ذئب البوادي
شخصيات المسرحية
ذئب البوادي: بطل من العصور الغابرة والمعاصرة
الراعي: صديقه، ووسيطه
الجنية: ابنة شيخ الجان
موسيقي: آخر شخصية في امبراطورية الجن
شيخ الجان: والد الجنية.
شيهانة: أنثى الصقر وابنة ذئب البوادي
التنين:
الزمان
تراتب لا منطقي بين العصور الغابرة والمعاصرة.
الفضاء
افترضْ أنك تخرج من بيتك فإذا بك وجها لوجه أمام بادية الشام. لا طرقات مبلطة. لا أعمدة كهرباء. لا جيران. وحين تتحرك لا تقودك الحركة إلا إلى غور الفلاة.
وكلما أوغلت فيها يبدو لك لونها وكأنه يقترب من غروب لازوردي. ثمة بقع تصبح مشروع ملاذ مثل السراب. هنا وهناك تنبت (نقاط؟) في البادية. سراب داكنٌ أم شيء آخر؟ ومثلما يلتمّ الندى على بعضه ترى أن النقاط أخذت هيئة آدمية. حفناتٌ صغيرة من البشر تغذّ السير في ذات الاتجاه الذي تتجه أنت نحوه، وكأن ثمة موعد ما. أنت تتابع تلك المجاميع الصغيرة فتراها تختفي في شيء شبيه بواحة نائية. أنت تغذ السير نحو الواحة المفترضة.
يبزغ طريق وكأنه طريق قروي ولكنه زقاق صحراوي. يكبر الزقاق ليس عبر العرض ولكن عبر الارتفاع. شيئا فشيئا تبزغ من تحت الأرض نبتات سرعان ما تصبح بيارغ ملونة. مشاعل. بخور. إيقاعات طبول. أزقة صغيرة تتشعب. في رأس كل زقاق شخص أو تمثال يقدم لك شاي نعناع أو ماء ورد أو شمعة يشعلها آخر وأنت تجتاز الزقاق إلى زقاق آخر. حيطان الأزقة ليست من الآجر ولا من الإسمنت. إنها عباءات طويلة غامقة الألوان. بعد أن تجتاز كل تلك الأزقة تنفرج أمامك بوابة نحيلة فتدخل فيما يشبه بيت القصب أو بيت الشعر.
ممثلة تجلس مثل وصيفة في عصر عباسي عند الباب، تقدم الشاي بالنعناع. بخور وأصوات موسيقى من بعيد. لا ضوء سوى التمايل المغناج لضوء الشموع. الشاي حار في اليد والجو دافئ عكس ما كان عليه قبل الدخول، أي في الخارج. الصمت يسبغ إحساسا من الغرائبية على المكان الذي بدت أرضه الصحراوية اللامعة شبيهة بسراب يكاد يحضر ولكنه لا يجرؤ. يبدو دخول الناس وكأنهم يتقاطرون مستسلمين لواحة الصمت وعبق البخور وجلال ذلك الجالس في الصدارة من دونما حراك.
1
الشخصيات تبدو وكأنها تماثيل. تماثيل حية! موسيقى وغناء. بعد فترة يتحرر الراعي من هيئة التمثال. طوال المسرحية، ستنطلق الشخصية من هيئة التمثال ثمّ تعود إلى نفس الحالة.
الراعي:
بسم الله الرحمن الرحيم!
السفر الأول…. امرأة منتصف الليل.
الرجل الجالس في صدر المجلس:
إي!
كان الوقت غروبا، حين أكملتُ الاستعدادات للبدء بالمهّمة.
في صندوق سيارتي الرانج روفر كدّستُ مؤونة أربعين يوما، وعتادا، ووضعتُ إلى جانبي بندقيتي، ومسدسي، وسيفي الدمشقي!
أخفيتُ تحت المقعد التعاليم السرية التي استلمتها من صديقي الراعي بعد أن ودّعته، وتوغّلتُ في بادية الشام بحماسة كبيرة.
بعد أربعة أيام، عند منتصف الليل، ظهرت أنثى غريبة الجمال، يلتمع في يدها اليمنى خاتم دمشقي يخطف الألباب.
(موسيقى)
المرأة:
السلام عليكم.
(الرجل منعقد اللسان)
من أنت؟
(الرجل ينظر لها منعقد اللسان)
المرأة:
ما اسمك؟
الرجل:
ذئب البوادي!
المرأة:
ذئب البوادي! يا له من اسم!
….
ومن أين أنت يا ذيب؟
(صمت. ينظر ذئب البوادي كالمأخوذ)
أعني قبيلتك.. أين تعيش؟
ذئب البوادي:
في الجرود!
….
وقبيلتك؟
المرأة:
قبيلتي تعيش في حلب.
….
ذئب البوادي:
إلى أين أنت ذاهبة؟
المرأة:
إلى تدمر.
ذئب البوادي:
لوحدك؟!
المرأة:
أبي سيلتحق.
ذئب البوادي:
إلى تدمر…. و.. مشياً على الأقدام؟!
المرأة:
كنت أمتطي دابّة، لكن ساقها انكسر فنفقتْ.
ذئب البوادي:
كنت تمتطين دابّة؟!!
أنا أيضا ذاهب إلى تدمر!
اصعدي!
سآخذك في طريقي.
(نسمع صوت سيارة مغادرة. المرأة لا تتحرك).
انطلقنا إلى تدمر.
بعد ساعات عدّة طلبت مني أن نتوقف قليلا، فعرّجتُ على قرية متروكة.
داخل القرية كان ثمة كهف.
بحذر رحت أستطلع محيط الكهف لكي أتأكد من سلامة المكان.
وعندما انتهيت من الجولة كانت قد دخلت الكهف، وأعدّتْ فراشا، وأشعلت نارا، وخبزت خبزا، وبَسَطتْ وشاحها بالقرب من النار ووضعت عليه عسلا وبيضا!
….
تسحرّتُ واستلقيتُ، فجاءت واستلقتْ بقربي،… لكنّني وضعتُ البندقية بيننا.
بعد فترة قرّرتُ استئناف الطريق، فالوقت يمضي وعليّ أن أواصل مهمتي.
بيد أنها كانت مستغرقة في النوم.
….
قبل بزوغ الفجر استيقظتْ.
ذهبتْ إلى صخرة في عمق الكهف، ونظرتْ ثم نظرتْ ثم نظرتْ ثم نظرتْ، ثمّ أزاحتها وسحبتني إلى ما تحت الأرض.
(موسيقى احتفالية. يتحرك ذئب البوادي حركات عنيفة. المرأة باقية في وضعية التمثال!)
المرأة:
أنا جنيّة أعيش تحت الأرض، وأبي هو شيخ الجان.
ستمكث معي أربعين سنة.
(يتحرك ذئب البوادي بعنف)
إذا رغبت أن تكون لوحدك، قل “بسم الله الرحمن الرحيم!” وسأختفي.
….
ذئب البوادي:
فكّرتُ:
لكي أهرب من تحت الأرض عليّ أن أسرق خاتمها السحري!
وبانتظار الفرصة المواتية يجب أن أواظب على ترديد “بسم الله الرحمن الرحيم!”.
وهكذا:
إذا أردت أن أستحم أو أقضي حاجتي ردّدتُ “بسم الله الرحمن الرحيم!”.
لكنني نسيت ذات يوم أن أقول “بسم الله الرحمن الرحيم” فإذا بها تهجم عليّ.
(تغيير مشهدي)
الجنية:
من الآن فصاعدا ستقاسمني الفراش، وإلا ستموت.
ذئب البوادي:
يا سيدتي!
أنا.
….
أنا سعيد بضيافتك تحت الأرض، بيد أنّي أستميحك العذر، لأنّي لن أقتسم فراشك الناري.
يجب أن أصعد إلى ما فوق الأرض!
المهمة التي على عاتقي لا تقبل التأخير أكثر.
الجنية:
هراء.
….
ذئب البوادي:
وواقعتني!
ثم أخفتني في جرّة.
….
وهكذا مرّت الأيام، ومرت الشهور والدهور حتى أصبحنا نعيش كزوجين ولكن في الخفاء.
ذات يوم طلبت منها أن تطلق سراحي من الجرّة وأن نتزوج في العلن، إلا أنها رفضت وقالت إنّ الجن لا يجوز أن يعرفوا أنها متيمة بغرام أنسي.
لكنني حين كدتُ أنجح ذات يوم في الهروب إلى ما فوق الأرض، أمسكتْ بي وذهبت إلى أبيها شيخ الجان وفعلت عكس ما قالت!
(تغيير مشهدي)
الجنية:
أقدّم لك حبيبي يا أبي.
لقد قرّرتُ الزواج منه!
شيخ الجان:
إلى أي عشيرة من الجن ينتسب هذا؟
الجنية:
إنه.. إنه.. ليس بجني….
شيخ الجان:
ماذا؟
الجنية:
لوحة: بهرام حاجو
إنه إنسي.
(يحدّق بها شيخ الجان بذهول)
لقد منحته عذريتي.
….
شيخ الجان:
كيف تجرأتِ على هذا؟!
هل يعقل أن تمنح جنية عذريتها لابن آدم؟!
ذئب البوادي:
وتحدّيا لأبيها أخرجتْ الخاتم الدمشقي ولبسته في يدها اليسرى!
بعد أن تزوجتني علنا ظلت تحتفظ بي في الجرّة، ولا تخرجني إلا إذا أرادت إشباع غرائزها.
….
هكذا عشتُ أربعين سنة.
الجنية خارج الجرّة، وأنا:
داخلٌ خارجٌ، داخلٌ خارجٌ، داخلٌ خارجٌ، داخلٌ خارجٌ،
(يقتل الجنية!)
حتى ماتت ذات يوم بطريقة غامضة!
استحال جسدها الناري جمرا ثم تكوّم رمادا.
نفخت الرماد بحثا عن الخاتم الدمشقي، فلم أجده!
ولكي أكسب الوقت في البحث عن الخاتم أوصلتُ إلى أبيها رسالة تقول إنها لم تمتْ، وإنما ثمة من اختطفها فوق الأرض، وإني قادرٌ بحكم مهنتي على التعرّف على الخاطفين وتعقّبهم واسترجاعها!
لكن جواب أبيها كان صاعقا.
فجأة رأيتُ عبيده في غرفة النوم.
أمسكوا بي وحشروني في جرّة رماد الموتى، وأحكموا إغلاق السدّادة بالقار.
من بعيد تناهت إلى سمعي استعدادات عسكرية للصعود إلى ما فوق الأرض.
بعد أيام أخبرني حارس أن الحملة العسكرية عادت خالية الوفاض، ثم ظهر شيخ الجن كالحلم آمرا بعض جنوده أن يرموني والجرّة في طبقة الحمم البركانية تحت الأرض!!
….
في قلب بادية الشام، بقيت أتفحّم وسط الحمم.
(موسيقى احتفالية)
2
الراعي:
بسم الله الرحمن الرحيم!
السفر الثاني.. الوثن الأنثوي الجميل.
ذئب البوادي:
إي!
بعد أربعين سنة حرّرت نفسي من تحت الأرض، وعدت إلى الجرود.
رحّب بي رجال قريتي، وظهر صديقي الراعي.
(يحدّث الراعي)
هذه إشارة عظيمة يا صديقي!!
بإمكاني إذن العودة للعمل مرة أخرى؟!!
الراعي:
نعم.
وعليّ أن أقودك في المهمّة الأولى، فبعد أربعين عاما تغيّر كل شيء.
ذئب البوادي:
بعد حلول الظلام وصلنا قرية متروكة.
وسط القرية شاهدتُ كهفا.
ترددت.
الراعي:
علينا أن نتسلل بحذر.
ذئب البوادي:
دخلنا الكهف فوجدتُ بندقيتي ومسدسي والعتاد!
ذهب الراعي إلى صخرة وصار يحفر تحتها حتى استخرج ماءً وعرقا.
جلسنا نسكر، ونسكر ونسكر، وكنت أنظر طوال الوقت إليه!
(يحدّث الراعي)
لقد هرمت يا رجل.
الراعي:
بالطبع!
ماذا تتوقع بعد أربعين عاما!
ذئب البوادي:
رحت أنظر إليه وأشرب، أنظر وأشرب، أنظر وأشرب، أنظر وأشرب، ثم انسللتُ إلى مكان سري في أعماق الكهف.
سرقتُ نبتةً ثم:
(يحدّث الراعي)
أنظر يا صاحبي!
هذه هي النبتة التي تعيد الشباب!
تفضل إنها لك!
….
عند منتصف الليل اختفى الراعي بطريقة غامضة.
(صوت سيارة صحراوية تغادر. موسيقى وحركة)
ذهبت إلى مدخل الكهف بحثا عنه فإذا بي أرى وثنا نسائيا معلّقا في الهواء.
تمعّنت بالمرأة الوثن.
لقد كانت أجمل من أيّ كائن على وجه البسيطة.
من وشاحها ينبعث إشعاع غريب.
عندما هفهف الوشاح في الريح انكشف وهج خفي، وعندما انكشفت يدها التمع الخاتم الدمشقي:
(يهتف)
يا للمعجزة! إني أرى الخاتم!
تقدمتُ منها وطلبتُ منها أن تهبط بيد أنها لم تتحرك.
طلبتُ منها الهبوط مرة أخرى غير أنها بقيت معلّقة.
سألتها:
(يحدّث المرأة الوثن)
لماذا لا تهبطين؟
(صمت)
حسنا!
سأجبرك على الهبوط.
(يبدأ طقسا سحريا)
ألا أيتها النجوم احتشدي!
اظهر يا كوكب الزهرة في قلب السماء.
انظر:
حفرت بسيفي الدمشقي نجمة سباعية فوق الأرض ثم كتبتُ داخلها حرف الواو.
انظر:
حفرت خلف الصخرة، واستخرجت سبع حصوات.
- واهي، واها! واهي، واها.
انظر:
وضعت الحصوات السبع على رأس كل زاوية من النجمة.
وقفتُ وسط النجمة وغرزت بندقيتي وسط حرف الواو:
- واهي، واها! واهي، واها. أجيبي أيتها المرأة الوثن.
انظر:
أخرجت مسدّسي وأطلقت تسع رصاصات حولها في الهواء.
(يتوقف الإيقاع)
بعد هنيهة قلت:
(يأمر المرأة الوثن)
اهبطي!
(تسقط الجنية على الأرض بشكل مفاجيء)
الجنية:
السلام عليك يا ذئب البوادي..
كيف حالك؟
هذه مفاجئة أليس كذلك؟!
ذئب البوادي:
من أنت؟!
الجنية:
أنا الجنية الوحيدة في بادية الشام، التي تزوجتك تحت الأرض، واحتفظت بك في الجرّة.
ذئب البوادي:
ماذا تقصدين بهذا الهراء؟!
الجنية:
هذا ليس هراء!
أنا زوجتك يا ذيب!
أنظر للخاتم!
أنا أمتلك سبع أرواح، وكلما أَسلمتُ واحدة أحصل على روح جديدة بهيئة أخرى بعد أربعين سنة!
ذئب البوادي:
حدّقت بها وحدّقت.
كان جمالها أخّاذا وكان الخاتم أقوى من تفكير!
تقدمت منها، فتقدمت بدورها مني وكادت تلامسني.
فتراجعتُ وأمسكتُ ببندقيتي.
(صمت)
أخبرتها بما فعله شيخ الجان، لكنّها لم تعلّق!!
….
بعد صمت بدأتْ تغنّي وراحت تتقدم مني ثانية.
وضعتْ يدها على كتفي، فلامست أناملها عنقي.
….
(موسيقى)
يا إلهي!!!!
إنها الأصابع التي تفوح بعطر السدر والياسمين؛ أصابع الجنيّة الجميلة.
أزحتُ وشاحها فرأيت في يدها العسل والبيض والخاتم الدمشقي.
نظرتُ إليها فنظرتْ إلي،
ونظرت إليها فنظرت إلي،
وجدتُ نفسي داخل الكهف.
لوحة: سمير الصفدي
(موسيقى أعلى)
كنتُ أحدّق وهي تحدّق.
وأنا أحدّق وهي تحدّق.
وأنا أحدّق وهي تحدّق.
وأنا أحدّق وهي تحدّق.
ذات لحظة سمعت صوتي يوشوش لي:
- انتبه يا ذيب! ستغوص بك تحت الأرض!
- هراء..
- ستختطفك وتمنعك من أداء المهمة!
- هراء!
- ستخبئك تحت الأرض في الجرّة!
- هراء.
وكانت شرعتْ بإزاحة صخرة لكي تهبط بي إلى ما تحت الأرض.
- الجرة يا ذيب!
- هراء..
- انتبه يا ذيب! انتبه.
- هراء..
(يقتل الجنية)
رميتها بعيدا عن الصخرة ورميتُ نفسي على جانب آخر.
حين وقفتُ كانت قد اختفتْ!
في البقعة التي اختفت فيها رأيتُ جمرا سرعان ما استحال رمادا.
نفخت الرماد بحثا عن الخاتم، فلم أجده.
لقد وجدتُ بدلا عنه شارة غريبة:
بيضةٌ عملاقة!
(موسيقى احتفالية)
3
الراعي:
بسم الله الرحمن الرحيم!
السفر الثالث…. شيهانة أنثى الصقر
ذئب البوادي:
إي!
(بقليل من اليأس)
منذ أربعين سنة وأنا أخفق في تنفيذ مهمة كلفتني بها إدارة المخابرات العامة:
أن أستنبت الصقور في بادية الشام!!
كل عام يأتيني الراعي ببذور يقول إنها بيوض الصقر فأنثرها، وأنتظر، بيد أن لا شيء ينبت.
بعد أربع سنين أخبرت الراعي بغضب:
(يحدّث الراعي)
إنها بذور وليست بيوض!
الراعي:
هو الذي يدّعي أنها بيوض.
ذئب البوادي:
أربعون سنة وأنا أرمي البذور دون أن تنفلع الأرض، أو أن تنبثق شارةٌ للحياة!!
الراعي:
سيقتلك يا صديقي إذا لم تفلح هذه السنة باستنباته.
(نسمع صوت سيارة صحراوية تغادر)
ذئب البوادي:
واختفى الراعي!
وضعت البذور التي جلبها جانبا، وقررت أن أستخدم أسلوبا آخر.
ذهبت إلى القرية المتروكة.
إلى الكهف.
أخرجت تعويذة سرقتها من عوالم ما تحت الأرض، ورحت أقرأها على البذور الميتة.
قرأتُ بين الأشواك.
بجانب الصخور.
فوق الهضاب.
في الوديان الجافة.
بعد أربعة أسابيع انشقّت الأرض عن بيضة عملاقة، ثم ظهرت بيضة عملاقة أخرى، ثم بيضة عملاقة، ثم بيضة، ثم بيضة، فبيضة!
فرحتُ ألتهم البيض وألتهم وألتهم حتى أصابتني التخمة!
في الكهف نمت خلف صخرة.
عند منتصف الليل فززت من نومي.
نظرتُ إلى صدري فوجدته وقد انفلع، واندلعتْ منه شيهانة، أنثى الصقر!
حدقّت بها وحدّقت:
إنها ابنتي!
هذه ولادة معجزة!
(حركة وموسيقى. تتحرك شيهانة دون أن تتحرك)
ورحت أتمعّن فيها.
كان لها جسد من بأس النمور، ومن قطرات هواء بعيدة المنال!
إذا ما حلّقت فوق الجرود التمعت في السماء واستحالت سمادا أنزلته الريح.
إذا ما حطّتْ بقرية تلألأ الليل وأضحتْ تعويذة لطرد الأرواح الشريرة.
بيد أنها حين استحالتْ سمادا عبأتها في جرّة ودفنتها تحت الأرض، وحين غدتْ تعويذة استخدمتها طقسا للقتل.
(تتوقف الموسيقى)
قالت إنها ستهرب!
قالت إن خلاصها منّي يتم في العثور على زوج يحميها، وخرجت..
وجدت أنيسا وتزوجت منه، وكان زوجها قطّا بريّا.
بعد الزواج بأربع ليال أخفيتُ القطّ في حفرة.
بعد أربعين يوما أرادت الزواج مرة أخرى، وكان زوجها ثعلبا بريّا.
وبعد الزواج اعتقلتُ زوجها في قبر.
وبعد أربعمئة يوم قرّرت مرة أخرى أن تتّحد، وكان زوجها أيّلا.
وحين أنجب لها الأيّل صبيا أخفيت الأب والطفل في جرّة.
بعد أربعة آلاف يوم خرجت أيضا للبحث عن شريك.
وحين التقت الإنسان وأرادتْ الاقتران به، كان قد بلغ السيل الزبى.
أمسكتُ بها وألقيتها إلى البحر حيث التقطتها إحدى الأسماك وابتلعتها!
فاستحال الاثنان إلى أمواج غضب شقّتْ نهر بردى وحطّت في بادية الشام.
(يقتل ابنته)
في تلك الليلة ولدت قرية متروكة في الجرود.
(غناء)
4
الراعي:
بسم الله الرحمن الرحيم!
السفر الرابع.… شيخ الجان
ذئب البوادي:
إي،
في تلك الأيام كان مجرى نهر بردى غزيرا، وكانت بيوت دمشق تتسلق الجبل.
أبحرتُ في بردى على متن باخرة في مهمة جديدة:
نقل المعتقلين الوافدين إلى سجن المزّة العسكري.
كنت اصطحبت معي شيهانة.
بردى كان هادئا.
كل أصيل كانت تطير شيهانة حول الباخرة، وبعد أن أستمع لقعقعاتها وأرى إلى التماعها في السماء أرمي لها الطعام:
أفراخ حمام.
لوحة: سمير الصفدي
في مساء جمعة وصلت جبل قاسيون.
وإذ كنت أغادر الجبل اعترضتني كتلتان ناريتان كبيرتان.
في البدء توهجتا خلف جبل قاسيون، ثم ارتفعتا وتقدمتا ببطء.
أطلقتا سهاما نارية عملاقة صوبي، لكني راوغتها فسقطت السهام في البساتين.
اشتعلت البساتين باللهب.
فانشغلتُ طوال الليل في إخماد الحرائق.
اندلع النهار وكان التعب قد أخذ مني مأخذا فنمت.
في الليلة الثانية، شرعت بتنفيذ المهمة، بيد أن الكتلتين الناريتين توهجتا من جديد.
تجمدتا لساعات في قبّة السماء.
طوال الليل كانت تحدّقان بي بغضب، بتوعّد، ولكنهما عند الفجر غابتا.
في الليلة الثالثة وصلت أسوار السجن، لكن الكتلتين الناريتين هبطتا مرة أخرى.
رمتاني بسهام عملاقة تجنبتها، واندلعتْ الحرائق في البساتين.
وإذ ظلّت الكتلتان الناريتان تبحثان عني أعلى جبل قاسيون ووسط الحقول الملتهبة أخرجتُ تعويذة سرقتها من تحت الأرض.
لففتها على سيفي الدمشقي وضربت الكتلتين حتى أطفأتُ واحدة.
وهكذا هدأ كل شيء، وسلّمت المعتقلين.
(صمت)
أخذت استراحة على سفح قاسيون وكانت شيهانة تنام بالقرب مني.
في اليوم الرابع ظهر الراعي:
هاهاه. ثمة تعاليم جديدة!
(يظهر الراعي)
الراعي:
لم آتِ لك بالتعاليم هذه المرة يا صديقي!
ذيب!
جئتُ لأفشي لك بسرّ خطير:
….
شيهانة في خطر.
استمع جيدا.
لقد قرّر أن يأتي لكي ينتزعها منك.
لا تنس يا ذيب:
أنا لم أخبرك بأيّ شيء.
أنا لم أخبرك!
أنا لم أخبرك!
ذئب البوادي:
واختفى الراعي!
عند منتصف الليل، بعد أن استغرقت شيهانة في النوم، هبّت ريح، وانبعثت صرخات، وهوّم عويل في البساتين.
كان ذلك عويل الأشجار.
هبّت رياح مسمومة، فرأيت دموع الأشجار تفيض وتغرق البساتين المحترقة.
في قلب الليل بانت من خلف جبل قاسيون كتلة نارية كالجرم السماوي، وراحتْ تتقدم نحونا:
شمسٌ في قلب الظلام! إنها علامات القيامة!
لم تقترب كتلة النار منّي، بل أرادت أن تختطف شيهانة.
وحين راوغتها ضربت طوقا من اللهب على شيهانة فاحترق بعضٌ من ريش جناحها.
علقتْ رائحة الريش في أنفي.
امتشقتُ سيفي الدمشقي وشطرت الكتلة ألف قطعة.
خمد طوق النار.
التفتُّ إلى شيهانة فإذا بها اختفت.
….
قبل مطلع الفجر ظهرت الجنية الجميلة.
كانت هذه المرة في هيئة حورية للبحر!
ولم أتأكد أنها جنيتي إلا عندما التمع الخاتم الدمشقي في يدها اليسرى!
سحبتني إلى ما تحت الأرض:
(حركة)
الجنية:
انتبه يا ذيب انتبه يا ذيب.
إن الكتلتين الناريتين اللتين ظهرتا كانتا عينا أبي شيخ الجان.
إنه يريد الانتقام منك.
ولن يتوقف عن ذلك حتى يقضي عليك!
سيرسل لك في المرة القادمة غولة تلعق باطن قدميك حتى يستعصي عليك السير، وستسجنك الغولة إلى أمد لا يعلمه سواه.
فانتبه جيدا:
البس حذاء من حديد لكي لا تلعق الغولة قدميك، وعندما تظهر، اهجم على ثديها وارضع منه.
بهذه الطريقة تأمن شرّها أربعين ليلة.
فإذا ما رضعت من ثديها لن تمسّك بسوء حتى تنقضي أربعون ليلة.
انتظر ليلة بزوغ البدر في السماء.
وإذا ما بزغ، فلا تتردد.
تظاهر أنّك تريد الرضاعة من ثديها ثمّ ابترْ حلمتها اليسرى بأسنانك.
ابتر حلمتها بأسنانك.
ابتر حلمتها بأسنانك.
ابتر حلمتها بأسنانك.
(يقتل الجنية. يبحث بجنون عن الخاتم الدمشقي فلا يجده)
ذئب البوادي:
ظهرت الغولة من تحت الأرض، وباءت محاولاتي للإمساك بثديها بالفشل.
(موسيقى)
سحلتني إلى الكهف.
ومن هناك إلى صخرة تخفي مدخلا سرّيا يفضي إلى جرار لا تعدّ ولا تحصى.
جرارٌ تغلقها سدّادات تنفتح وتنغلق من تلقاء ذاتها..
جرجرتني حتى أوصلتني إلى أسوأ الأعماق.
إلى دهاليز مريعة.
هناك وجدتُ غيلانا عملاقة تحكم جموعا من الرعاع!
كانوا فتاتا من البشر!
أشلاء حيّة!
خرقٌ مضى على اختفائها أحقاب، حتى ظنّ الجميع أنّها ميتة.
لم تكن لتلك البقايا البشرية أسماء، ولا وجوه، ولا ملامح، أمّا التعرف على أصحابها فيتّم عبر الكشف عن المؤخرات التي دُمغت بالأرقام.
هناك..
في ذلك الحطام المجهول، دمغتْ الغولة رقما على مؤخرتي.
خيّطتْ لساني على شفتيّ، وانهمكتْ بممارسة التدريبات الخاصة بمناهج التعذيب، مناهجي ذاتها!
كما لو كنتُ وسيلة إيضاح، وكما لو كانتْ معلمة في مدرسة؛ تمارين، تمارين، تمارين:
الملزمة.
الخازوق.
بساط الريح.
الأريكة الدوارة.
طاحونة الهواء.
الصليب!
(حركة واسعة تتوقف فجأة)
أربعون عاما بقيت أتعفن داخل الجرّة حتى حرّرني صديقي الراعي!!
ذات يوم أرسل دورية مخابرات بحثا عنّي في باطن الأرض.
وصلتْ الدورية إليّ، وحملتني إلى الأعلى.
فوق، التقيته.
الراعي:
ذيب!
لم يعد ثمة مكان آمنٌ هنا لك!
اهربْ قبل فوات الأوان.
أنت تعرف أنه يريد حياتك.
لقد أنقذتك هذه المرة لكنني لا أعرفُ فيما لو كنتُ قادرا على مساعدتك في المستقبل.
ذئب البوادي:
وفررتُ إلى حيث أستطيع أن أبدأ حياة جديدة.
بطريقة غامضة التقيتُ ابنتي ووقعت في حبّها.
قررت أن أتزوّجها، لكنها رفضت. وبعد محاولات إقناع فاشلة صرت أسوقها عنوة إلى مخدعي.
وقد أمتعتني لزمن ما، لكنها بدأتْ تتمرد بمرور الأيام.
وفوق ذلك بدأ يسيطر عليها شرود مستمر، وبدأتْ تنتابها رغبات مفاجئة للهبوط إلى ما تحت الأرض.
ذات منتصف ليل، انتفضتْ ونبت على جسدها ريش.
دارت حول نفسها ورقصت،
ودارت ورقصت،
ودارت ورقصت،
ودارت ورقصت،
ثمّ صاحت:
شيهانة:
خذني إلى شيخ الجان.
ذئب البوادي:
ماذا؟!
شيهانة:
يجب أن تهبط بي إلى ما تحت الأرض.
ذئب البوادي:
ماذا؟!
شيهانة:
أريد لشيخ الجان أن يصعد إلى ما فوق الأرض في وضح النهار.
ذئب البوادي:
ماذا؟!
فأقفلت عليها الباب بالمزاليج. لكنّها هربت بطريقة غامضة.
ارتديت حذائي الحديدي وعدت إلى بادية الشام بحثا عنها.
(يقتل شيهانة)
هناك.. بالقرب من القرية المتروكة تدحرجتْ بيضةٌ خارج رحم ابنتي وانفجرتْ، فتناثر جسدها، وماتت.
5
الراعي:
بسم الله الرحمن الرحيم!
السفر الخامس.. الأحراش
ذئب البوادي:
إي!
في أول أيام الخريف تلقيت أوامر بقيادة دورية كبرى من رجال الأمن في مهمة، هدفها تحديد مخابئ سريّة في بادية الشام.
لقد أخبرني صديقي الراعي الذي حمل التعاليم كالعادة أن القيادة تريد دفن أسرار مهولة في تلك المخابئ.
(صمت)
إبان مهماتي السابقة في البادية، تراكمتْ لديّ خبرات هائلة في تحديد المخابئ، وكانت القيادة على اطّلاع دائم بتطوّر تلك الخبرات.
في أول أيام الخريف قرّرت بناء سفينة عظيمة في ميناء درعا.
وبعد أن انتهيت من صناعتها أصدرتُ الأوامر بالرحيل.
سحبتُ المرساة وأبحرتُ في الجرود، فوق التلال، في السهول المتروكة.
وقد اعترضني بين ما اعترضني عاصفة هدأت عند حلول الفجر.
أوقفتُ السفينة بالقرب من قرية متروكة، وأعطيتُ رجالي استراحة.
عند الغروب انبثق ضوءٌ في الأفق سرعان ما اقترب.
وعندما حدّقت بها جيدا رأيتُ أنّه صديقي الراعي وقد تنكّر.
أمسك بي وقادني بسريّة إلى أعماق كهف عملاق يتوسّط القرية المتروكة.
توقّف بجانب صخرةٍ في إحدى زوايا الكهف وهمس:
الراعي:
ذيب يا ذيب يا ذيب..
انتبه.
إنّ المكان الذي رسوتَ فوقه، ليس سوى وهم.
إن المكان الذي تراه، وتظنّ أنّه قرية فهو ليس كذلك!
ذئب البوادي:
ما هو إذن؟
الراعي:
إنه طائر الرخ!
ذئب البوادي:
طائر الرخ؟!
الراعي:
استمع يا ذيب!
….
إنه طائر رخ نائم من زمان قديم!
الرياح المتعاقبة غطّته بالتراب والطين، فنبتت فوقه الأشجار.
….
(ذئب البوادي يضحك)
ذيب يا ذيب يا ذيب! اسمع!
إنه كمين منصوب لك.
إذا كنت لا تصدقني أزح الصخرة وانظر!
هيا!
أزحها!
هل ترى عينه النائمة!
(الراعي يزيح الصخرة وينسحب. نسمع صوت سيارة مغادرة. ذئب البوادي ينادي)
ذئب البوادي:
آهي، آها! آهي، آها!!
إلى السفينة، إلى السفينة يا رجال!
آهي، آها! آهي، آها!!
إنه طائر الرخ! سيقتلنا جميعا!
بعد فوات الأوان!
تزلزل كل شيء.
تحرك طائر الرخ تحت القرية فاصطفقت الأشجار ببعض.
انبعث جناحاه الكونيّان من تحت الأرض ورفرف بهما، فانقلعت الأشجار وانثالت الزوابع.
انجرفت الأراضي حتى صارت سيلا من الأحجار جرفتْ في طريقها كل شيء.
رمى طائر الرخ رجالي بأكوام من الأحجار حتى ابتلعهم السيل وغرقوا.
وعندما شارفتُ بدوري على الغرق توقف الطائر.
نظر إليّ طويلا وغادر!!!
عندها ظهرت الجنية للمرة الرابعة.
سحبتني خارج البركان الحجري.
وبعيدا عن هناك توقفت.
نظرتُ إليها.
كانت في هيئة زنوبيا الملكة.
وكان الخاتم الدمشقي يلتمع في يدها اليسرى.
الجنية:
ذيب!
اسمع ما أقول جيدا!
كما سبق وقيل لك، فأنت لم تصل بالصدفة للقرية المتروكة.
ذئب البوادي:
ماذا؟!
الجنية:
إن العاصفة هي التي قادتك إلى حيث يكمن طائر الرخ!
ذئب البوادي:
ماذا؟!
الجنية:
اعلم أنّك لم تصل بالصدفة إلى تلك القرية.
ذئب البوادي:
ماذا؟!
الجنية:
أنت لم تصل بالصدفة إلى تلك القرية.
ذئب البوادي:
ماذا؟!
الجنية:
أنت لم تصل بالصدفة.
ذئب البوادي:
كيف عرفت ذلك؟!
(يقتل الجنية. يبحث عن الخاتم فلا يجده)
6
الراعي:
بسم الله الرحمن الرحيم!
السفر السادس.. التنين
ذئب البوادي:
إي!
جاءني الرّاعي بتعاليم جديدة.
في مناطق الرقة وحلب والحسكة يتوجب التصحير.
مهمتي التي يجب أن تنفذ سرا هي خلق الرمال لكي تزحف على المدن.
كنت أعمل ليلا.
شيئا فشيئا بسطتُ رمال الصحراء.
وضعت سرابا هنا، وواحة هنا وهناك.
(نسمع صرخة مفاجئة)
لوحة: هيثم شكور
الجنية:
ذيب يا ذيب يا ذيب.
إحذر يا ذيب!
سيقضي عليك هذه المرة.
ذئب البوادي:
اللعنة!
إني لأعرف هذه النبرة.
قلت، وتناولت بندقيتي.
(يصرخ)
لقد عرفتُ!!
إنها جنيتي الجميلة الوحيدة في هيئة الآلهة عناة واقفة في فوهة الكهف.
الخاتم الدمشقي في يدها.
الجنية:
احذر يا ذيب!
احذر!
ذئب البوادي:
استدرت، فإذا بظلال التنين الكنعاني تخرج من قمقم.
لقد تحرّر التنين الكنعاني من القمقم!!
(بنشوة)
لقد تحرّر التنين الكنعاني من القمقم.
التنين:
لا ترحب بي يا ذئب البوادي!
لقد خرجتُ من القمقم لأصليك بالحمم.
ذئب البوادي:
أنا لا أستحق ما تصليني به بالحمم.
بالعكس!
التنين:
لقد قتلت الجنية الوحيدة في بادية الشام.
ذئب البوادي:
لقد وقفتْ بوجه مهماتي.
التنين:
لقد اغتصبت ابنتك.
ذئب البوادي:
لم أفعل ذلك.
تلك كانت رغبتها الشخصية.
التنين:
لقد أطفأت عينيّ شيخ الجان.
ذئب البوادي:
لم أكن أعرف ذلك.
لقد رأيت كتلتين من النار فقط!
التنين:
لقد سرقت نبتة الشباب وأهديتها إلى الراعي.
ذئب البوادي:
وما شأنك بهذا!!
(إلى الجنية)
افعلي شيئا!
الجنية:
إنه التنين الكنعاني!!
أنت تعرف أني أُشلّ إذا ما خرج من القمقم.
لن يعيده إلى القمقم سوى تعويذة الجلجلوتية الكبرى!
ادخل الكهف.
اذهب إلى الصخرة.
اهبط من هناك.
اسرق الجلجلوتية الكبرى واجلبها لي وسأقضي عليه!
اسرق الجلجلوتية الكبرى!
(التنين يهاجم الجنية. حركة ورقص)
ذئب البوادي:
وكما يحدث في المعجزات، وجدت نفسي داخل الكهف.
أزحتُ الصخرة في العمق.
هبطتُ بسرعة البرق.
سرقت تعويذة الجلجلوتية الكبرى وصعدتُ.
سحبتْ الجنية سيفي الدمشقي من يدي وراحت ترسم به أشكالا غريبة في الهواء.
عندها تشتّتتْ رؤوس التنين السبعة فانقضّت الجنية عليه.
بصق التنين ألسنة من اللهب واندلعت الحرب.
انزويتُ خلف الصخرة وأنا أرتّل، ولم تتوقف المعركة حتى أصابت الجنية من التنين مقتلا.
سقط الكائن الكنعاني الأسطوري على قفاه، فضربته الجنية بالسيف الدمشقي!
سمعت صدعاً.
وكأنها أصابت جدارا.
ضربته ثانية فدوّتْ صرخة هائلة.
(صمت)
فتحتُ عينيّ ونظرت فإذا بالتنين مرميّ خارج الكهف كجبل شاهق من الجمر.
طحنتْه الجنية بمطحنة، ووضعت الطحين في القمقم.
بمثل لمح البصر فلقتْ صخرة بالسيف، فاندلعتْ ثغرة ابتلعت التنين المطحون، وبسرعة البرق التأمتْ الصخرة وكأنّ شيئا لم يكن!
(تقترب الجنية من ذئب البوادي)
الجنية:
لقد حرّر التنين الكنعاني من القمقم هذه المرة ليمنعني من الدفاع عنك.
لكن جهوده باءت بالفشل.
سأظل آتيك دائما للدفاع عنك.
ذئب البوادي:
وأرادت أن تسحبني لممارسة الطقوس التي أعرفها جيدا.
لكنني في تلك اللحظة كنتُ مهجوسا بالأسئلة:
أنّى للجنية أن تعرف كل تلك الأحداث؟
لا!
صرخت بها:
هذه المرة، لا.
وسحبت سيفي الدمشقي….
(يقتلها)
فتحلّلت فوق الرمال..
(موسيقى احتفالية)
7
الراعي:
بسم الله الرحمن الرحيم!
السفر السابع…. الراعي!!
ذئب البوادي:
جاءني الراعي بمهمة جديدة قديمة!!
الراعي:
ذيب يا ذيب يا ذيب!
لقد تمّ اكتشاف المخابئ السرية في بادية الشام، وعليك أن تبحث عن حلّ مناسب لنقل تلك الأسرار إلى مخابئ أخرى.
ذئب البوادي:
بمنتهى السرعة حدّدتُ مخابئ جديدة، وذهبتُ لنقل الأسرار من المخابئ القديمة.
وما أن ابتدأتُ حتى انقضّ عليّ ثور سماوي، حملني بين قرنيه، وطار إلى القرية.
أدخلني الكهف ثم أزاح صخرة وهبط بي حيث سجنني داخل جرّة.
400 عام بقيت محشورا في الجرّة لا أرى شيئا سوى الثور السماوي، يأتي لكي يمارس عليّ عمليات التعذيب.
اقتلع أسناني،
اغتصبني،
أدخل القناني في شرجي،
أدخل الأسياخ والخوازيق.
….
في عصرٍ ما تمكنت من رشوة حارس سرق لي إحدى تعاويذ ما تحت الأرض.
رتلّت التعويذة ألف مرة ومرة ثمّ ضربت جدارا في الجرّة.
ضربته، ضربته، ضربته، حتى تصدّع.
ففتحتُ ثغرة وانسللتُ إلى ما فوق الأرض.
قررت أن أختبئ في تلك المدينة.
فهناك لن يرسل أحد أبدا. دخلت المدينة. تمشيت بين الناس في أزقتها، وفي الساحات، وفي الأسواق المسقوفة.
دخلتُ بيتا أسدلتُ ستائره واتخذته سكنا لي.
في اليوم السابع عند منتصف الليل أزحتُ ستارة، فرأيتُ الصحراء تزحف لتلتهم المدينة.
رأيتُ الأحياء والأزقة تغرق رويدا رويدا في لجج الصحراء، ثمّ رأيتُ باب بيتي يغرق، ثمّ تغرق الغرفة، ثم السرير!
وبدأ الزمن يعود إلى الوراء.
ساعات تعدو إثر ساعات، حتى أصبح الوقت ظهرا.
وإذا أرى نفسي بي من جديد وسط بادية الشام.
(صمت)
فكّرتُ:
ماذا أفعل؟
فقلت لنفسي:
فكّر.
….
وفكّرتُ:
ماذا أفعل؟
فقلت لنفسي: فكّر.
….
حدّقت بالشمس ثم سمعت صوتي يقول:
قرّر.
(يمارس طقسا)
انظر:
هرعت إلى القرية المتروكة.
هرعت إلى الكهف.
حفرت تحت صخرة، واستخرجت ما تبقى من تعاويذ.
خرجت إلى العراء وناديت نجوم الظهيرة!
طلبت من كوكب الزهرة أن يحوم.
انظر:
رسمت بسيفي الدمشقي النجمة المضلّعة فوق الأرض، ووضعت فوق كل زاوية تعويذة.
انظر:
قرأت برج السرطان، ثم كتبته على ورق البرديّ ودفنته في حفرة وسط النجمة، وناديت:
واهي، واها! واهي، واها.
يا ربّ الأفلاك وخالق العالم السفلي.
يا خالق العالم السفلي.
أحضر لي الجنية.
(يتوقف الطقس)
انظر:
أشعلتُ بخورا لكي أدعو العاصفة.
بعد هنيهة، انفلع صدري وانبثق منه صديقي الراعي.
….
صديقي الراعي؟!
الراعي:
كيف تجرأت على ممارسة طقوس الاستحضار في وضح النهار؟
ألا تعرف أن هذا من المحرمات؟
ثمّ إنّ الجنية تظهر عند منتصف الليل فقط.
ذئب البوادي:
صديقي الراعي؟
الراعي:
نعم أنا هو!
….
دعنا نستريح قليلا.
(يجلس الراعي ويفرش عباءته)
انظر ماذا حملت لك معي.
ذئب البوادي:
نظرت في عباءته وإذا بي أرى خبزا وعسلا وبيضا.
في تلك اللحظة فقدت صوابي.
(صمت. ثم ينقض على الراعي)
كيف عرفتَ أني أحب العسل والبيض؟!
كيف عرفت أن طقوس الاستحضار ممنوعة في النهار؟
كيف عرفت أن ثمة جنية تظهر.
كيف عرفت أن الجنية تظهر فقط عند منتصف الليل؟؟!
كيف خرجتَ من صدري؟
كيف؟! كيف؟ كيف؟!!!!
وبينما كان الراعي يلفظ أنفاسه الأخيرة لامست أنامله عنقي.
يا إلهي!
إنها أنامل الجنية ذاتها.
الراعي:
لقد طلبتْ مني أن أخبرك بالحقيقة قبل فوات الأوان.
ومع ذلك.. أنا أرى أن الأوان يفوت الآن!
(يقتل ذئب البوادي الراعي. صمت)
8
ذئب البوادي:
إي.
إي.
(حين يدرك أن لا أحد سيعلن المشهد، يقدم المشهد بنفسه)
السفر الثامن…. الكهف
عندما أردت مغادرة القرية المتروكة انفلع صدري مرة أخرى وظهرت منه شيهانة.
قبضتْ عليّ بمخالبها وطارت إلى كهف آخر.
أسقطتني عند المدخل.
ضبابٌ مصحوبٌ بالتراتيل يتصاعد.
أضواء صاعقة تهشّم الضباب.
جرجرتني إلى أعماق الكهف.
هناك رأيتُ قبّة زجاجية مسجّاة فيها الجنية الجميلة!
مومياء يلتمع في يدها اليسرى الخاتم الدمشقي.
خبطتُ زجاج القبّة بقبضة يدي.
استدارت ببطء.
رمشت عيناها.
تحرّكت شفتاها.
بيد أنّني لم أسمع شيئا.
(ذئب البوادي يكاد يجن)
يا ربّ العباد، ما هذا؟
يا ربّ العباد، أريد أن أكون بقربها!
شيهانة:
اخلع رداءك!
…..
خذ هذا الكفن، وتكفن!
سأحفر طريقا يوصلك إليها.
(طقس موت)
ذئب البوادي:
يا إلهي!
أنا بالقرب منك يا جنيتي الجنية!
يا إلهي!
أنتِ ملفوفة بلفائف من قماش الكتان.
(ذئب البوادي يدور حول الجنية. الخاتم الدمشقي متوهّج من خلف لفائف الكتان)
الجنية:
ماذا تفعل هنا؟
…..
لقد انتهت حياتي بسببك.
ذئب البوادي:
ولكنك.. أ..
الجنية:
هذا هو موتي الأخير.
ذئب البوادي:
لكنك قادرة على الانبعاث!
الجنية:
لقد فقدتُ هذه القدرة.
ذئب البوادي:
لماذا؟
الجنية:
لأنّك قتلت الراعي.
ذئب البوادي:
ما معنى هذا…؟!
الجنية:
ألم تفهم معنى العسل والبيض؟
كان الراعي هيئتي الإنسية في النهار.
نحن مرتبطان ببعض، فإذا قُتلت قرينتي الأنسيّة أموت أنا بشكل نهائي.
ذئب البوادي:
لمستُ لفائف الكتان فتعرّفتْ يدي على جسد الراعي داخلها.
….
أخرجتْ الجنية كفّها اليسرى الذاوية من الكتان لتلمسني فسقط من إصبعها الخاتم الدمشقي وتدحرج في الطريق الذي جئتُ منه.
هرعتُ خلف الخاتم، لكنه كان أسرع.
أسرعتُ خلفه فتدحرج خارج الكهف ثم خارج القرية صوب الجرود.
نبتت له أحراش ثم طغا عليه صلصال فتضخّم وتعملق كمثل كرة الثلج.
هكذا رسم الخاتم مسارا حلزونيا راح يتسع ويتسع وكانت أقدامي تسقط داخل المسار.
صارتْ أيامي تعدو خلفي وأنا أعدو خلفه.
كلما اعترضني عائق أزلته عن طريقي:
أهلتُ التراب على ناعورة حماة.
أزحتُ قلعة حلب من الوجود.
وحين دقّت ساعة حمص أمرت الزمن أن يتوقف.
اعترضتني حشودٌ من الديناصورات فجندّتها!
ظهرتْ بوجهي فيالق من المحاربين فجعلتها تابعة لي!
داهمتني وحدات من الدبابات وآلاف السيافين فدجّنتهم.
خلقتُ مدافع وشبكات ألغام، وصرتُ أخطب بهم وأنا أعدو لأقبض على الخاتم.
لم أدرك أن الخاتم الدمشقي كان يحفر أخدودا حلزونيا صوب طبقات الأرض السبع لأني كنت أجري خلفه دون تفكير.
حين وصل الخاتم طبقة الوشاح جرف صخورا بركانية وعلّق بدرا في قشرة الأرض فبدا الخاتم والقمر قمران تحت الأرض.
جندلتُ القمر وأوغلتُ خلف الخاتم.
(إيقاع وحشي يتصاعد)
حين غاص في طبقة صخر البلور نشر الخاتم ضياءه ومن هناك ولد القمر ثانية وتماهى ضوؤه بوهج الخاتم، لكنني ابتلعتُ ضوء القمر.
(يتصاعد الإيقاع)
في الطبقة الثالثة ادلهمّ وهج الخاتم، وعشعش ضوء القمر الباهر فوق المعادن المبلورة، فناديتُ صخور الدياجير لتمتص ضياءه.
(يتصاعد الإيقاع)
في الطبقة الرابعة حشّد الخاتم صخور الوشاح السفلي الكثيفة وصفّها داخل إطار قمر نمير ينبض بضياء أبيض، لكنني كنت أعرف من هو النمير ومن هو الخاتم.
ناديتُ لجج اللهيب فراح القمر يتخبّط في ألسنتها لسنتها المهولة.
استحالت ألسنة اللهيب مرايا.
فرأيتُ فيها صورة شيخ الجان.
رأيته يرمقني بعينين مفقوأتين.
حدّق بي، فحدقت به.
رأيته يخربش المرايا، اللهيب، فخربشتُ المرايا.
اقترب مني، فاقتربت منه.
حدّق بي فلم أعد أر شيئا.
تلمستُ ما حولي فإذا المرايا تعيد تجسيده كالرلييف.
في الطبقة السابعة، في قلب الأرض استحال الخاتم كرة من حديد ونيكل وصار القمر هلالين كالشفتين.
لقد كانتا شفتي شيخ الجان.
حين تحركت الشفتان انطلق الصوت منّي أنا!
هذا هو الذي شهدتُ حدوثه.
أنا ذئب البوادي.. أنا هو شيخ الجان.
(إيقاع وحشي)
عند قلب الأرض نقف وجها لوجه:
أنا وصورتاي وجيوشي من جهة، والخاتم وقلب الأرض من جهة ثانية.
هيا أيتها الجيوش!
إلى المعركة الفاصلة.
(الإيقاع الوحشي المصحوب بالغناء يتصاعد حتى تتحول المسرحية إلى أمسية موسيقية)