دع‭ ‬الصبية‭ ‬تعبث‭ ‬بحياتك

الجمعة 2016/07/01
لوحة: حسين جمعان

قصيدة‭ ‬بيلاروسيا

وأخيراً،‭ ‬قررت‭ ‬أن‭ ‬أموتَ‭ ‬هنا

تحت‭ ‬ثلوج‭ ‬روسيا‭ ‬البيضاء

تحت‭ ‬خطوات‭ ‬فتياتها‭ ‬الرشيقات

حيث‭ ‬ضحكاتهنّ‭ ‬تبدّدُ‭ ‬وحشة‭ ‬المساء

هنا‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الغابة‭ ‬البعيدة

لا‭ ‬أحب‭ ‬أن‭ ‬أموت‭ ‬في‭ ‬وطني

لا‭ ‬أحب‭ ‬وحشة‭ ‬الرمال‭ ‬وكآبة‭ ‬الملح

لا‭ ‬أحب‭ ‬أنْ‭ ‬يتراصفَ‭ ‬قبري‭ ‬بشاهدة‭ ‬كئيبة

بين‭ ‬قبور‭ ‬أصدقائي‭ ‬الذين‭ ‬أخذت‭ ‬الحروب‭ ‬بأيديهم‭ ‬وناموا‭ ‬هناك‭ ‬مفزوعين‭ ‬من‭ ‬ملاك‭ ‬الموت‭ ‬وشراسة‭ ‬الأسئلة،

وكجندي‭ ‬قديم،

كمحاربٍ‭ ‬سابقٍ‭ ‬في‭ ‬السهول‭ ‬والجبال‭ ‬والأهوار

يحقُّ‭ ‬لي،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تركتني‭ ‬الحرب‭ ‬أتنفّس‭ ‬بلا‭ ‬سببٍ‭ ‬سنواتٍ‭ ‬أخرى

يحقُّ‭ ‬لي،

أن‭ ‬أختارَ‭ ‬تلالَ‭ ‬الثلوجِ‭ ‬تلك،‭ ‬لأرقدَ‭ ‬تحتها‭ ‬بأمانٍ‭ ‬وفرحٍ‭ ‬غامض

وفي‭ ‬الواقع،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬الأمور‭ ‬سيئة‭ ‬لهذا‭ ‬الحد،

كانت‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬وطني‭ ‬رحلةً‭ ‬ممتعةً‭ ‬أحيانا

وشاقةً‭ ‬في‭ ‬أحيان‭ ‬أخرى

لكن‭ ‬الموت‭ ‬تحت‭ ‬الثلوج‭ ‬البيض

يعدُّ‭ ‬نهاية‭ ‬مناسبة‭ ‬لروحي

روح‭ ‬المحارب‭ ‬القديم،

ألوّح‭ ‬لكِ‭ ‬أيتها‭ ‬الأرض‭ ‬البعيدة

ألوّح‭ ‬لك‭ ‬يا‭ ‬وطني

ألوّح‭ ‬لك‭ ‬يا‭ ‬أمي

بيدٍ‭ ‬مرتعشة

وبدموع‭ ‬أليفة

ألوّح‭ ‬لحبيباتي

وأهديهنّ‭ ‬سنوات‭ ‬الشباب‭ ‬المجيدة

سنوات‭ ‬الثمانينات‭ ‬حيث‭ ‬تقافزت‭ ‬أعوامي‭ ‬مثل‭ ‬جرذان‭ ‬سود‭ ‬وراء

السواتر

بين‭ ‬المزاغل‭ ‬والخنادق،

هناك‭ ‬على‭ ‬خطِ‭ ‬النار

في‭ ‬الفاو‭ ‬وبحيرةِ‭ ‬الأسماك

على‭ ‬جبل‭ ‬‮«‬ماوت‮»‬‭ ‬في‭ ‬كردستان

وتلال‭ ‬كيسكا‭ ‬في‭ ‬مندلي

حين‭ ‬تعزف‭ ‬المدفعية‭ ‬والهاوانات

أكثر‭ ‬موسيقاها‭ ‬صراحة

ليمضي‭ ‬الجنود،‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬إجازة

ومرة‭ ‬أخرى‭ ‬إلى‭ ‬المقبرة

ألوّح‭ ‬لك‭ ‬يا‭ ‬مدينتي

ألوّح‭ ‬لشارع‭ ‬الرشيد

لتمثال‭ ‬الرصافي

للنهر‭ ‬والنوارس‭ ‬الدائخة

وأرصفة‭ ‬الوزيرية‭ ‬والباب‭ ‬المعظم

بيدِ‭ ‬محاربٍ‭ ‬قديم

بيدٍ‭ ‬تطلقُ‭ ‬الرصاصَ‭ ‬في‭ ‬العراء

عندما‭ ‬كانت‭ ‬الـ‭ (‬بي‭ ‬كي‭ ‬سي‭) ‬هي‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬أملك‭ ‬على‭ ‬خطّ‭ ‬النار،

ألوّح‭ ‬بيدٍ‭ ‬خاملة‭ ‬تطلق‭ ‬الرصاص‭ ‬في‭ ‬العراء

وأحيانا‭ ‬تكتب‭ ‬كلماتٍ‭ ‬باسمٍ‭ ‬مستعار

من‭ ‬أجل‭ ‬الأجيال‭ ‬الجديدة‭ ‬وراحة‭ ‬البال

هكذا‭ ‬أقترب‭ ‬من‭ ‬ثلوج‭ ‬عام‭ ‬2013

مودّعا‭ ‬حرارةَ‭ ‬الشمسِ‭ ‬اللاهبة

وبقايا‭ ‬الغبار

مودّعا‭ ‬تلك‭ ‬الحماقات‭ ‬التي‭ ‬طبعت‭ ‬سنوات‭ ‬حياتي

لكم‭ ‬يكون‭ ‬المرء‭ ‬محظوظا‭ ‬عندما‭ ‬يتاح‭ ‬له

وبحريّة‭ ‬كافية‭ ‬أن‭ ‬يختار‭ ‬الثلوج‭ ‬ناصعة‭ ‬البياض‭ ‬غطاءً‭ ‬لنومتهِ‭ ‬الأخيرة

في‭ ‬ما‭ ‬تبقى‭ ‬من‭ ‬السنوات

سأعيش‭ ‬في‭ ‬كوخ‭ ‬صغير

على‭ ‬مشارف‭ ‬مدينة‭ ‬منسك

أسمع‭ ‬موسيقى‭ ‬موتسارت‭ ‬وشوبان‭ ‬وبيتهوفن

وعندما‭ ‬يأتي‭ ‬الربيع‭ ‬وتطير‭ ‬الفراشات‭ ‬قرب‭ ‬النوافذ‭ ‬الندّية‭ ‬سيكون‭ ‬فيفالدي‭ ‬هو‭ ‬الحل‭ ‬المناسب،

سأقرأ‭ ‬هوسرل

ومارتن‭ ‬هيدغر

وميرلوبونتي

ليس‭ ‬لأعرف‭ ‬أن‭ ‬‮«‬الوعي‭ ‬هو‭ ‬نفسه‭ ‬الوجود‭ ‬الإنساني‭ ‬الملقى‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العالم‮»‬

وإنما‭ ‬لأمنح‭ ‬حياتي‭ ‬معنىً‭ ‬عميقاً

يبرر‭ ‬موتي‭ ‬في‭ ‬ثلوج‭ ‬روسيا‭ ‬البيضاء،

روسيا‭ ‬البيضاء‭ ‬التي‭ ‬مررت‭ ‬بها‭ ‬صدفة

وأخيراً،‭ ‬قررت‭ ‬أن‭ ‬أموت‭ ‬هنا

تحت‭ ‬ثلوج‭ ‬روسيا‭ ‬البيضاء

تحت‭ ‬خطوات‭ ‬فتياتها‭ ‬الرشيقات

حيث‭ ‬ضحكاتهن‭ ‬تبدّد‭ ‬وحشةَ‭ ‬المساء

هنا‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الغابةِ‭ ‬البعيدة‭.‬

دع‭ ‬الصبية‭ ‬تعبث‭ ‬بحياتك

لا‭ ‬تقل‭ ‬لها‭ ‬إنك‭ ‬شخص‭ ‬خجول

لا‭ ‬ترو‭ ‬لها‭ ‬قصصا‭ ‬قديمة

لا‭ ‬تطلق‭ ‬جملا‭ ‬غبية‭ ‬من‭ ‬مثل

‭- ‬إن‭ ‬الوعي‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬إلا‭ ‬وعي‭ ‬بشيء‭ ‬ما

لا‭ ‬تتظاهر‭ ‬بالهدوء‭ ‬والحكمة،

أيها‭ ‬الصعلوك

سلمها‭ ‬أمرك

دع‭ ‬الصبية‭ ‬تعبث‭ ‬بحياتك

لا‭ ‬تمش‭ ‬معها‭ ‬في‭ ‬الصباحات‭ ‬الباردة

مثل‭ ‬محارب‭ ‬قديم

لا‭ ‬تطقطق‭ ‬أصابعك‭ ‬مثل‭ ‬زوجة‭ ‬الأب

لا‭ ‬تتأوّه‭ ‬من‭ ‬التعب،

‭- ‬ياه،‭ ‬لم‭ ‬أنم‭ ‬ليلتي‭ ‬جيدا،

المطر‭ ‬ينقر‭ ‬زجاج‭ ‬النوافذ

أيها‭ ‬البليد،

دع‭ ‬الصبية‭ ‬تعبث‭ ‬بحياتك

لا‭ ‬تهدها‭ ‬كتابا‭ ‬عن‭ ‬هروب‭ ‬نابليون‭ ‬من‭ ‬جزيرة‭ ‬سانت‭ ‬هيلانه

لا‭ ‬تشتر‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬الربيع‭ ‬معطفا‭ ‬غامقا

في‭ ‬نهر‭ ‬‮«‬نارفا‮»‬‭ ‬لا‭ ‬ترم‭ ‬أعقاب‭ ‬السجائر

لا‭ ‬تبتسم‭ ‬بوجه‭ ‬شرطي‭ ‬المرور

لا‭ ‬تلوّح‭ ‬ببلادة‭ ‬لرجل‭ ‬الإطفاء

‭- ‬ما‭ ‬الإنسان‭ ‬إلا‭ ‬مجموعة‭ ‬ذكريات‭ ‬هشة

أيها‭ ‬الساذج

دع‭ ‬الصبية‭ ‬تعبث‭ ‬بحياتك

لا‭ ‬تقف‭ ‬منذهلا‭ ‬في‭ ‬محطة‭ ‬قطارات‭ ‬تالين

لا‭ ‬تسأل‭ ‬عن‭ ‬مهنة‭ ‬الأب

لا‭ ‬تنظر‭ ‬إلى‭ ‬ساعتك‭ ‬الكلاسيكية

لا‭ ‬تبد‭ ‬في‭ ‬عجلة‭ ‬من‭ ‬أمرك

‭- ‬لم‭ ‬أستمع‭ ‬لنشرة‭ ‬أخبار‭ ‬المساء

أيها‭ ‬المغفل

دع‭ ‬الصبية‭ ‬تعبث‭ ‬بحياتك

لا‭ ‬تتحدث‭ ‬في‭ ‬السياسة

لا‭ ‬تتوقف‭ ‬كمترجم‭ ‬وقور‭ ‬عند‭ ‬بائع‭ ‬الصحف

لا‭ ‬تقل‭ ‬لها‭ ‬إنك‭ ‬ليبرالي

وإن‭ ‬الدين‭ ‬ليس‭ ‬مهمّا‭ ‬في‭ ‬حياتك

ما‭ ‬شأنها‭ ‬بذلك،

أيها‭ ‬الغبي

الحب‭ ‬يبتسم‭ ‬لك

دع‭ ‬الصبية‭ ‬تعبث‭ ‬بحياتك

في‭ ‬البلاد‭ ‬البعيدة

في‭ ‬البلاد‭ ‬السعيدة

من‭ ‬الحكمة‭ ‬أن‭ ‬تغنّي‭ ‬تحت‭ ‬المطر

أن‭ ‬تغنّي‭ ‬مع‭ ‬الغجري‭ ‬العجوز

أن‭ ‬تردّد‭ ‬معه‭ ‬بمرح‭ ‬وخفةٍ

‮«‬الأيام‭ ‬المتبقية‭ ‬من‭ ‬عمرك‭ ‬أيها‭ ‬الغريب

ثمينة‭ ‬ولا‭ ‬تعوض‮»‬

من‭ ‬الغباء‭ ‬أن‭ ‬تجعلها‭ ‬متشابهة،

أيها‭ ‬الأحمق

هذه‭ ‬فرصتك‭ ‬الأخيرة

دع‭ ‬الصبية‭ ‬الشقراء‭ ‬تعبث‭ ‬بحياتك‭.‬


لوحة: سمان خوام

قصيدة‭ ‬أوكرانيا

إلى‭ ‬آنا‭ ‬آخماتوفا

تحت‭ ‬عواصف‭ ‬شتاء‭ ‬هذا‭ ‬العام‭..‬

امرأة‭ ‬تشبهك‭ ‬تمرُّ‭ ‬مع‭ ‬كلبها‭ ‬أمام‭ ‬نافذتي

موسيقى‭ ‬تشايكوفسكي‭ ‬تملأ‭ ‬المكان

وبمعطفها‭ ‬الطويل‭ ‬تتسمر‭ ‬فجأة،‭ ‬كتمثال‭ ‬لملحمة‭ ‬بلا‭ ‬بطولة‭..‬

لم‭ ‬أولد‭ ‬هنا‭ ‬عام‭ ‬1889

و‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أوكرانياً‭ ‬من‭ ‬قبل

ولستُ‭ ‬من‭ ‬أوديسا‭ ‬بالتحديد،

ولدت‭ ‬هناك‭ ‬تحت‭ ‬شمس‭ ‬تتحدث‭ ‬لغة‭ ‬واحدة،‭ ‬وبيديها‭ ‬الحديديتين‭ ‬تمسك‭ ‬بالفصول‭..‬

حيث‭ ‬تتناسل‭ ‬الحروب‭ ‬وتنمو‭ ‬أعشاب‭ ‬الكآبات،

ثم‭ ‬تمزق‭ ‬السماء‭ ‬ملابسها‭ ‬قطعة،‭ ‬قطعة

وتخرمش‭ ‬خديها‭ ‬بأظافر‭ ‬الخوف

قبل‭ ‬أن‭ ‬ألتقي‭ ‬مناديل‭ ‬قصائدك‭ ‬التي‭ ‬ترفرف‭ ‬فوق‭ ‬بواخر‭ ‬أوديسا‭ ‬وسفنها‭ ‬الحزينة

كنت‭ ‬أقول‭:‬

‭- ‬الشعر‭ ‬الخالص‭ ‬لا‭ ‬يكتبه‭ ‬إلا‭ ‬الفحول

آخماتوفا،‭ ‬الشاعرات‭ ‬هناك‭ ‬وقحات

وهنَّ‭ ‬في‭ ‬الغالب‭ ‬بلا‭ ‬قلب

وبلا‭ ‬قصائد‭ ‬أيضا

ضجيج‭ ‬ثرثراتهن‭ ‬يزعجني

وعندما‭ ‬أرمي‭ ‬لإحداهن‭ ‬وردةً‭ ‬بنفسجيةً

تذبلُ‭ ‬في‭ ‬المسافةِ

أو‭ ‬تستحيل‭ ‬إلى‭ ‬خفافيش‭ ‬من‭ ‬طين‭..‬

ولدت‭ ‬في‭ ‬بغداد

بغداد‭ ‬التي‭ ‬نسيها‭ ‬هولاكو‭ ‬عام‭ ‬1258

تحت‭ ‬رحمة‭ ‬البويهيين

والسلاجقة

والصفويين

والعثمانيين

والملوك

والجمهوريين

تحت‭ ‬رحمة‭ ‬بريطانيا‭ ‬العظمى

تحت‭ ‬رحمة‭ ‬الأميركان‭ ‬والطائرات

بغداد‭ ‬التي‭ ‬نسيها‭ ‬هولاكو

هي‭ ‬أيضا‭ ‬تتخلى‭ ‬عني‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الوقت‭ ‬بالتحديد‭..‬

يداي‭ ‬معلقتان‭ ‬في‭ ‬هواء‭ ‬بارد

ورأسي‭ ‬تحت‭ ‬سماء‭ ‬رمادية

وقدماي‭ ‬تنبتان‭ ‬على‭ ‬أرصفة‭ ‬بيضاء

أحدث‭ ‬نفسي

عن‭ ‬قصائد‭ ‬لم‭ ‬تولد‭ ‬بعد‭ ‬تحت‭ ‬هذه‭ ‬السماء

وعن‭ ‬العدم‭ ‬والوجود

عن‭ ‬الإنسان‭ ‬ومصيره

وأشياء‭ ‬أخرى

امرأة‭ ‬تشبهك‭ ‬تقف‭ ‬عند‭ ‬منعطف‭ ‬الطريق

تبتسم‭ ‬لي

وكلبها‭ ‬ينبحني‭ ‬كغريب‮…‬‭.‬

وبمعطفها‭ ‬الطويل‭ ‬تتجمد‭ ‬في‭ ‬الشارع‭ ‬نصف‭ ‬المضاء،‭ ‬كتمثال‭ ‬لملحمةٍ‭ ‬بلا‭ ‬بطولة

في‭ ‬حديقة‭ ‬شافشينكا

وتحت‭ ‬غصون‭ ‬أشجارها‭ ‬العارية

أشعل‭ ‬سيجارتي‭ ‬وأرسم‭ ‬بدخانها‭ ‬مدنا‭ ‬من‭ ‬غبار‭ ‬وشعوبا‭ ‬من‭ ‬خرافات

فجأة،‭ ‬طائر‭ ‬غريب‭ ‬يفرّ‭ ‬مذعورا‭ ‬في‭ ‬الفراغ

وفي‭ ‬منعطف‭ ‬الطريق‭ ‬من‭ ‬الجهة‭ ‬الأخرى

يطير‭ ‬سربٌ‭ ‬من‭ ‬النوارس

قريبا‭ ‬من‭ ‬السفن‭ ‬الكئيبة،

ففي‭ ‬وحشة‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬وكثافة‭ ‬الوجود

تولد‭ ‬القصائد‭ ‬بلا‭ ‬تهريج

بلا‭ ‬قهقهات

تماما‭ ‬مثل‭ ‬مرور‭ ‬أحدهم‭ ‬في‭ ‬الظلام

ليختفي‭ ‬وراء‭ ‬شاحنة‭ ‬معطلة

لست‭ ‬وحيدا‭ ‬في‭ ‬كييف

لست‭ ‬وحيدا‭ ‬في‭ ‬خاركوفلست

وحيدا‭ ‬في‭ ‬أوديسا

إلى‭ ‬جانبي‭ ‬وقع‭ ‬أحذية‭ ‬فتاة‭ ‬تتعثر‭ ‬في‭ ‬الثلوج‭ ‬الكثيفة،

وإلى‭ ‬جانبي‭ ‬أيضا،‭ ‬ذكريات‭ ‬مضيئة

تحفر‭ ‬بئرها‭ ‬القديمة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المساء،

يعيش‭ ‬الإنسان‭ ‬محفوفا‭ ‬بوسائد‭ ‬الألم

حيث‭ ‬لا‭ ‬تنفعه‭ ‬أغنية

ولا‭ ‬صدى‭ ‬قرقعة‭ ‬البواخر‭ ‬في‭ ‬الميناء،

إلى‭ ‬جانبي‭ ‬وورائي‭ ‬أيضا،‭ ‬تنبح‭ ‬كلاب‭ ‬سنواتي‭ ‬وتموء‭ ‬قططها‭ ‬السود

ذلك‭ ‬هو‭ ‬قدر‭ ‬الغريب

تلك‭ ‬هي‭ ‬مصائد‭ ‬العتمة

عندما‭ ‬يقرّر‭ ‬أحدهم‭ ‬أن‭ ‬يعيش‭ ‬حياة‭ ‬شاعر

ويمضي‭ ‬بوقار‭ ‬إلى‭ ‬قلب‭ ‬الخطيئة‭.‬


لوحة: فادي يازجي

كييف - ‬2013

سوق‭ ‬بيع‭ ‬الكلاب‭ ‬في‭ ‬إستونيا

بعد‭ ‬قليل

سأخرج‭ ‬مِن‭ ‬هذا‭ ‬المكان

من‭ ‬سوقِ‭ ‬بيعِ‭ ‬الجراء

برفقة‭ ‬جرو‭ ‬رمادي‭ ‬صغير

جرو‭ ‬صغير‭ ‬ينبح‭ ‬بقية‭ ‬حياتي

وبذيله‭ ‬القصير‭ ‬ينشّ‭ ‬عنّي‭ ‬اللامبلاة

ويحصي‭ ‬معي‭ ‬طيور‭ ‬الأيام‭ ‬التائهة

سأشتري‭ ‬جرواً‭ ‬وديعاً

جرواً‭ ‬وُلِدَ‭ ‬قبل‭ ‬شهرين‭ ‬تقريبا

وسأكون‭ ‬أنا‭ ‬كلّ‭ ‬ما‭ ‬يهمه‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العالم

سأكون‭ ‬حياتهُ‭ ‬كلها،‭ ‬قدره‭ ‬ومصيره

ليس‭ ‬مهماً‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬هذا‭ ‬الجرو‭ ‬ودوداً

ليس‭ ‬مهما‭ ‬أن‭ ‬تترصد‭ ‬عيناه‭ ‬خطواتي

وعندما‭ ‬أعود‭ ‬إلى‭ ‬البيت‭ ‬يتشمم‭ ‬ملابسي

ويهرول‭ ‬أمامي،

سيعيش‭ ‬كسولاً‭ ‬مثلي

وخاملاً‭ ‬في‭ ‬أيام‭ ‬الإجازات

ربما‭ ‬سيكون‭ ‬طويلَ‭ ‬البالِ

وبعينين‭ ‬حزينتين‭ ‬سيشاركني‭ ‬الألم،

كل‭ ‬ما‭ ‬يهمّني‭ ‬الآن

أن‭ ‬أختارَ‭ ‬واحداً‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الجراء‭ ‬الصغيرة

يشبه‭ ‬رغبتي‭ ‬في‭ ‬التسكعِ

يشبه‭ ‬حيرتي‭ ‬في‭ ‬المطارات

سأكون‭ ‬وفياً‭ ‬وصبوراً‭ ‬معه

وعندما‭ ‬يشعرُ‭ ‬بالوحشةِ

أو‭ ‬عندما‭ ‬يستغرب‭ ‬تكرارَ‭ ‬المساءاتِ

عندما‭ ‬يسرحُ‭ ‬خيالُه‭ ‬في‭ ‬البعيد

عندما‭ ‬يتذكر‭ ‬الثلوج‭ ‬الكثيفة

أمسّدُ‭ ‬رأسه‭ ‬بمحبة

وتدمع‭ ‬عيناي‭ ‬من‭ ‬أجلهِ

من‭ ‬أجل‭ ‬أمّهِ‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يعرفها

أمّه‭ ‬الإستونية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يتذكر‭ ‬ملامحَها

لم‭ ‬أفكر‭ ‬بالاسم‭ ‬بعد،

لأنني‭ ‬لا‭ ‬أدري‭ ‬أيّ‭ ‬جروٍ‭ ‬سأشتري

ربما‭ ‬سأختار‭ ‬له‭ ‬اسماً‭ ‬إستونياً

وربما‭ ‬سأمَنحه‭ ‬اسمَ‭ ‬البائعةِ‭ ‬الشقراء‭ ‬إيرينا،

وربما‭ ‬تكون‭ ‬أمّهُ‭ ‬قد‭ ‬فكّرت‭ ‬بذلك‭ ‬من‭ ‬قبل،

لكنّه‭ ‬أولا‭ ‬وأخيرا،‭ ‬سيحمل‭ ‬اسماً‭ ‬غامضاً

اسماً‭ ‬ليس‭ ‬له‭ ‬معنى،

نعرفه‭ ‬نحن‭ ‬الاثنين‭ ‬أنا‭ ‬وهو،

قبلَ‭ ‬أن‭ ‬أغادرَ‭ ‬المكان

صورة‭ ‬فوتوغرافية‭ ‬ستكون‭ ‬أمراً‭ ‬طيباً

صورةٌ‭ ‬تجمعنا‭ ‬في‭ ‬ذكرى‭ ‬هذا‭ ‬اللقاء

صورةٌ‭ ‬أعلّقها‭ ‬على‭ ‬حائط‭ ‬حياتي

سيكبر‭ ‬الجرو‭ ‬الصغير

سيكبر‭ ‬‮«‬تامي‮»‬‭ ‬وهذا‭ ‬اسمه‭ ‬الجديد

سيتطلع‭ ‬إلى‭ ‬الصورة‭ ‬بألم‭ ‬وحسرة

ويمتلئ‭ ‬قلبهُ‭ ‬بالغيرةِ

ليس‭ ‬لأنني‭ ‬مع‭ ‬جرو‭ ‬آخر‭ ‬لا‭ ‬يعرفه

بل‭ ‬لأنني‭ ‬أقفُ‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المكان‭ ‬الأليف

في‭ ‬المكان‭ ‬البعيد‭ ‬الذي‭ ‬يحنّ‭ ‬إليه

هناك‭ ‬في‭ ‬سوق‭ ‬بيع‭ ‬الجِراء

في‭ ‬إستونيا،‭ ‬إستونيا‭ ‬التي‭ ‬هو‭ ‬منها‭.‬

لست‭ ‬شاعرا‭ ‬شعبيا

‮ ‬

لأقول‭ ‬لكِ‭ ‬أنتِ‭ ‬وطني‭ ‬وإني‭ ‬مستعد‭ ‬للموت‭ ‬ببسالة‭ ‬في‭ ‬ساحات‭ ‬الحرب‭ ‬المجيدة،‭ ‬وإنكِ‭ ‬آخر‭ ‬حروب‭ ‬العثمانيين‭ ‬وهم‭ ‬يموتون‭ ‬من‭ ‬شدة‭ ‬الصقيع‭ ‬عند‭ ‬بوابات‭ ‬ڤيينا‭.‬

لم‭ ‬أقل‭ ‬غزلا‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬القبيل‭ ‬ولم‭ ‬أشبَّه‭ ‬عينيك‭ ‬بعيني‭ ‬جاموسة‭ ‬نصفها‭ ‬غارق‭ ‬في‭ ‬المستنقعات‭ ‬ونصفها‭ ‬الآخر‭ ‬يتأمل‭ ‬الوجود‭ ‬قريبا‭ ‬من‭ ‬مشحوف‭ ‬عتيق،‭ ‬لم‭ ‬أقل‭ ‬ذلك،‭ ‬لأنّني‭ ‬لستُ‭ ‬شاعرا‭ ‬شعبيا،‭ ‬لست‭ ‬شاعراً‭ ‬يمجّد‭ ‬الملوك‭ ‬والأباطرة‭ ‬والجنرالات

ويكتب‭ ‬في‭ ‬رثاء‭ ‬الأولياء‭ ‬والقديسين‭ ‬لست‭ ‬شاعرا‭ ‬شعبيا‭.‬

يكتب‭ ‬ومضة‭ ‬شعرية‭ ‬عن‭ ‬جروحه‭ ‬التي‭ ‬تركتها‭ ‬آثار‭ ‬غيابك‭ ‬على‭ ‬حائط‭ ‬روحه‭ ‬وقلاعها‭ ‬المريضة،‭ ‬لست‭ ‬كذلك،‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬أن‭ ‬أكون‭ ‬شاعراً‭ ‬للوطن‭ ‬أو‭ ‬للشعب‭ ‬أو‭ ‬للجماهير،‭ ‬أو‭ ‬شاعرا‭ ‬يتغنى‭ ‬بمجد‭ ‬الأمة‭ ‬وأبطالها‭ ‬الذين‭ ‬يعبرون‭ ‬التاريخ‭ ‬فوق‭ ‬الأحصنة‭ ‬وبريق‭ ‬سيوفهم‭ ‬يوزع‭ ‬الموت‭ ‬في‭ ‬الغابات‭ ‬السود،

لست‭ ‬شاعرا‭ ‬شعبيا

أنا‭ ‬شاعرك‭ ‬أنتِ،

شاعر‭ ‬غربتك‭ ‬ونحولك‭ ‬ووحشة‭ ‬الشتاء

لا‭ ‬أريد‭ ‬الخلود‭ ‬في‭ ‬البلاطات

لا‭ ‬أريد‭ ‬لقصائدي‭ ‬أن‭ ‬تنام‭ ‬في‭ ‬الكراريس

لا‭ ‬أريد‭ ‬لصورتي‭ ‬دويّا‭ ‬في‭ ‬الجرائد‭ ‬العتيقة

لا‭ ‬أريد‭ ‬لمذكّراتي‭ ‬أن‭ ‬تسحل‭ ‬أيامنا‭ ‬في‭ ‬المكتبات

لا‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬يقولوا‭ ‬إن‭ ‬خالد‭ ‬مطلك‭ ‬شاعر‭ ‬مجيد

لا‭ ‬أريد‭ ‬كل‭ ‬هذا،

يكفيني‭ ‬أن‭ ‬قصائدي‭ ‬تنام‭ ‬بين‭ ‬طيات‭ ‬ملابسك‭ ‬القديمة

وإحداها‭ ‬معلقة‭ ‬قرب‭ ‬سريرك

وفيها‭ ‬أقول‭ :‬

لست‭ ‬شاعرا‭ ‬شعبياً،‭ ‬حبيبتي‭.‬

تحت‭ ‬أمطار‭ ‬هذا‭ ‬العالم

تحت‭ ‬أمطار‭ ‬هذا‭ ‬العالم،‭ ‬قريبا‭ ‬من‭ ‬موجات‭ ‬نهر‭ ‬دجلة‭ ‬ونوارسها‭ ‬الدائخة،‭ ‬قريبا‭ ‬من‭ ‬شارع‭ ‬المتنبي،‭ ‬أسند‭ ‬ظهري‭ ‬على‭ ‬جدار‭ ‬مبلل‭ ‬وأطلق‭ ‬دخان‭ ‬سيجارتي‭ ‬في‭ ‬هواء‭ ‬العاصمة‭.‬

ليست‭ ‬الموسيقى‭ ‬ما‭ ‬يشغل‭ ‬تفكيري،‭ ‬مع‭ ‬أنّي‭ ‬أترنم‭ ‬بصوت‭ ‬خافت‭ ‬أغنية‭ ‬قديمة،‭ ‬ليست‭ ‬وجوه‭ ‬الأصدقاء‭ ‬الذين‭ ‬تجاوزوا‭ ‬الأربعين‭ ‬أيضا‭ ‬ما‭ ‬يشغل‭ ‬تفكيري،‭ ‬لا،‭ ‬ولا‭ ‬رغبتي‭ ‬في‭ ‬المرور‭ ‬أمام‭ ‬زجاج‭ ‬مقهى‭ ‬حسن‭ ‬عجمي‭ ‬الداكن‭ ‬والكئيب‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬أفكر‭ ‬به‭ ‬الآن‭..‬

كل‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬تذكره،‭ ‬هو‭ ‬قطار‭ ‬حياتي‭ ‬الذي‭ ‬مرّ‭ ‬سريعا،‭ ‬لذلك‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬عبارة‭ ‬الشاعر‭ ‬الشاب‭ ‬تسبق‭ ‬اسمي،‭ ‬كم‭ ‬هو‭ ‬جميل‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬شاعرا‭ ‬شابا‭ ‬في‭ ‬بغداد‭ ‬عام‭ ‬1993‭ ‬أو‭ ‬بدايات‭ ‬عام‭ ‬2013‭..‬

شاعر‭ ‬شاب‭ ‬تحبه‭ ‬فتاة‭ ‬نحيفة‭ ‬ومحبطة،‭ ‬يقول‭ ‬لها‭ ‬الغيمة‭ ‬بلا‭ ‬أصدقاء‭ ‬وتقول‭ ‬له؛‭ ‬احبك‭ ‬يا‭ ‬كذاب

‮…‬‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬النهار‭ ‬مراهقا‭ ‬بشموسه‭ ‬الباسلة‭ ‬وها‭ ‬هو‭ ‬المساء‭ ‬الكئيب‭ ‬يتمشى‭ ‬في‭ ‬الشوارع،‭ ‬يحدث‭ ‬ذلك‭ ‬الآن‭ ‬في‭ ‬سنة‭ ‬2013،‭ ‬تماما‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬يحدث‭ ‬في‭ ‬كراج‭ ‬باب‭ ‬المعظم،‭ ‬عندما‭ ‬كنا‭ ‬نفترق‭ ‬شتاء‭ ‬1993،‭ ‬أنت‭ ‬إلى‭ ‬البيت‭ ‬وأنا‭ ‬الى‭ ‬اتحاد‭ ‬الكتاب‭..‬

أنت‭ ‬الآن‭ ‬وراء‭ ‬المحيطات،

وأنا‭ ‬الآن‭ ‬تائه‭ ‬في‭ ‬المطارات،

وقصتنا‭ ‬الحزينة‭ ‬تتقاذفها‭ ‬الحروب‭ ‬في‭ ‬المدينة‭ ‬الكئيبة‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.