خيطُ شعاع
من حق الشعراء أن يكتبوا ما يريدون، لأنهم الفئة الأولى بالرعاية، يستطيع الواحد منهم أن يخلّد كذبة، فيقوم له آخر ليلمس حقيقة مُرّة، الشعراء لا تحدّهم خرائط الجحيم التي نعيش فيها، لكن ما من شاعر كبير على وجه الكرة الأرضية، إلا وكان انشغاله كبيراً بما يراه كل يوم، دعك من الحديث عن أن “ما بعد الحداثة” أنهت كل ما يمكن أن يقال عن صراع في التاريخ بين “الرأسمالية” وغيرها، لأن الصراع واقع على الأرض العربية فعلاً، أمام أعيننا ليل نهار والشعراء يتركونه ليتهكموا على المصائر المذرية والأيام التي تمر في فراغ القتال ضد الأعداء، الذين تقول عنهم الصحف والإذاعات والقنوات الفضائية كل يوم، إنهم ـ ويا للغرابة ـ هم أنفسهم الأصدقاء.
على الشاعر أن يقول تجاربه، لا أن يشتري التجارب، المدّعون مصيرهم معروف، على الشاعر أن يرتب ما لديه من زهور في الحديقة، كبستاني مغمور في آخر العالم، كل ما يمكن أن يسعده، أن يبتسم بعض العابرين لهندسة المكان، وطريقة وضع الزهور، ليس على الشعراء أن يرتكبوا الحماقة التي تقودهم إلى بئس المصير، بأن يقولوا ما لم يعرفوا، وما لم يعايشوه بأنفسهم، هذه القصائد تحتفظ بمادة دسمة جداً يلتهمها الفئران في مخازن الكتب، كل يوم، لكنها تتكدس بعيداً عن العشاق، الذين يبحثون في الشعر عن مآرب أخرى.
نسيت أن أقول إن الشاعر لديه ميتاته وقتلاه وجرائمه، وليس عليه أن يفتعل الجرائم لكي يرضي أحداً، الشعراء لا يرضون أحداً أبداً إلا أنفسهم، بمعنى أنه ليس عليه أن يقول ما لم يحط به علماً، لو كتب الشعراء جرائمهم هم فقط، سيتغير وجه الشعرِ في العالم، يكفي أننا سنعرف شيئا مؤثراً عن كل هذه الجرائم التي تخلّف الكثير من الدماء والدموع، والتي تذيعها الصحف وتنقلها القنوات، على طريقة مَن يعلن أسماء القتلى في حادث قطار ثم ينهي بأغنية.
في هذا “العالم بالمقلوب”، لا تطلبوا من الشعراء أن يكونوا مصلحين أو أنبياء أو مقاتلين ـ حتى ـ ضد الأعداء، الشعراء هم الفئة الأولى بالحياة على هذا الكوكب، ومن حقهم أن يعيشوا لكي يتفرغوا لرؤية العالم معدولاً على غير العادة، إنها مهمة شاقة جداً أعرف، لأن العالم لا يمكن أن يصير معدولاً بسهولة، هذه حكاية مُكلفة، ولا يقدر عليها الكثير من الذين يعتبرون أنفسهم شعراء.
لو كان من حقي أن أنصح نفسي بشأن القصيدة التي يجب أن أكتبها، فسوف أنصحها بأن تتوقف طويلاً في أيّ محطة “باصات”، في أي مدينة فقيرة في العالم، فهناك ستكون ثمة قصيدة عنيفة ومدهشة، تقف على هيئة بائع جوال أو متسول، يرتدي ملابس مزرية، ويتسخ جانب كبير من وجهه بفعل التجوال، وتكشف ضحكته عن أسنان بالية، لكنها ضحكة لا تزال قادرة على أن تكون موجودة، الكتابة عن هذا الرجل، مثلاً بالنسبة إليّ، محاولة لرؤية العالم معدولاً.
باختصار، وعلى حد قول شاعرنا الفلسطيني الراحل، طه محمد علي، فإن الشاعر عليه أن يحاول عبثاً أن يضيفَ خيطَ شُعاعٍ إلى الشَّمس، على نحو ما قال في إحدى قصائده:
“ما رأيته مرقوماً على شاهدي
في باحة أحد كوابيسي:
هنا يرقدُ امرؤٌ
حاول عبثاً
أن يضيفَ خيطَ شُعاعٍ
إلى الشَّمس.