العذراء ليس دورها المقرّر والفعال، بل هو دور الشفيع″. فهو يقارب الدين مقاربة تاريخية ويرى أنه “يقنّن الدونية الدنيوية للمرأة، وذلك كدأب كل المجتمعات السابقة على الحداثة التي تجعل من الصفة القانونية للناس صفة تفاضلية. أي أن هناك حكماً للعبد، وقانوناً للحر، وحكماً للمرأة وقانوناً للرجل وحكماً للذمي وحكماً للمسلم، إن لم يكن في كل الأمور ففي بعضها وبعض إلهام منها (الزواج، الشهادة، الميراث)”. وبالآتي فهو يعترض على أي مقاربة تتجاوز تاريخية النص ويقول “فإنني أعترض على كتابات بعض التقدميات العربيات ممن يحاولن أن يضارعن الخطاب الإسلامي حول المرأة بخطاب ذي منطوق تقدمي”.
شرف الرجولة
ثانيا “شرف الرجولة“: في مقاربته هنا يفصل بين استنارة عصر النهضة والقراءة الإسلامية فيقول “منذ أيام محمد رشيد رضا (بعد انقضاء فترة استنارته وتتلمذه على محمد عبده) جعل الإسلاميون من قضية المرأة المسألة المحورية لإدارة الصراع الاجتماعي والفكري، فأصبحت قضيّة المرأة وحقوقها وتحرّرها الاجتماعي والفكري والسياسي والجسدي كناية -وأعني كناية بأكثر المعاني صرامة- عن مجمل المجالات الأخرى في الصراع بين الإسلاميين والعلمانيين. فباستشارة قضية المرأة يصار إلى استدعاء جملة أوسع كثيرا من القضايا الخلافية في المجتمعات العربية، وعلى رأسها مرجعيّة السلوك الاجتماعي والسياسي”.
أنوثة وذكورة
ثالثا “أنوثة وذكورة “: في هذه المقاربة نجده يؤكد على إنه لا يعتقد: أن ثقافتنا العربية المعاصرة بلورت خطاباً حول الأنوثة. هناك صوت أنثوي، وهناك خطابات كثيرة ذكرت، وأخرى انثنت…”، وهو هنا يركز على التمثيل الذي قدّمه الغرب عن الآخر بوصفه صوت أنثويا كما تجلّت تلك الصورة في النصوص “الكولونيالية الأوروبية التي تنتمي إلى القرن التاسع عشر نرى فيها تذكيراً بالذات الكولونيالية القاهرة الفعالة، وتأنيثاً أو تخنيثاً للذوات المستعمرة والمقهورة والمفعول بها”.
إلا أنه يؤكد على إن الخطابات العربية الاجتماعية التي يجب أن تنشغل بالمساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق الاجتماعية التي تتجاوز الجنس بوصفهم مواطنين متساوين في الحقوق من دون استثناءات وتأكيده هنا على ضرورة أن تكون الديمقراطية “أن تبتدئ في الخليّة الاجتماعية الأساسية التي هي الأسرة.. وهذه الأخيرة على أهميتها وفائدتها في مجال التوعية والإعلان عن وقائع ونتائج الدونية الاجتماعية للمرأة، وصفاقة وحتى همجية العلاقات الاجتماعية البطريركية”.
ريادة الرجل
رابعاً “ريادة الرجل خطاب تحرر المرأة“: هناك دور فعال للرجل في تحرير المرأة والمطالبة بحقوقها، إلا أن الواقع الاجتماعي أقام تصوراً للمرأة وما يمكن أن تؤديه من أدوار اجتماعية أو تمارسه من مهن، إذ يرى الباحث العظمة “أن للمرأة في المجتمع حيزات معينة كالقيام على البيت والخياطة والسكرتارية والتدريس (الابتدائي خصوصا) وكتابة روايات الحب وتذوق شعر نزار قباني. ونرى تلك القناعة السلوكية مترجمة في سياسات المؤسسات والاتحادات الرسمية للمرأة في الدول العربية المختلفة، ومنها الدول اللادينية، حيث تقتصر فيها برامج التأهيل المهني على حرف كالخياطة والتطريز والسكرتارية، وشيء من التمريض، وما أشبه من الحرف “اللائقة” بالسيدات”.
الخطاب التحرري
خامساً “الخطاب التحرري النسوي”: نجده هنا يقارب بين الحركات النسوية بين الغرب وعالمنا العربي ويدرك طبيعة الرهان النسوي في الغرب ومواضعاته ونقاط القوة فيه ونقاط الضعف، فهي تبقى نقاطا ترتبط بالإشكالية الغربية التي تسم تلك الحركات النسوية وبحسب توصيفه لها بالرادكالية وعلى الرغم من كل هذا فهي بنظره “مازال قطاعا هامشيا” رغم مؤسساته في إطار ما يدعى في الولايات المتحدة بـ”التعددية الثقافية”، فيصار إلى اعتبار النسوية وكأنّها شأن مضارع ثقافيا للوحدات الإثنية المختلفة، أو الفرق الدينية وبالآتي فهي “بمثابة التأثير لا في الحياة اليومية، بل عن طريق مقايضة الامتيازات والحقوق، كما تقايض بها جماعات الضغط على أساس من المحاصصة المؤسساتيّة، وليس على أساس من الاندماج في نسيج المجتمع″.
أما حالها في عالمنا العربي فيبدو أكثر ضعفاً “فما زلنا نعاني من درجة عالية من التخلف الاجتماعي والمؤسساتي، مما لم يسمح، حتى الآن، بتبلور جماعات ضغط فعليّة، ناهيك عن جماعات الضغط التي تستند على اعتبارات نسوية، وبالآتي فإذا كانت صورة المرأة في الغرب هي نظير صورة الآخر… فإن المرأة العربية هي آخر الآخر”؛ فإنه يجعل من إصلاح حال المرأة خطوة مهمة من أجل تقويم الحال من “مقاومة لعمليات السلب والسيطرة الأجنبيتين يجب أن يستندا على نهوض اجتماعي شامل تشكل قضية المرأة ركناً أساسيا فيه”.
هذه الخطابات تنتمي إلى التوجهات نفسها التي تتعامل مع المرأة كمتعة أو غواية لا كونها إنسانة لها سمات مساوية للرجل بل كموضوع للرغبة الذكورية وهو ينقل هذا في باب الرغبة حتى في العالم الآخر
اللغة والجنس
سادساً “اللغة والجنس“: إذا كانت اللغة تحتل مكانة مهمة؛ نظراً إلى كونها تمثل الخزين اللاشعوري للعقل العربي وهي بالآتي تبين نقاط الضعف والعجز التي تعاني منها الثقافة العربية بقوله “أعتقد أن كل اللغات تساوق تطور (أو نكوص) حركة المجتمع. وأتكلم، طبعاً، حول حركة المجتمع على الآماد الطويلة. لا أعتقد -إجابة عن سؤالك- أن أيّ لغة قادرة على مقاومة صياغة الخطاب العلمي بها، إن كان هذا الخطاب قد تأصّل في مؤسسات الفكر التي تستعمل هذه اللغة.. لذلك أرى ما يحدث في الولايات المتحدة شأناً مضحكاً عندما يصار إلى سن قوانين تتعلق بنزع صفة التأنيث أو التذكير عن بعض العبارات، مثل رئيس الجلسة أي تحويل (CHAIR WOMAN) إلى (CHAIR PERSON) ولا أرى في ذلك إلا نوعاً من القسر غير الطبيعي للغة”.
وينتقد بعض الخطابات النسوية بالقول “إن سمة تكاد تغلب على هذا الخطاب النسوي هي سمة طهرانية غير تحررية قائمة على اتقاء الرجل، سمة تقدم نقداً أخلاقياً للرجل بوصفه منحطاً بالسليقة، هو خطاب ذم للرجل ومساجلة له وهو خطاب يشبه ما كان متداولاً في الأوساط الأخلاقية البورجوازية المحافظة في أوروبا وأميركا (البروتستانتينية على وجه الخصوص) منذ أكثر من نصف قرن. بل نرى في هذا الخطاب تشديداً على عفة المرأة وغياب هذه العفة عند الرجل، وكأننا بموازاة الخطاب الوسيط الذي يعزو العفة للرجل والشبق المنحل للمرأة”.
خطاب الجسد
سابعا “خطاب الجسد“: يرصد في مقاربته النقديّة وجوها ومنها الخطاب الفقهي “الذي يقنن علاقات الأعضاء المختلفة بما عداها من الجسد”. وهذا التقنين ينتمي إلى الآليات نفسها التي رصدها العظمة في الخطاب الفقهي إلى جانب الأدبي فهو خطاب حكائي تهييجي يتناول علاقة أعضاء جسد بأعضاء جسد آخر. إلى جانب الخطاب الفقهي فهو “بالغ السعة في هذا المضمار. ولكن الجسد كوحدة متكاملة، ما كان موضوعا لخطاب متكامل، ولو كان كلّ من أعضاء هذا الجسد وأطرافه ومواضعه وحيّزاته مواضيع الخطاب لكان خطاباً فقهياً أو خطاباً بصاصاً. بذلك يقتطع الجسد إلى مناطق ويقنن إما عن طريق مفاهيم فقهية، أو عن طريق مناطق غير مترابطة للرؤية وللفعل (مثال ذلك ما أسلفته حول نموذج المرأة الجميلة الشهية في التراث، ووصف تسمية أعضاء المرأة الجنسية استنادا إما إلى شكلها أو حجمها، أو الصوت الذي تصدره عندما تخضع لعمليات شتى). إذ يستثني هذا الخطاب مفهوم اللذة بالمعنى الفعلي للعنوان؛ لأن اللذة يستعاض عنها في هذا الخطاب بمراقبة الممارسة تامة السيطرة على الجسد المتخيل للآخر. ونحن نرى بذلك كيف يرتبط هذا التصور البلاستيكي البحت للجسد بمفاهيم الجمال التي سبق وتكلّمت عليها”.
والنتيجة أن هذه الخطابات تنتمي إلى التوجهات نفسها التي تتعامل مع المرأة كمتعة أو غواية لا كونها إنسانة لها سمات مساوية للرجل بل كموضوع للرغبة الذكورية وهو ينقل هذا في باب الرغبة حتى في العالم الآخر فيقول “فالرجال في الجنة لا يرغبون ولا يرتوون. بل إنهم يراقبون أنفسهم، فاعلين في موضوعات للفعل، هي تلك الأصنام المصنوعة من المسك والعنبر ذات النهود الكاعبة والأرداف الضخمة التي تسمى بـ”الحوريات”.
نجد أنه كان ينتمي في مقاربته النقدية إلى آخر الأطروحات المعاصرة والتي تتعامل مع حقوق المرأة بوصفها إنسانة ومواطنة مساوية للرجل في الحقوق والقدرات وليست بمجرد موضوع رغبة.