دبوس نسائي في أصابع عاشق أرستقراطي
أذكر في أحد شتاءات دراستي الجامعية ذلك النقاش المطول الذي دار بيني وبين أبي رحمه الله.
كانت مجموعة «قصائد متوحشة» لنزار قباني على الطاولة الصغيرة بيننا، كان أبي يتحدث عن لغة نزار الخاصة وعوالمه الفريدة، كان يحاول بهدوئه المستعد للانسحاب دائماً أن يمرر لي فكرته البسيطة؛ وهي أن نزار، وإن لم يفعل شيئاً سوى تمهيد الطريق للغة حرة ومغايرة لمن يمرون بعده، لكفاه ذلك.
كنت في تلك الفترة أعاني من حدة وتطرف في العديد من مواقفي وآرائي، كنت أرى الأشياء بلونين أسود أو أبيض، وكنت أتعامل بحذر مع كل من يكرس لهم الإعلام الرسمي وحتى مناهج الدراسة.
كنت في ذلك الوقت أعتقد أن نزار قباني شاعر غنائي مباشر، ولم تكن تشفع له عندي تلك الرهافة وذلك الألق الذي يعلوان قصائده أو تلك العوالم التي حدثني عنها أبي، وكنت أتبارى مع عدد من الأصدقاء في نادي الأدب التابع لإحدى قصور الثقافة الإقليمية في التقليل من شأن نزار قباني، كنت أسأل محبيه أن يحددوا لي بأنفسهم واحدة من قصائده على أن أكتب لهم على منوالها قصيدة تباريها لأقرأها عليهم في الأمسية التالية، وكان نجاحي في استنساخ قصائده وعوالمه بشهادة الأصدقاء يدعوني إلى المزيد من هذا الغي، كانت لعبة مسلية وإن كنت أدركت لاحقاً أننا نستنسخ فقط أصحاب العوالم المميزة ظانين بسذاجة أننا بذلك قد أزلنا بهم الهزيمة النكراء.
كنت في ذلك الوقت أحب أمل دنقل، وأرى في شعره نبضاً حقيقياً، وأستنسخه دون وعي في قصائدي الأولى، أكد أبي وهو يتصفح ورقات الديوان صغيرة القطع أن حبي لدنقل مشروع ولكنه لا يعني التقليل من قدر نزار قباني راسماً بكفيه دوائر وهمية في الهواء، وقال إنهما دائرتان من الإبداع تحلقان في هواء الغرفة، وكل منهما عظيم بطريقته.
لم يسفر نقاشي مع أبي وقتها عن جديد في علاقتي مع نزار قباني، ولكنه وضع علامة كعادته على الموضع الذي يريد مني أن أبحث فيه: الآن، بعد قليل أو بعد كثير، لا يهم، المهم أن يترك تلك العلامة بهدوء ويسر، واثقاً من أن كل نيء سوف يسير إلى نضجه الخاص.
بعد أكثر من 15 سنة مرت على هذا اللقاء، وقد قرأت نزارا وقرأت آخرين كتبوا في الحب والجسد وللحب والجسد وعن الحب والجسد، لم أر في نزار قباني تلك العظمة التي وجدتها في نيرودا، أو تلك الدفقات النارية الممتلئة التي بثها ريلكه، أو غيرهما من العظماء، شعرت بأن الفارق بينه وبين هؤلاء كالفارق بين عاشق أرستقراطي اختار الوقوف تحت ظل شجرة في حديقة جميلة وراح ينقش اسمه على لحاء الشجر بطرف دبوس نسائي، وبين حطاب عاشق احتله العشق فراح يتلو قصائده بينما تشق بلطته الهواء بحثاً عن خشب يجلب له الدفء.
فإذا كان ريلكه يقول: إن الحب هو الفرصة الوحيدة لكي ننضج، نكتمل ويتحوّل الواحد منا إلى كائن منذور للحب، حبّ الكائن الذي يحبّ. إن الحب تمرين عظيم للوحدة والتركيز والولوج إلى أعماق النفس، فإن نزار قباني اكتفى بكتابة بورنوغرافية تتناول شهوة متبادلة بين ذكر وأنثى وهو وإن حاول أن يتعدى ذلك إلى مناقشة العديد من العلاقات الاجتماعية إلا أنه إن فعل ذلك بالمستوى الفني اللائق فهو -في الكثير من قصائده- لم يتعد دور العاشق بدبوسه على لحاء الشجرة الطري.
ولعل أجمل ما كتب نزار في رأيي من قصائد الحب -لا أعتبر ما كتبه في السياسة شعراً- هو تلك القصائد التي لم يحتل فيها النهد مركز الصدارة ولا تدور في غرف النوم، هي تلك القصائد التي نسي فيها رغبته في تكريس نموذج شهير فكتب على سجيته الشعرية التي لا شك في أنها قادرة وموهوبة.