خيانة

الجمعة 2019/03/01
لوحة: سعد يكن

أتراني خنت مريم كما خانها الزمن وغدر بها! فبعد صدور مجموعة “سأحدثكم عن مريم”، وتوزيعها قال لي أكثر من صديق: ولكنا لم نجد قصة واحدة اختصت بمريم. تلك التي تصدرت عنوان المجموعة؟ نعم، وعدتكم بالحديث عن مريم ولم أفعل، “سأحدثكم عن أيمن” مقطع من أغنية اقتبست منه عنوان المجموعة.

لا أعرف حقيقة وحتى لحظة كتابة هذه السطور، لماذا أثر فيّ كثيرا موتها التراجيدي. بداية حدثتني أمي، ثم سمعت ذات الحكاية من خالتي وأخوالي. وهنا حدثت نفسي بأني أريد أن أعرف أكثر وأكثر عن جدتي مريم. ولكن حين قررت فعلا الكتابة عن مريم، كان أغلب من عاصروها قد رحلوا. أمي لا تذكر إلا نتفاً صغيرة، وكذلك خالتي التي رحلت، وحتى أخوالي لم يعطوني معلومات تشفي غليلي. وأدركت أنني في حالة لوم داخلي مع نفسي، لماذا تأخرت في البحث والسؤال وتحري المعلومة حتى غادر الحياة أغلب من عاصر حياة مريم؟

نعم كنت أعول على جارتنا سلامة كما يسمونها (سلوم). لكنها رحلت وغادرت الحياة قبل أن يتسنى لي الجلوس معها. لعل موت الجدة قد وقع في العام خمسين وتسع مئة وألف من القرن الماضي، وذلك بحسب تقديري لعمر أمي الآن. وبهذا تكون الجدة مريم قد عاشت في العقدين الثالث والرابع من القرن الماضي.

حين تتحدث عن أي حدث شخصي خاص وتعتبره خاصاً بك جدا، فإنك في الواقع تتحدث عن مكان وزمان وبلد، حيث أن الخاص لا ينفصل عن العام، بل كلما تعمقت في خصوصيتك كنت أكثر قربا وصدقا من واقعك. كيف كانت الحياة آنذاك؟ أسر ممتدة تعيش في بيوت مبنية من الطين والجس في الشتاء ثم تنتقل في الصيف إلى المظاعن المبنية من العريش. وتكون المظاعن مبنية من سعف النخل.

كانت النساء تقوم بشتى أعمال البيت، يباشرن أعمالهن منذ الصباح الباكر بغسل الملابس في العين، ثم يجتمعن حول العين ويفطرن معا، ويتبادلن أطراف الحديث. تقوم النساء بالطبخ والكنس، وتربية الأولاد. كان الزاد قليلا والبركة كثيرة. هذا بعض ما سمعته من النساء اللواتي التقيتهن بغرض التعرف على الحياة آنذاك.

حين تتحدث عن أن النساء يغسلن الملابس والأرز في العين، فأنت حقيقة تتحدث عن حقبة من الزمان في حياة البحرين قد انقضت حين كانت العيون منتشرة.

أي أثر أدبي يتحول إلى أثر تاريخي بعد حين. هذه العبارة سمعتها من الدكتور وهب رومية أستاذ الأدب الجاهلي وعميد كلية الآداب بجامعة دمشق سابقا، عندما كنت أدرس الأدب العربي بجامعة دمشق، وكان رومية يدرّس الأدب الجاهلي ويشرح المعلقات بطريقة جميلة جدا. ولا أدري لماذا ما زلت أتذكر تلك العبارة حتى الآن بالرغم من مضي أكثر من ثلاثة عقود.

لم أفهم معنى النكسة وهزيمة 67 إلا حين عرفت مشاعر الناس إبان وقوع الحدث في رواية “خديجة وسوسن” للراوئية الراحلة رضوى عاشور.

واليوم أنا أكثر اقتناعا بأن الأثر الأدبي يمكن أن يشرح ويفسر لك الحدث الاجتماعي أو السياسي من خلال تأثيره على حياة الناس.

ولكن ما هو الخيط الذي قادني للتحدث عن مريم؟ من المعروف أننا نورث عن آبائنا وأجدادنا الكثير من الصفات وقد نعاني من نفس الأمراض التي يعانون منها. نحن في الواقع نحمل صفاتهم الداخلية والخارجية، ونتصرف مثل تصرفاتهم، بل حتى تلك الصفات التي نكرهها فيهم.

قبل عدة سنوات كنت في جلسة علاج بالألوان مع أحد المتخصصين الأجانب في هذا المجال. وكنت أشتكي من علة ما، حينها سألني “هل سبق لك أن أجهضت؟”. وهنا فغرت فاهي، فما علاقة الإجهاض بحالتي المرضية  تلك، وبما أعانيه؟ أجبته نعم أجهضت، ولكن هذا حدث مضى عليه الآن (حينها) أكثر من عشر سنوات. وأجابني قائلا: بالعبارة التي لم أزل أتذكرها YOUR BODY REMEMBER WHAT YOUR MIND FORGET .

في الواقع إن أي حدث نعيشه أو نمر به يسجل في ذاكرة الجسد، سواء تذكرناه أم لم نعد نتذكره. هذا هو الخيط الذي قادني إلى مريم أو جدتي مريم التي أجهضت عدة مرات. نعم، ثمة أجنة لم تستطع أن تهبهم الحياة، لكنها بالطبع سجلت في ذاكرة جسدها كل تلك الآلام الجسدية والنفسية. نعم، أجهضت وكذلك أجهضت بعض أخواتي، والبعض من نساء العائلة أيضا. هذا ما أود قوله: إننا نرث الكثير عن آبائنا وأجدادنا؛ صفاتهم الشخصية، طباعهم، أمراضهم، طريقة التعبير، طريقة الحديث، بل نشبههم حتى في تلك الصفات التي لا نحبها فيهم. (استشهاد من رواية كل الأشياء). لذلك أعتقد أننا ورثنا عن الجدة مريم ثيمة فقد الأجنة.

وتأكيداً على أن الأثر الأدبي يتحول إلى أثر تاريخي، ويعطينا صورة عن ملامح الحياة الاجتماعية، والثقافية والسياسية في حقبة ما من الزمن، ما معنى أن تلد الجدة مريم في البيت وتتعسر، يعني أن النساء آنذاك في تلك الحقبة من الزمن كن يلدن في البيت، وقد يكون الوعي قليلا، أو الرعاية الصحية غير كافية. ثم موت وليدها أيضا مؤشر على درجة الوعي آنذاك، ربما مات وليدها بسبب مرض ما، بسبب الإهمال، بسبب عدم توفر وسيلة مواصلات مناسبة تنقله إلى المستشفى.

إذا تأملنا قليلا في عناصر القصة القصيرة، فهناك عناصر المكان والزمان والشخصية، ولا يمكن لأي حدث أن يكون بدون توفر الزمان والمكان والشخصية. كما أنه لا يمكن عيش الحالة وسردها في آن واحد، لذلك فزمن السرد مختلف عن زمن الحدث. بل ومختلف حتى في التفاصيل، ولو مثلا حاولت أن تسرد حادث سيارة وقع قبل ساعة من الآن فلن يكون هو ما حدث بالضبط، سيكون السرد مضافا إليه الشعور والمشاعر، ربما سيكون مختلفا قليلا أو كثيرا.

ما كنا لنستطيع التحدث عن معاناة مريم أثناء المخاض في نفس زمن العيش. يحاول الناس دائما السيطرة أو التغلب على غربة المكان والزمان. قد يعيش الإنسان غربته حتى وهو في عقر داره، وقد يغدر به الزمن، وينتصر عليه ولا ينتصر له.

حين فرغت منها، (سأحدثكم عن مريم)، عدت لأقرأها كمتلقية لا ككاتبة. حينها وجدت أن ثمة رابطاً خفياً يربط جميع قصص المجموعة، رابطا لم أضعه في حسباني ولم أخطط له إطلاقا ألا وهو رابط الفقد، فمن موت الجدة مريم إلى موت صديقة العائلة حميدة في نفق المعيصم، إلى موت البطلة في إليكم أيها الأحباء، إلى موت بتول في فقد، إلى موت الزوج والحبيب في كارثة، إلى موت أم فاضل (طيف)، إلى موت زميلة العمل المتذمرة في سرير الغريبة، إلى خيبة الأم في تسقي البعيد، إلى انكسار فاطمة في أمي تناديني، إلى موت الخالة في استجاب الله لها، إلى موت أم العروس في غدا سأرويها لكم.

يجمع كل هذه القصص رابط الفقد والخيبة. ولا أعرف لماذا لا نعبر إلا حين الفقد؟ كأنما الفقد هو الذي يدفعنا إلى التعبير والفضفضة. حين ترسم لوحة، مثلا لوحة فنية لعين عذاري، فأنت تفتقد تلك العين الجميلة التي نضبت، وحين تجد أكثر من شخصية في المجموعة قد هزمها مرض السرطان تعرف أنها حقبة ينتشر فيها هذا المرض، بسبب ضغوط الحياة ونظام الأكل المصنع.

في قصة  “تسقي البعيد” تعرف أن هذا بلد يعاني من البطالة، وهكذا، ستعرف عن البحرين أكثر وأكثر، أو أي بلد آخر من خلال الأعمال الأدبية أو المنجزات الأدبية، لذلك فإن الأثر الأدبي سيصبح أثراً تاريخيا بعد حين، وتستطيع أن تعتمده مرجعا في قراءة تاريخ أي بلد. والمنجز الأدبي برأيي يفوق المنجز التاريخي، في الوصف والشرح، ومعرفة حياة الناس في حقبة من الزمان، فأنت ستعرف أكثر عن الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية من المنجز الأدبي.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.