دمشق التي في خاطري.. الخطيئةُ التي كانت تعني الحب
دمشقُ الغريبُ أنا فيها كان قلبها أكبرَ من خيالِ كاتب وأصغرَ من صورةٍ شعريَّةٍ عربيَّة، فيها مساحاتٌ كافيةٌ لاستقرار بعض الموتى والأحياء الموتى أيضاً، مع قدومي ظننتُ لوهلةٍ أنِّي سأكون واحداً منهم بعد حين، فَرُحتُ أحفظُ أسماءَ شوارِعها وتوزُّع حاراتِها، ابتسامات الجميلات الكثيراتِ فيها، تفاصيلَهُنَّ وتفاصيلَها الدقيقة، دمشقُ كانت لديَّ امرأةً طازجةً دوماً، جاهزةٌ لفعل الحبِّ مع أيِّ عابر، فعلُ الحبِّ لأجلِ الحب، الشهوةُ عندها مقامٌ ثان، حنينُها إلى دمشقَ التي صارت أدنى الأرض بسبعِ طبقاتٍ دفعَها لاكتشاف وجوه العابرين، التوحُّدَ بهم وأسرِهِم في مخدعِها، وحدتُها قاتلةٌ كداءٍ يتربَّصُ بالإنسان ليفتِكَ به دون انتباه، لا يلاحِظ نفسهُ إلا وهو يخطو آخرَ خطواتِهِ القليلةِ نحو حياةِ ما بعد الموت حيث لا موتَ أبداً.
دمشقُ المحاصرةُ داخلَ أهلِها المُحاصَرين بالراجماتِ التي تعتلي رؤوس الجبال يحاولون الإفلات إلى حياة، في دمشقَ تبحثُ عن صداقاتٍ دائمةٍ ولا تجد، تبحثُ عن حبيباتٍ يُزاحمنَها الوجود ولا تجد، تبحثُ عن مُقاتِلينَ قضوا في حروبٍ بعيدةٍ ولا تجد، تبحثُ في قاعِها عن الجميلاتِ اللاتي اغتالتهُنَّ المدينةُ ولا تجد، في دمشقَ تجدُ الإلهَ مصلوباً على مئذَنة والقرآنَ مرفوعاً على صليب، كلُّ العابرين فيها مشاريعُ للموت المؤجَّل، الموت المقدَّس والمُدنَّس، الصحيح والعليل، الكاذب والصادق معاً.
دمشقُ تختزلُ التناقُضَ في شوارِعِها وعيونِ الجميلاتِ فيها، التناقُضُ مُعجِزَةُ نُبُوَّتِها الوحيدة، رسالتُها أخذُ العابرين وجعلِهِم أبناءَها ثم تفترِسهُم على مهلٍ بتلذُذٍ مازوخيِّ الهوى، تُعذِّبُ نفسها وتقتلُ أجزاء من روحِها ثم تُرمِّمُها بعابرين جدُد، هذه المدينةُ التي احترفَت النومَ خلسةً في مخادِعِ الآخرين تعودُ اليومَ طاهرةً بأبطالٍ جُدُد، المدينةُ القاتلةُ مشغولة باختزال أسماء المقاتلين فيها بأسماء أحيائها وحاراتِها، بينما كنتُ منشغلاً باكتشافها مرَّةً أخرى، دمشقُ مدينةٌ تكتشفها كلَ مرةٍ وكأنَّها لأوَّلِ مرة!
اكتشافُ دمشقَ يماثلُ الرعبَ الذي يصيبُ الكاتبَ قبلَ لحظاتِ الكتابةِ الأولى بأيِّ عمل، اكتشافُها يعني الوقوفَ على مسرحِها ومواجَهتها بكلِّ أفعالِها والتصالُحِ مع جرائِمِها، كالقفزِ الحرِّ من قمَّةِ الجبال العالية نحو المنحَدَرِ السحيقِ البُعيد، اكتشافُها يُعادِل فكرةَ عدم اكتشافِها بنفس القدر من اللذة المُصطنَعةِ للتعاملِ معها بحيادٍ مُطلَق، كنتُ يقيناً أن دمشقَ لا تخضَعُ لمزاجيَّاتِ أحد فلها مونولوجها الخاص الذي تُبحِرُ فيه، ذلكَ البحرُ الذي لا يمكِن الغوصُ فيهِ إلا بإذنِها، هنا تكمُن دهشةُ الوحي في شوارِعِها الوحيدةِ دون مؤمنين، فيها لا تسألُ عن أديانٍ وسماءٍ وأرض فهي تختزنُ بين جنباتِها العشق الحرام.
دمشقُ كامرأة اعتادت البقاء على قيد الحياة لأجلِ روحِها فقط دون الاكتراث بكل الواقفين بطابور حبِّها والمتورِطين بقائمةِ عشَّاقِها، مدينةٌ تقفُ رغمَ فقدِها لبكارتِها مراراً على يد العابرين بشموخِ أنثى تتحدَّثُ إلى طيفِها دون أن تُعطيكَ جواباً أنت الذي تنتظرُ منها الاعتراف بكَ واحداً من محبِّيها، تمرُّ لياليها الحزينةُ الماطرةُ والباردةُ والساخنةُ بكلِ ما فيها من تناقض، هنا دمشقُ حيثُ الهويَّةُ الأولى للغرباء والروحُ المعلَّقةُ بالمدينةِ الغائبة، دمشقُ لا تتركك إلا وأنت مستسلم لها بكل أسلحتِكَ الثقيلةَ والخفيفة.
دمشقُ تمرُّ بي وأمرُّ بها مُنتَظِراً هندا كي تأتِي من نهايةِ الصالحية حيثُ موعِدُنا أمام البرلمان لنمضي ثلاث ساعاتٍ معاً قبل أن أذهب إلى الفندق، خلال انتظاري حاولتُ أن أستعيدَ توازني الداخلي في ظلِّ مباغتةِ الحنين في وجهِ المدينة التي بدت لي بشكلٍ مختلِف وهند تأتي من بعيد، أدرتُ ظهري للمدينةِ ومشيتُ تجاهها وحينَ وصلتُها رحتُ أمشي باتجاهٍ معاكس لطريقنا مُعطياً وجهي لها وظهري للطريق القادم، أُريدُ أن أراها وحدها دون سواها، أتأمَّلُها وأُعبِّئ عينيَّ منها لأشبعَ من عطرِها المنثور كحقلٍ مغناطيسيٍّ يحيط بشعرها، أصابعنا تتجاذبُ أطراف الحديث كما أجسادنا.
للجسدِ لغةٌ كانت تفهمُها جيِّداً عيونُها، للجسدِ لغةٌ عندَها في تمايلِ الأردافِ وانسدال الكتفين وبوح الشفاه، كنتُ أخافُ خلال انتظاري من حبِّها، هي التي قالت عند حديقةِ السُبكي حينَ كانت ترمي بقايا البطاطا المقلية للبط: إنَّ دمشقَ تشبِهُها، تشبِهُ فيها الغرابةَ التي تنتابُها في لحظاتِ الشهوةِ المقدَّسة، أخبرتني أنَّ ابنتها ستحمِلُ اسم شام لتبقَ المدينةُ ساكنةً فيها ومعها بكلِّ تنقلاتِها، داماس أجملُ من شام هو الاسم الأقدم للمدينة والذي اشتقَ منه الاسم اللاتيني «داماس كوس»، داماس، يبدو أنَّ الاسم أعجبَها فقد راحت تتحدَّثُ عن أصواتِ الحروف العربية في النطق اللاتيني، داماس، اسمٌ غريب لم تسمعهُ من قبل، أجملُ الأشياءِ أغربُها أقول لها وأنا أضعُ يديَّ على كتفِها مُطوِّقاً إياها لتدفعَ أصابعي وتهمس، نحنُ في الشارع.
في دمشقَ يمكنُ الحب في الزوايا وفي الحدائقِ وتحت الأشجار وفي الشوارعِ الضيِّقة، في دمشقَ يحارَبُ الحبُّ وتبقى لوعةُ المُحبِّين اشتهاءً لقُبلَةٍ تأتي على عجلِ اللقاء المحدود، في دمشقَ نخترعُ الأحاديثَ الغريبة كي نهرُبَ من شهوتِنا المتحفِّزةِ للانقضاض، هناكَ ما هو أهم، اكتشافُ المدينة لكلَينا نحن العابرين فيها كان بذات الدرجةِ من الشوق في كلِّ مرة، ستحملُ ابنتها اسم المدينة ذات الأسماء المتعدِّدة والوجوه الكثيرة، المدينةُ التي يفصلُ بين سكَّانِها خطٌّ وهمي غير موجودٍ في الجغرافيا، خطٌّ يجعل منها ساحةً لفريقين أحدهُما يخافُ من الآخر ويعيشُ له، لخدمتهِ وقضاءِ حوائجِهِ وبناءِ مجده.
هنا لا تفصِلُ بين أنت وأناكَ الآخر، هنا يمكنُ التوحُّدُ بين فريقٍ من اثنين، المُحبون والكارهون للمدينة، المُتوَرِّطون بها والعابرون لها، الساكنون فيها والساكنة فيهم، الحاملون لهويَّتِها والحاملةُ لهويَّتِهِم، العابرون وحدَهُم يحبُّون هذه المدينة، العابرون بها فقط يكتبون عنها ويجترُّون ذاكِرتَهم فيها، كلُّ تفصيلٍ فيها يدفعني للتصالُحِ معها وقد اختزنتُ في حجارتِها بعضاً من ملامحي، التصالُحُ معها على وقعِ الجنود الذين يعبرونها نحوَ مدُنٍ بعيدة، أحداثُها الماضيةُ شكَّلَت حاضرنا اليوم، نحن ضحاياها وضحايا التاريخِ فيها فترَكَت فينا كلّ ما لا يُمكِن احتمالَهُ بانتظار عيونِها العابرةُ فينا أيضاً الساكنة في أرواحنا منذ البدء.
تاريخُها المنسيُّ يدعونا كلَّ صباحٍ لاكتشافه بينما كنتُ منشغلاً باكتشاف التقَشُّب الظاهرُ على شفتِها السفلى، شفتُها السفلى المكتنِزةُ كأنَّها محشوَّةٌ بسيلكون، شفتُها السفلى التي وضعتُ لساني عليها جيئةً وذهاباً المرَّةَ الماضية، راقبتُ ارتعاشَ اللحظةِ فيها، وقفتُ على أطرافِها وكأني أقف على ضفَّةِ الحلُم، في لحظةِ مراقبتي لها أمسكَت هند بعينيَّ مُتلبّسة بها، كنتُ أودُّ أن أقول لها إنِّي أُحبُّها لكني لم أستطع، كنتُ أودُّ لو أقف أمام مدرسة الفرنسيسكان التي صار اسمها ادار السلامس لأصرَخَ إني أحبُّ، كان بودِي لو أذهب إلى البرلمان لأطرحَ حبَّها على جدول الأعمال القائم للجلسةِ الطارئة، كلُّ ذلكَ كان ممكناً في لحظةِ الاستسلامِ للوقت الذي بقيَ منهُ ما يقارب النصف ساعة فقط معها قبل انصرافي إلى الفندق.
كمَن يهرُبُ من نظراتِ أحدِهِم سألتُها وأنا أُشعِلُ سيجارتي عن مشروع انوهادراس الجديد الذي سينشئُهُ المعلم؟ تفاجأت بمعرفتي بالأمر فهو سريٌّ لم يُعلَن بعد، برَّرتُ ذلكَ بسماعي لحديثٍ عابرٍ بين عُطيل والمعلِّم عن ضرورةِ تجهيز المقرَّات الجديدة في االقبوس بجانب الفيلا، حيثُ ستكون مركزاً للجريدةِ الأسبوعية، ذلكَ الحديثُ كان في موقِف السيارات منذ ليلتين عندما كنتُ أجلسُ في غرفةِ الحارس أبي محمود، بدا أنَّها اقتنعت بروايتي فأخبرتني أنَّ المشروع صارَ في خطواتِه النهائية وسيتمُّ الإعلان عنه قريباً، أوحَت لي أنَّها تعرِفُ الكثير ففضَّلتُ الصمت، في اليوم التالي رأيتُ قراراً مُعلَّقاً في لوحةِ الإعلانات ببهو الفيلا بأوامرَ إدارية تنصُّ على منع الموظَّفين من الجلوس في غرفة أبي محمود الحارس مُطلَقاً!
كل ليلة في غرفة القمار بالفندق صرتُ معتاداً أن أجلس ساعاتٍ طويلةٍ أُراقِبُ نشوةَ الربح وإحساس الخسارات المتتابعة، غرفة القمار التي ضمَّت طاولة جديدة تعتمدُ على النظام الأميركي بأرقامٍ تمتدُّ من 1 حتى 36 بمربَّعَين للرقم صفر ليصلَ عدد خاناتِها 38 بينما ظلَّ اللاعبون الأساسيون يفضِّلون الطاولةَ القديمة التي تحوي 37 خانة من 0 حتى 37، في لحظاتِ تقديمي المشروب لهم أو اسم الهاريس كما يسمّيه عصام، كنتُ أختلِسُ النظرَ إلى طريقةِ لعبِهِم، العميد يتَّبِعُ الطريق الفرديَّ في الرهان فيراهنُ على مربَّعٍ واحد فقط في الطاولة بعقليَّةِ ضابطِ الأمن الذي يُدرِكُ أنَّ جميعَ الخانات مشبوهةً وعليهِ أن يكون في ضفَّةٍ واحدة.
أحياناً كان يمرِّرُ حجرين على رقمين متجاورين اتِّباعاً لمنطقِ الحلفاء الذي يؤمنُ به، بينما كان سليم بك يلعبُ بطريقةِ الشارع حيثُ يختارُ ثلاثة أعدادٍ متجاورة بصفٍّ أفقي، لمّا تُداهمُهُ الخسارات بعد عدَّةِ دورات صار يلعبُ بطريقةِ الزاوية بأن يضعَ رهانَهُ على أربعةِ أرقامٍ متجاورةٍ تُشكِّل مربَّعاً واحداً على سطح الطاولة، وحدهُ جميل كان معتاداً أن يلعبَ بالثلاثي بوضعِ الأحجار مجتمعةً على الأرقام من صفر حتَّى ثلاثة وأحياناً يُسقِطُ الرقم واحد لتكون من الصفر إلى الرقم أربعة، كانوا جميعَهُم يكرهون اللعب بشكلٍ عمودي، لا يؤمنون بالطبقات فعقيدَتهم تقوم على التبعيَةِ المُطلَقة سواء لمن تحتهُم أو من هم أعلى منهم، هكذا تبدو الصورةُ واضحةً أكثر، الخساراتُ في نهايةِ المطاف كانت تتوزَّعُ بالتساوي بين الجميع، في غرفةِ القمار كلُّ الخسارات تتعوَّضُ بصفقاتٍ أُخرى بينما يقفُ الخاسرون وحدَهُم جوعى خارجَ أسوار الفندق وأحياناً داخله.
القمارُ يغدو للَاعبين أسلوبَ حياة ومنهجاً للتفكير، فيُضاربون بالأشخاص والمواقف والعلاقات، جميل قدَّمَ أخاهُ حجراً على خانةٍ ربِحَ فيها البقاء والعميد كذلكَ وسليم بك أيضاً الذي أخبرني عصام أنَّهُ أخذَ امتيازاً بأكبرٍ مدينةِ ملاه في سوريا تحت غطاءٍ من أحدِ المُتنفِّذين في السلطة، السلطةُ أيضاً تُقامِرُ بمن يكونُ تحتَ مظلَّتِها، الحياةُ كلُّها مقامرةٌ يكون الفقيرُ فيها الركنَ الضعيفَ الذي يقفُ في المُربَعِ المرسوم له، وهناك من يقرِّرُ متى وأين وكيفَ يكون الوقوف!
في غرفةِ القمار تتَّحِدُ الأرضُ والسماء في أقدار العابرين بها، الطاولةُ الأخرى كان يجلسُ عليها أحياناً بعض الحالِمين، رُحتُ أتخيَّل نفسي صندوقاً أسود خاصَّاً بهذه الغرفة التي حكمتها عدَّةُ أركان، بعضُها صارَ أمراً واقعاً كالصفقات التي عُقِدَت بالأمس وقبل الأمس، كتلكَ النزواتِ التي تمرُّ كلَّ ليلةٍ بكواتمَ للصوت، هنا في هذه الأمتار تغدو الحياةُ حقيقةً لا مجازاً تعادلُ أن تلفَّ العجلةُ الخاصَّةُ بالطاولةِ دورةً أخرى ليكونَ الحظُّ من نصيبِ لاعبٍ آخر، تعلَّمتُ من مراقبتي اليومية كيفَ يكون البغاءُ فعلاً اعتيادياً وكيفَ تكونُ الثرواتُ أمراً طارئاً وذهابها أمراً طارئاً أيضاً.
الاعتياد في الأشياء هي الفكرةُ التي سيطرت عليَّ وأنا أُقدِّمُ المشروب الجديد وأحملَ ما تبقَّى من صحونِ الخضروات والموالِحِ عن الطاولة حين أمسكَ بمعصمي جميل ولفَّهُ ليقعَ كلُّ شيءٍ من يدي بينما غرقَ الجميعُ في ضحكٍ هستيري، وحدَهُ مديرُ الغرفةِ تقدَّمَ منِّي ورفعني عن الأرض، هنا في هذه الغرفة الكرامةُ لا قيمةَ لها ولا تعني شيئاً للآخرين، فمن أنا سوى س حموديس الذي أقومُ على خدمة الجميع، رحتُ أبكي في القسم الخلفي للبار الذي يقفُ أمامَهُ عصام الذي كان يطلُّ عليَّ ليهزَّ برأسِهِ، كان البكاء لحظتَها يغسلني من كلِّ شيء، يغسلني من ذنوبي وأخطائي، البكاءُ وحدَهُ أخبرني أنّي ما زلتُ إنساناً أُشبِهُ الآخرين بعد أن صرتُ بحكمِ الاعتياد واحداً من مكوِّنات العالم السري، العالم السري الذي صرتُ أغرقُ فيهِ يوماً بعد يوم، صرتُ جزءاً من تفاصيلِهِ الصغيرة، لم يُعطِني أحدٌ حصانةً خاصَّةً لأعبرَ بين سراديبِه، الحصانةُ كانت تترسَّخُ عندي ضدَّ الحبِّ فقط، كنتُ أخافُ من الحب لأنَّ الحب سيجعلني ضعيفاً أكثرَ ممّا أنا فيه، الضعفُ في حالتي لم يكن استثنائياً كان صبغةً عامةً للمتواجِدين تحت هذا السقف الذي يضمُّ الثروات والخسارات والأحلام المؤجَّلة.
لحظةَ البكاء عندي امتدَت أياماً دون أن أعي ذلك، أبكي تحت الدوش ليلاً، تختلطُ دموعي بالماء الساخن، أبكي على سريري الذي تعوَّدَ بقائي وحيداً، أُحاوِلُ تمرير يدي إلى جانبي باحثاً عن ظلِّها، لا أحد، أكرهُ هذه الحركة التي شاهدتُها مراراً في السينما، البطلةُ تبحثُ نصفَ نائمةٍ عن رجلٍ بجانبِها، تتلمَّسهُ فإن لم يكن تبحثُ في برودِ الغياب عن ظلِّه، المكانُ عندي باردٌ وتقليدي واعتيادي، تفاصيلَ التجاعيدِ فيه ليست مهمَّة أبداً، إنَّهُ غيابُ تاء التأنيثِ عندي، لذا كنتُ بحاجةٍ فقط لشهادةٍ أنِّي قابلٌ للحب لا أكثر، قابلٌ للحب، استهوتني هذه الفكرةُ للغوصِ فيها أكثر مُلازِماً وحدتي في كلِّ شيء.
دائماً ثمَّةَ أنثى في ظلِّ الرجل، يختبئ فيها في لحظاتِ التعب، والدي الذي ماتَ منذ عشرين سنةٍ كان يقولُ لي لا تبكِ كامرأة، هندُ تداهمني كقنبلةٍ تواكِبُ هطول الدمع دون استئذان، فأمشي في شوارِع المدينةِ صباحاً أبحثُ في خباياها عنها، أبحثُ عن المدينةِ في المدينة، أدخُلُ إلى السينما، لا يشدُّني الفيلم المعروض أبداً، فيلمٌ قديمٌ يعودُ إلى تسعينات القرن الماضي، أرى الجمهور يبتسمون، يبتسمون من فرطِ القهر، يتلَّمسَون حاجاتهم بكرسيٍ يجاورُ مكانَهُم، لا امرأةَ فيه، إنَّها بقايا الشهوات المنثورةُ باعتياد، أخرجُ من نصف الفيلم، نهارُ المدينةُ لا يصلُحُ للبوح، إنَّها طاهرةٌ عفيفةٌ تحت الشمس وفاسقةٌ دنيئةٌ في الليل، يتعاملُ الجميعُ معها وفقَ هذا المنظور، الكلُّ يراها هكذا، لذا فكَّرتُ بأخذِ إجازةٍ من كلِّ شيء، إجازة تجعلني أُعيدُ ترتيبَ نفسي ودموعي وأُفكِّر بما سيكون.
الأسئلةُ الوجوديَّةُ تُلِحُ عليَّ، مَن أنا، ماذا أكون، ولماذا أكون، الحياةُ والموت، تسيطِرُ عليَّ أجواءُ غرفةِ القمار وأنا أسيرُ متَّجِهاً إلى الفندق في ذلكَ اليوم الطويل، حاولتُ الاتِّصالَ بهند مراراً لكنَّها لم ترد، بمجرّدِ وصولي إلى الفندق تحدَّثتُ مع المدير عن ضرورةِ الإجازة لعدَّةِ أيام، بدا متفهِّماً للأمر رغمَ إصراره أنَّ الحادثَ في الغرفة عرضيّ ولا يستدعي أن أُحمِّلهُ أكثرَ ممَّ يستحِق، في الحقيقةِ كنتُ أودُّ لو أبصُق في وجهه، لكنِّي اكتفيتُ بإقناعِ عصام أن يكونَ مكاني في توزيعِ الطلبات للاعبين بينما أقومُ أنا بتحضيرِها، وافقَ على مضض ولأنِّي أعرِفُ أذواقَهُم جميعاً قمتُ بتجهيزِ الطلبات كاملةً مرَّةً واحدةً خلال ساعةٍ من الزمن وطلبتُ الانصراف باكراً، رغمَ معارضةِ المدير إلا أني تدبَّرتُ الأمر مع عصام ومضيتُ دون أن ينتبِه أحد، قبلَ أن أخرُجَ من الفندق مررتُ إلى غرفةِ مادلين، طرقاتٌ خفيفةٌ على الباب ففتحت بعد أن تأكَّدت أني أنا.
في الحقيقةِ أغوتني فكرةُ البقاء معها بضع ساعاتٍ فقط قبل أن أُغادِرَ الفندق، فرمَيتُ نفسي على الكنبةِ الواسعةِ واشترطتُ عليها ألَّا أقتربَ من خلطِ المشروب أبداً، قلت لها حرفياً الا أريد أن أشتمَّ رائحتَهُس، أخرجت لي سيجاراً فاخراً من دُرجٍ قريب وحضَّرَت سريعاً كوبينِ من القهوة السوداء، خلال انشغالِها رأيتُ أوراقاً على الطاولةِ القريبةِ فاستللتُ إحداها، كان مكتوباً عليها:
اوفي رحلةِ البحثِ عن نفسي وجدتك، فكيفَ لي أن اقبلَ غيابك بعد الآن، كيفَ لي أن أتعاملَ مع الحياةِ كأنِّي لم أمُرّ بعينيك وكأنَّ الأشياء صارت تخضعُ في توقيتِها لما قبل وجودك وما بعده».
الجملةُ في الورقةِ تُمكِنُ قراءَتُها بتذكير المُخاطَبِ وتأنيثِه ولم أجد حرجاً في سؤالِ مادلين عنها، أجابتني بعد ضحكةٍ ماكرةٍ أنَّها لكاتبٍ تردَّدَ عليها مرَّتين فوقعَ في الخطيئة.
الخطيئةُ في لُغَتِها كانت تعني الحب.