دع الصبية تعبث بحياتك
قصيدة بيلاروسيا
وأخيراً، قررت أن أموتَ هنا
تحت ثلوج روسيا البيضاء
تحت خطوات فتياتها الرشيقات
حيث ضحكاتهنّ تبدّدُ وحشة المساء
هنا في هذه الغابة البعيدة
لا أحب أن أموت في وطني
لا أحب وحشة الرمال وكآبة الملح
لا أحب أنْ يتراصفَ قبري بشاهدة كئيبة
بين قبور أصدقائي الذين أخذت الحروب بأيديهم وناموا هناك مفزوعين من ملاك الموت وشراسة الأسئلة،
وكجندي قديم،
كمحاربٍ سابقٍ في السهول والجبال والأهوار
يحقُّ لي، بعد أن تركتني الحرب أتنفّس بلا سببٍ سنواتٍ أخرى
يحقُّ لي،
أن أختارَ تلالَ الثلوجِ تلك، لأرقدَ تحتها بأمانٍ وفرحٍ غامض
وفي الواقع، لم تكن الأمور سيئة لهذا الحد،
كانت الحياة في وطني رحلةً ممتعةً أحيانا
وشاقةً في أحيان أخرى
لكن الموت تحت الثلوج البيض
يعدُّ نهاية مناسبة لروحي
روح المحارب القديم،
ألوّح لكِ أيتها الأرض البعيدة
ألوّح لك يا وطني
ألوّح لك يا أمي
بيدٍ مرتعشة
وبدموع أليفة
ألوّح لحبيباتي
وأهديهنّ سنوات الشباب المجيدة
سنوات الثمانينات حيث تقافزت أعوامي مثل جرذان سود وراء
السواتر
بين المزاغل والخنادق،
هناك على خطِ النار
في الفاو وبحيرةِ الأسماك
على جبل «ماوت» في كردستان
وتلال كيسكا في مندلي
حين تعزف المدفعية والهاوانات
أكثر موسيقاها صراحة
ليمضي الجنود، مرة في إجازة
ومرة أخرى إلى المقبرة
ألوّح لك يا مدينتي
ألوّح لشارع الرشيد
لتمثال الرصافي
للنهر والنوارس الدائخة
وأرصفة الوزيرية والباب المعظم
بيدِ محاربٍ قديم
بيدٍ تطلقُ الرصاصَ في العراء
عندما كانت الـ (بي كي سي) هي كل ما أملك على خطّ النار،
ألوّح بيدٍ خاملة تطلق الرصاص في العراء
وأحيانا تكتب كلماتٍ باسمٍ مستعار
من أجل الأجيال الجديدة وراحة البال
هكذا أقترب من ثلوج عام 2013
مودّعا حرارةَ الشمسِ اللاهبة
وبقايا الغبار
مودّعا تلك الحماقات التي طبعت سنوات حياتي
لكم يكون المرء محظوظا عندما يتاح له
وبحريّة كافية أن يختار الثلوج ناصعة البياض غطاءً لنومتهِ الأخيرة
في ما تبقى من السنوات
سأعيش في كوخ صغير
على مشارف مدينة منسك
أسمع موسيقى موتسارت وشوبان وبيتهوفن
وعندما يأتي الربيع وتطير الفراشات قرب النوافذ الندّية سيكون فيفالدي هو الحل المناسب،
سأقرأ هوسرل
ومارتن هيدغر
وميرلوبونتي
ليس لأعرف أن «الوعي هو نفسه الوجود الإنساني الملقى به في هذا العالم»
وإنما لأمنح حياتي معنىً عميقاً
يبرر موتي في ثلوج روسيا البيضاء،
روسيا البيضاء التي مررت بها صدفة
وأخيراً، قررت أن أموت هنا
تحت ثلوج روسيا البيضاء
تحت خطوات فتياتها الرشيقات
حيث ضحكاتهن تبدّد وحشةَ المساء
هنا في هذه الغابةِ البعيدة.
دع الصبية تعبث بحياتك
لا تقل لها إنك شخص خجول
لا ترو لها قصصا قديمة
لا تطلق جملا غبية من مثل
- إن الوعي ما هو إلا وعي بشيء ما
لا تتظاهر بالهدوء والحكمة،
أيها الصعلوك
سلمها أمرك
دع الصبية تعبث بحياتك
لا تمش معها في الصباحات الباردة
مثل محارب قديم
لا تطقطق أصابعك مثل زوجة الأب
لا تتأوّه من التعب،
- ياه، لم أنم ليلتي جيدا،
المطر ينقر زجاج النوافذ
أيها البليد،
دع الصبية تعبث بحياتك
لا تهدها كتابا عن هروب نابليون من جزيرة سانت هيلانه
لا تشتر لها في الربيع معطفا غامقا
في نهر «نارفا» لا ترم أعقاب السجائر
لا تبتسم بوجه شرطي المرور
لا تلوّح ببلادة لرجل الإطفاء
- ما الإنسان إلا مجموعة ذكريات هشة
أيها الساذج
دع الصبية تعبث بحياتك
لا تقف منذهلا في محطة قطارات تالين
لا تسأل عن مهنة الأب
لا تنظر إلى ساعتك الكلاسيكية
لا تبد في عجلة من أمرك
- لم أستمع لنشرة أخبار المساء
أيها المغفل
دع الصبية تعبث بحياتك
لا تتحدث في السياسة
لا تتوقف كمترجم وقور عند بائع الصحف
لا تقل لها إنك ليبرالي
وإن الدين ليس مهمّا في حياتك
ما شأنها بذلك،
أيها الغبي
الحب يبتسم لك
دع الصبية تعبث بحياتك
في البلاد البعيدة
في البلاد السعيدة
من الحكمة أن تغنّي تحت المطر
أن تغنّي مع الغجري العجوز
أن تردّد معه بمرح وخفةٍ
«الأيام المتبقية من عمرك أيها الغريب
ثمينة ولا تعوض»
من الغباء أن تجعلها متشابهة،
أيها الأحمق
هذه فرصتك الأخيرة
دع الصبية الشقراء تعبث بحياتك.
لوحة: سمان خوام
قصيدة أوكرانيا
إلى آنا آخماتوفا
تحت عواصف شتاء هذا العام..
امرأة تشبهك تمرُّ مع كلبها أمام نافذتي
موسيقى تشايكوفسكي تملأ المكان
وبمعطفها الطويل تتسمر فجأة، كتمثال لملحمة بلا بطولة..
لم أولد هنا عام 1889
و لم أكن أوكرانياً من قبل
ولستُ من أوديسا بالتحديد،
ولدت هناك تحت شمس تتحدث لغة واحدة، وبيديها الحديديتين تمسك بالفصول..
حيث تتناسل الحروب وتنمو أعشاب الكآبات،
ثم تمزق السماء ملابسها قطعة، قطعة
وتخرمش خديها بأظافر الخوف
قبل أن ألتقي مناديل قصائدك التي ترفرف فوق بواخر أوديسا وسفنها الحزينة
كنت أقول:
- الشعر الخالص لا يكتبه إلا الفحول
آخماتوفا، الشاعرات هناك وقحات
وهنَّ في الغالب بلا قلب
وبلا قصائد أيضا
ضجيج ثرثراتهن يزعجني
وعندما أرمي لإحداهن وردةً بنفسجيةً
تذبلُ في المسافةِ
أو تستحيل إلى خفافيش من طين..
ولدت في بغداد
بغداد التي نسيها هولاكو عام 1258
تحت رحمة البويهيين
والسلاجقة
والصفويين
والعثمانيين
والملوك
والجمهوريين
تحت رحمة بريطانيا العظمى
تحت رحمة الأميركان والطائرات
بغداد التي نسيها هولاكو
هي أيضا تتخلى عني في هذا الوقت بالتحديد..
يداي معلقتان في هواء بارد
ورأسي تحت سماء رمادية
وقدماي تنبتان على أرصفة بيضاء
أحدث نفسي
عن قصائد لم تولد بعد تحت هذه السماء
وعن العدم والوجود
عن الإنسان ومصيره
وأشياء أخرى
امرأة تشبهك تقف عند منعطف الطريق
تبتسم لي
وكلبها ينبحني كغريب….
وبمعطفها الطويل تتجمد في الشارع نصف المضاء، كتمثال لملحمةٍ بلا بطولة
في حديقة شافشينكا
وتحت غصون أشجارها العارية
أشعل سيجارتي وأرسم بدخانها مدنا من غبار وشعوبا من خرافات
فجأة، طائر غريب يفرّ مذعورا في الفراغ
وفي منعطف الطريق من الجهة الأخرى
يطير سربٌ من النوارس
قريبا من السفن الكئيبة،
ففي وحشة هذا العالم وكثافة الوجود
تولد القصائد بلا تهريج
بلا قهقهات
تماما مثل مرور أحدهم في الظلام
ليختفي وراء شاحنة معطلة
لست وحيدا في كييف
لست وحيدا في خاركوفلست
وحيدا في أوديسا
إلى جانبي وقع أحذية فتاة تتعثر في الثلوج الكثيفة،
وإلى جانبي أيضا، ذكريات مضيئة
تحفر بئرها القديمة في هذا المساء،
يعيش الإنسان محفوفا بوسائد الألم
حيث لا تنفعه أغنية
ولا صدى قرقعة البواخر في الميناء،
إلى جانبي وورائي أيضا، تنبح كلاب سنواتي وتموء قططها السود
ذلك هو قدر الغريب
تلك هي مصائد العتمة
عندما يقرّر أحدهم أن يعيش حياة شاعر
ويمضي بوقار إلى قلب الخطيئة.
لوحة: فادي يازجي
كييف - 2013
سوق بيع الكلاب في إستونيا
بعد قليل
سأخرج مِن هذا المكان
من سوقِ بيعِ الجراء
برفقة جرو رمادي صغير
جرو صغير ينبح بقية حياتي
وبذيله القصير ينشّ عنّي اللامبلاة
ويحصي معي طيور الأيام التائهة
سأشتري جرواً وديعاً
جرواً وُلِدَ قبل شهرين تقريبا
وسأكون أنا كلّ ما يهمه في هذا العالم
سأكون حياتهُ كلها، قدره ومصيره
ليس مهماً أن يكون هذا الجرو ودوداً
ليس مهما أن تترصد عيناه خطواتي
وعندما أعود إلى البيت يتشمم ملابسي
ويهرول أمامي،
سيعيش كسولاً مثلي
وخاملاً في أيام الإجازات
ربما سيكون طويلَ البالِ
وبعينين حزينتين سيشاركني الألم،
كل ما يهمّني الآن
أن أختارَ واحداً من هذه الجراء الصغيرة
يشبه رغبتي في التسكعِ
يشبه حيرتي في المطارات
سأكون وفياً وصبوراً معه
وعندما يشعرُ بالوحشةِ
أو عندما يستغرب تكرارَ المساءاتِ
عندما يسرحُ خيالُه في البعيد
عندما يتذكر الثلوج الكثيفة
أمسّدُ رأسه بمحبة
وتدمع عيناي من أجلهِ
من أجل أمّهِ التي لا يعرفها
أمّه الإستونية التي لا يتذكر ملامحَها
لم أفكر بالاسم بعد،
لأنني لا أدري أيّ جروٍ سأشتري
ربما سأختار له اسماً إستونياً
وربما سأمَنحه اسمَ البائعةِ الشقراء إيرينا،
وربما تكون أمّهُ قد فكّرت بذلك من قبل،
لكنّه أولا وأخيرا، سيحمل اسماً غامضاً
اسماً ليس له معنى،
نعرفه نحن الاثنين أنا وهو،
قبلَ أن أغادرَ المكان
صورة فوتوغرافية ستكون أمراً طيباً
صورةٌ تجمعنا في ذكرى هذا اللقاء
صورةٌ أعلّقها على حائط حياتي
سيكبر الجرو الصغير
سيكبر «تامي» وهذا اسمه الجديد
سيتطلع إلى الصورة بألم وحسرة
ويمتلئ قلبهُ بالغيرةِ
ليس لأنني مع جرو آخر لا يعرفه
بل لأنني أقفُ في هذا المكان الأليف
في المكان البعيد الذي يحنّ إليه
هناك في سوق بيع الجِراء
في إستونيا، إستونيا التي هو منها.
لست شاعرا شعبيا
لأقول لكِ أنتِ وطني وإني مستعد للموت ببسالة في ساحات الحرب المجيدة، وإنكِ آخر حروب العثمانيين وهم يموتون من شدة الصقيع عند بوابات ڤيينا.
لم أقل غزلا من هذا القبيل ولم أشبَّه عينيك بعيني جاموسة نصفها غارق في المستنقعات ونصفها الآخر يتأمل الوجود قريبا من مشحوف عتيق، لم أقل ذلك، لأنّني لستُ شاعرا شعبيا، لست شاعراً يمجّد الملوك والأباطرة والجنرالات
ويكتب في رثاء الأولياء والقديسين لست شاعرا شعبيا.
يكتب ومضة شعرية عن جروحه التي تركتها آثار غيابك على حائط روحه وقلاعها المريضة، لست كذلك، لا أعرف أن أكون شاعراً للوطن أو للشعب أو للجماهير، أو شاعرا يتغنى بمجد الأمة وأبطالها الذين يعبرون التاريخ فوق الأحصنة وبريق سيوفهم يوزع الموت في الغابات السود،
لست شاعرا شعبيا
أنا شاعرك أنتِ،
شاعر غربتك ونحولك ووحشة الشتاء
لا أريد الخلود في البلاطات
لا أريد لقصائدي أن تنام في الكراريس
لا أريد لصورتي دويّا في الجرائد العتيقة
لا أريد لمذكّراتي أن تسحل أيامنا في المكتبات
لا أريد أن يقولوا إن خالد مطلك شاعر مجيد
لا أريد كل هذا،
يكفيني أن قصائدي تنام بين طيات ملابسك القديمة
وإحداها معلقة قرب سريرك
وفيها أقول :
لست شاعرا شعبياً، حبيبتي.
تحت أمطار هذا العالم
تحت أمطار هذا العالم، قريبا من موجات نهر دجلة ونوارسها الدائخة، قريبا من شارع المتنبي، أسند ظهري على جدار مبلل وأطلق دخان سيجارتي في هواء العاصمة.
ليست الموسيقى ما يشغل تفكيري، مع أنّي أترنم بصوت خافت أغنية قديمة، ليست وجوه الأصدقاء الذين تجاوزوا الأربعين أيضا ما يشغل تفكيري، لا، ولا رغبتي في المرور أمام زجاج مقهى حسن عجمي الداكن والكئيب هو ما أفكر به الآن..
كل ما يمكن تذكره، هو قطار حياتي الذي مرّ سريعا، لذلك لم تعد عبارة الشاعر الشاب تسبق اسمي، كم هو جميل أن تكون شاعرا شابا في بغداد عام 1993 أو بدايات عام 2013..
شاعر شاب تحبه فتاة نحيفة ومحبطة، يقول لها الغيمة بلا أصدقاء وتقول له؛ احبك يا كذاب
… لم يعد النهار مراهقا بشموسه الباسلة وها هو المساء الكئيب يتمشى في الشوارع، يحدث ذلك الآن في سنة 2013، تماما كما كان يحدث في كراج باب المعظم، عندما كنا نفترق شتاء 1993، أنت إلى البيت وأنا الى اتحاد الكتاب..
أنت الآن وراء المحيطات،
وأنا الآن تائه في المطارات،
وقصتنا الحزينة تتقاذفها الحروب في المدينة الكئيبة.