ديباجة العبث
تراءت لي مصطبة المسرح كمصير غامض. لم أكن متأكّدا من حفظي التّام للنصّ المنوط بعهدتي ومهما يكن من أمر فقد قرّرت المجازفة.
امتلأت مدارج المسرح بجماهير اتّخذت أماكنها بلهفة واستكان الجميع لهدهدات انتظار توغل بهم في بواطن الأسئلة المشتهاة.
تقدّمت متّخذا مكاني وسط المصطبة الخشبيّة. حملقت بعينيّ بين الحشود ثمّ رفعت طرف الرّداء القوطيّ ووضعته على كتفي أبتغي وقار القدّيسين وهيبة الأباطرة.
- أروم الحكمة يا سادة. فهل لي بها؟
صحت نافثا نبرة غضب في المسرح.
كان المسرح مبنيّا على الطّراز اللّومباردي. زخارف سقفه المذهّبة تحكي حقبة مهمّة في التّاريخ وجوانبه المكلّلة بنسائم الرّوحانيّات تهلّل بعظمة الكنائس وقداستها.
- ألا تعنيكم الحكمة في شيء؟ ألا ترتوون من رحيقها المرّ اللّاذع؟
وهمهم الحاضرون بأسئلة حائرة وتطارحوا الاستفهامات.
تقدّمت فتاة فينونة بأناة وتدلّل. وسكبت حولي سائلا سريع الالتهاب حتى حاصرتني بدائرة كبرى واستهلّت دورها بأحاديث قديمة ونواميس معتّقة.
- أنت سجين نفسك يا هيكتور وهذه القيود المقدّسة ليست إلّا أناك النرجسيّة المتعالية.
- أنا ابن ذاك الرّاعي الذي أفنى عمره يسوق القطيع إلى الكلأ والمرعى. أنا ابن تلك المتزهّدة التي ماتت وهي تسبّح وتبتهل في ظلمات اللّيالي وغبشات الضحى.
- سبق واخترت طريقك.. أنت ملعون.
- لست ملعونا. أنا هيكتور الخالد.
وانسحبت الفتاة في تراقص وهي تهفهف بثوبها الزّهري حتى توارى طيفها.
مكثت أحاول الخروج من الدّائرة فأتصنّع عودة لا مردّ لها وأظلّ كذلك في نوبتي الصّارخة معيدا سؤالي.. الحكمة. الحكمة يا سادة.
أقبل كاهن بمعمدانه الفضيّ وشمعدان مزخرف تنوض منه عفائر بخور هندي. ظل يمشي بتؤدة ويلفّ حولي مستغفرا ومبتهلا حتى قال.
- ما كان لك أن تفعل ما فعلته يا هكتور.
ارتعبت قائلا:
- ماذا فعلت؟ كل ما أردته هو التلذّذ بعصائر الحكمة والارتواء من دفقها اللّجج.
- الحكمة… لكنّك ملعون والملاعين الموسومون بالخطايا لا يتوجّب عليهم سبر أغوارها.
- لست ملعونا.. أنا هكتور الذي حارب لأجلكم في الفيافي والوغى والبحار النّائية.
- أمازلت مصرّا على نقائك وصفاء فؤادك؟
- لا يعوزني عن الحكمة شيء أيّها الكاهن قسطنطين. أنا بشر وبها أهتدي وبها لا أظلّ سبيلا.
أمسك قسطنطين البخّارة ومكث يحوم حولي يلفحني بدخانها المقدّس ويطلب لي المغفرة مردّدا أحاديث ابتهالية في ورع وتلطّف.
ومثل من صرع إثر مسّ، تهاويت كبطل كسير وتكدّس جسمي الذّليل داخل الدّائرة المقدّسة.
- أتلُ صلاتك أيّها الآثم ونكّس أعلام بطولاتك الواهية.
صرخ قسطنطين بصوت جهوري واعتكف بجانب دائرة الآثام ساكنا كصخرة ثمّ اجتاح تصفيق الحاضرين خشوع الرّكح وازداد الممثّلون ألقا ونشوة.
أسدل السّتار عن الفصل الأوّل وتخلّلت المسرحيّة معزوفة قروسطيّة تعزيزا لقداسة الأحداث وترسيخا لأوامد التّاريخ فيها.
- تلك فاتورة اللّامبالاة يا أحمد. كان بإمكانك ولوج أعتى المسارح وأعلاها صيتا.
لوحة: حسين جمعان
أشار لي الممثّل خالد بعينين غاضبتين وهو يلبس حذاءه القوطيّ مستعدا للفصل الثّاني. «تستنزف نفسك كإسفنجة في هوامش المسارح وأزقّتها الشّاحبة»، أضاف بحنق.
لم أعره أدنى اهتمام. مكثت أستذكر بقيّة السّيناريو. رأسي يزفر بشظايا أحلام قديمة وضوضاء مرعدة.
مرّ أمامنا عاملا المؤثّرات الصّوتية. كانا يتجادلان حول مشكلة تقنيّة، هذا ما بدا لي. ثمّ تناهت إلى سمعي أصوات شجار وشتائم آخر الرّدهة الرّئيسية. فكّرت أنّ المسرحيّة فاشلة وأنّ جميع الممثّلين يحيكون المكائد لبعضهم البعض ولسبب ما نسيت النّصّ وأدركت أنّ شيئا ما سيحدث، شيء مثل حادث سيء داخل كيس مليء بالتّوابل الحارّة.
فتح السّتار من جديد وصمت الحضور عن اللّغو والحديث. سلّطت الأضواء على جسد هيكتور المتهالك وبجانبه قسطنطين الكاهن تحدوه هالة وقار واستحياء.
دخل جمع من الفرسان متقلّدين أغلى الأوسمة وأعلاها مرتبة. اصطفّوا خطّا واحدا أمامي وأشار لهم الكاهن العجوز بأداء الإعلان الملكيّ وتلاوة قرار مجلسهم الموقّر.
- نحن فرسان الدّوقيّة الكبرى. وبعدما اقترفه هذا الآثم العربيد من محاولة لسرقة الماء المقدّس من حوض الحكيمة مينرفا واستباحة قداسة الحرم الملكيّ، نقرّ بوجوب عقابه على ما اقترفت يداه بأن يتمّ إحراقه في دائرة الآثام وليكن عبرة لغيره من المارقين.
ثمّ ابتعد الفرسان مفسحين المجال لموكب جلل يتقدّمه عازفو مزامير وطبول وتتوسّطه مينرفا الحكيمة في جمال صارخ وإغراء لا يقاوم بين حوريّات صغيرات كأنّهن فراشات ربيع بألوانهنّ الزّاهية وأرواحهنّ المزهرة.
نسيت كلّ شيء. مكثت بلا مبالاة وسط الدّائرة أنظر إلى فرسان الدّوقيّة وهم يغادرون الرّكح. نفس اللّامبالاة التي اعترتني في جلسات التّقييم حين قدمت لجان مسرح أجنبية لانتداب ممثّلين. تخيّلت أنّهم أولئك الذين غادروا لتوّهم وشعرت بهزيمة مؤلمة، هزيمة هائلة. وخمّنت أن أعتزل. بيد أنّني عدلت عن ذلك.
مثلت مينرفا أمامي.انبهرتُ بتلك العينين المكتحلتين بأنوثة ساجية وطرفها الممشوق الموشّح بالأكاليل والجواهر ووجنتيها الحمراوين يتوسّطهما فم كرزيّ مشعّ.
- هيكتور. انهض وواجه مصيرك المحتوم.
قالت مينرفا وهي تشير إلى فارسين بمساعدتي على النّهوض. كيف لمن استطاع الدّخول إلى الرّوضة الملكيّة واجتياز حرّاسها أن يصير إلى انكسار وهوان؟ أكملتْ بنبرة حازمة.
لم أدر ماذا عساي أفعل. الممثّلون ينتظرون كلمتي وقد اكتنفهم ذهول وانتظار فكانوا لا ينبسون بحرف. نظرت حواليّ وغالبتني نظرات مينرفا فأشحت بوجهي عن الرّكح. تلقّفتني أعين الجماهير بترقّب. انتابتني نوبة ضحك، كان ضحكا غاضبا. مسعورا. متواصلا. تهيّأ لي أنّهم يتوقون إلى مشاهدة عقابي وأنّني أشكل عبئا على الرّكح. بدا لي الأمر طريفا. ربّما لأنّني نجحت في أداء دوري وربّما لأنّني لم أعرف ماذا أفعل حيال ذلك وطفقت أضحك على أيّ حال.
- ماذا دهاك؟ أكمل فقرتك. همس قسطنطين محاولا إخفاء غضبه.
تدانيت قليلا جهة اليسار وبقيت كذلك مبتسما. مثل من رأى إعصارا قادما فأراد الموت على هيئة فرح. لاحظت تململ مينرفا وارتباك الإطار التّقني وأيقنت أنّ نجاح العمل منوط بعهدتي.
اكتنفتني نزعة عبث. توجّهت إلى قسطنطين وافتككت من يده المشعل وألقيته في الدائرة فتصاعدت لهبا واضطرم سعيرها ثمّ خطوت داخلها فكنت محاصرا بلهب متماوج. استهوتني ألوان النّيران ومكثت هناك لا أنتظر شيئا. فكّرت أنّني أعاقب نفسي وتوهّمت أنّني كنت أتوقّع ذلك. اشتدّت حرارة اللّهب وغاب كل شيء عن ناظريّ حتّى وثبت إلى عقلي صور مينرفا ولجان المسرح وجيوش رومانيّة ثمّ أخذت تبتعد شيئا فشيئا.
أخرجني الفارسان من دائرة اللّهب. استوضحت الرّؤية من جديد. مينرفا تجلس أمامي في جزع وخوف. الواقع أنّني كنت مرتاحا لأنّني لم أفعل الشّيء الكثير لدرء لامبالاتي وفكّرت أنّني حبّذت المسرحيّة.
الأمر الأكيد أنّني اقتربت من وجه مينرفا وقبّلتها بغضب. سمعت أحدا يسأل كيف انتهت المسرحيّة. أخبروه أنّ هيكتور عاقب نفسه وأنّ الكاهن احترق. آخر عهدي بقسطنطين أنّه سارع لإطفاء اللّهب بردائه. لم أدر هل يتوجّب عليّ الضّحك أم الصّمت. الفرح أم الحزن.