ذاكرة القصيدة وذاكرة الناقد
تستعيد اعترافات الشاعر أنسي الحاج، والتي أعادت مجلة “الجديد” نشرها في عددها الخاص بأدب الاعتراف إشكالية العلاقة بين الشاعر والناقد، هذه العلاقة التي ما زالت تعاني من التباس واضح بسبب التباين في قراءة القصيدة وتأويلها، بين الناقد والشاعر، وما تنطوي عليه هذه القراءة من اختلاف في التلقي والمرجعية والتأويل.
إن هذه الإشكالية القديمة الجديدة تعد من أكثر القضايا الخلافية التي حكمت العلاقة بين الطرفين، وهي في جانب مهمّ منها تتعلق بعدم رغبة الشاعر بالاعتراف بالناقد بوصفه قارئا آخر، صحيح أنه قارئ يمتلك أدواته المنهجية، لكن هذه العلاقة بين ذاكرة القصيدة وبين ذاكرة الناقد تستدعي عند الأخير إلى جانب فضائها التخيلي مخزونها الثقافي أيضا. هنا يظهر دور الناقد في اختبار حدود العلاقة بين القصيدة وما تستدعيه في ذاكرة الناقد من نصوص، لكن وجود أصداء أصوات أخرى في فضاء النص لا يقلّل من قيمة القصيدة الإبداعية الخاصة لأنه ما من كتابة تبدأ من درجة الصفر، وما من شاعر لم يخضع لهذه المؤثرات بصورة شعورية أو لاشعورية.
إن أنسي الحاج في هذه الاعتراف يعيدنا مرة أخرى إلى القضية الأبرز، التي طالما شكلت محورا للاشتباك الحاد والواسع في النصف الثاني من خمسينات القرن الماضي وما بعده، حول مشروعية قصيدة النثر عربيا، بين شعراء مجلة شعر، وشعراء قصيدة التفعيلة، الذين اعتبروا هذا الوافد الغريب تحطيما لخصوصية الشعرية العربية وقيمها الجمالية والفنية.
لذلك فإن ما يقلق أنسي الحاج هو محاولة النقد البحث عن مرجعيات هذه التجربة، والمؤثرات الشعرية الغربية التي يتردد صداها في هذه التجربة. يظهر هذا القلق بوضوح من خلال إلحاحه الدؤوب على تأكيد علاقة تجربته الشعرية في بدايات تشكلها بالمرجعيات الشعرية العربية، حتى بالنسبة إلى مسألتي الوزن والإيقاع في قصيدته، التي يرى أنها تجاوزت الأوزان الخليلية، إلى اختراع إيقاعاتها الخاصة بها، قبل أن يتوصل إلى مصطلح الإيقاع الداخلي للقصيدة، الذي استمده من كتاب برنار سوزان، وهو الكتاب النقدي الذي طالما اتهم شعراء مجلة شعر باستعارة مقولاته ومفاهيمه النظرية للتنظير لقصيدة النثر.
يذهب أنسي إلى أن اختراع الإيقاع والوزن وتشكله في التجربة يتقدم على قوننته وتحديد أشكاله، ما يجعل الشعر يتقدم على النظرية في تكوين بنيته الإيقاعية والعروضية، كما حدث مع الخليل بن أحمد الفراهيدي.
وللتأكيد على هذه العلاقة يستحضر الشاعر بعض الأسماء المحلية التي تأثر بها قبل أن يتحدث عن تأثره بالشعر الفرنسي في مرحلة لاحقة، بعد أن عمل في مجلة شعر حيث قال “اطّلاعي على القصيدة الفرنسية جاء بعد أن نشرت في مجلة شعر وليس قبل هذا”. والحقيقة أن إصرار أنسي على تاريخية هذه العلاقة تتجاوز في دلالاتها تجربته، إلى ما واجهته قصيدة النثر نفسها من اتهام بالتغريب، حيث امتدت ساحة هذا السجال من مفهوم القصيدة الذي أطلق على هذا الشكل من الكتابة إلى العلاقة مع التراث.
لقد كان هذا الاشتباك الحاد بين أنصار التجربتين يعكس في جانب أساس منه الدفاع المستميت لشعراء قصيدة التفعيلة عن منجزهم الوليد انطلاقا من شعورهم بالقيمة الإبداعية والفكرية التي حققتها تجربتهم، بوصفها جاءت في سياق السيرورة الشعرية العربية وتحولاتها الجمالية والتعبيرية، في حين تمثل قصيدة النثر شكلا هجينا يريد تخريب الذائقة الشعرية العربية.
إن أنسي الحاج في هذه الاعتراف يعيدنا مرة أخرى إلى القضية الأبرز، التي طالما شكلت محورا للاشتباك الحاد والواسع في النصف الثاني من خمسينات القرن الماضي وما بعده، حول مشروعية قصيدة النثر عربيا، بين شعراء مجلة شعر، وشعراء قصيدة التفعيلة، الذين اعتبروا هذا الوافد الغريب تحطيما لخصوصية الشعرية العربية وقيمها الجمالية والفنية
ويذهب أنسي بتقييمه للقراءات النقدية التي ظهرت لتجربته إلى الحدّ الذي ينفي فيه قدرة هذه القراءات على مقاربتها وفك مغاليق أسرارها، على الرغم من الأهمية الخاصة التي حظيت بها تجربته والأصداء الواسعة التي تركتها عند الأجيال الشعرية التالية. والسؤال أين تكمن المشكلة: في النقد العاجز عن تفعيل أدواته المنجية في مقاربة قصيدته؟ أم في الشاعر الذي يتجاهل أن الناقد هو قارئ ومؤول لهذه التجربة، وأن من الطبيعي أن تختلف القراءة من شخص إلى آخر، وحتى من منهج إلى آخر؟ ولذلك فإن قراءة الشاعر لتجربته يمكن أن تتقاطع أو تفترق كثيرا أو قليلا مع القراءات المختلفة لها، سواء من قبل القارئ أو الناقد، لأن ثمة اعتبارات غير نظرية ومنهجية تحكم هذه القراءة وتوجهه وهو ما لا يريد البعض الاعتراف بمشروعيتها في قراءة تجاربهم.
إشكالية العلاقة مع النقد
تكاد هذه الإشكالية مع النقد تطغى على ما عداها في اعترافات الشاعر حتى تصل إلى حدود نفي العلمية عن كل النقد الذي كتب عن تجربته، مع العلم أن الاحتفاء الذي قوبلت به تجربته من قبل كتاب قصيدة النثر، والعديد من النقاد في ما بعد، يثبت أن قصيدته نالت من الاهتمام والتركيز أكثر من تجارب أخرى عاصرته أو اشتركت معه في التأسيس لقصيدة النثر عربيا.
وإذا كانت يقينيات بعض النقاد والشعراء حول قصيدة أنسي، كما يراها هو قد تجاوزت علمية الممارسة النقدية، فإن يقينه هو الآخر لا يقلّ سلبية عندما ينفي العلمية عن كل الكتابات التي كتبت عن شعره. لقد كان شعراء قصيدة التفعيلة من أكثر الشعراء تأثّرا بتجربة إليوت ومقولاته عن الشعر، لكن ذلك لم يعبها عندما استطاعت هذه القصيدة أن تستوعب هذه التأثيرات، في إطار الوعي الخاص بالتجربة التي تقاطعت فيها أصوات عديدة كأي تجربة أخرى. لذلك فإن دفاع أنسي عن هوية قصيدته الخاصة به وتأكيده على مرجعيتها الشعرية العربية هو تجاهل لهذه الحضور الخفي لتلك الأصداء، والتي لا تقلل من قيمتها الإبداعية وخصوصيتها المسكونة بروح صاحبها ورؤاه.
إن هذه العلاقة الخفية أو اللاشعورية للقصيدة مع روافدها تحتاج إلى قارئ آخر لأنه هو الأقدر على اكتشاف حدودها وعلاماتها الثاوية في قرارة القصيدة. فاللغة ذاكرة غير مغلقة، والكتابة بها لا يمكن أن تتم بمعزل عمّا تختزنه هذه الذاكرة، وإذا كانت لغة الشعر بما فيها الصورة هي لغة فوق اللغة فإنها لا تكتسب هذه الصفة إلا من خلال إعادة بنائها وتشكيلها بصورة تقود إلى التحول الدلالي وتوليد أساليب جديدة، والشاعر المبدع هو الذي يحقق شعرية القصيدة من خلال تفجير طاقات اللغة وبناء علاقاتها الجديدة التي تجعلها تكتسب أبعادا إيحائية ودلالية جديدة، لكنها لا تتحقق بمعزل عن الحوار الذي يتم بين ذاكرة اللغة وذاكرة الشاعر شعوريا ولا شعوريا.
الشاعر والمنبر
يتحدث أنسي عن المفاجأة التي شكلها عرض يوسف الخال عليه للمشاركة في إصدار مجلة شعر. كان أنسي آنذاك يعمل محررا في جريدة النهار، ولم يكن قد عرف كشاعر بعد، بل لم يكن يعرف إذا ما كان ما ينشره من كتابات شعرا. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، ماذا لو أن هذه العلاقة لم تكن، ولم تحقق مجلة شعر شهرتها كمنبر متقدم لقصيدة النثر، تخوض معاركها الشهيرة مع شعراء قصيدة التفعيلة في مجلة الآداب اللبنانية؟
إن أهمية الدور الذي يلعبه المنبر الثقافي والإعلامي في تكريس بعض التجارب وتحقيق شهرتها وانتشارها عربيا لا يتعلق بشاعر الرسولة بشعرها الطويل إلى النبع وحسب، بل بكل تجربة، وهو ما يفصح عنه في سياق حديثه عن الشعراء الذين تأثر بهم في بداية تجربته، وهما فؤاد سليمان وإلياس خليل زخريا الذي يرى أنه ظلم كثيرا لأن تجربته لم تنل الاهتمام النقدي والإعلامي الذي كانت تستحقه.
وفي هذا السياق نستذكر الدور الذي لعبته بعض المنابر الثقافية التابعة للأحزاب في مرحلة سطوتها على الثقافة، كيف كانت تقوم بتكريس بعض الأسماء المحسوبة عليها، وكيف كانت تحاول أن تفرض على الأدب معاييرها الجمالية والفكرية الخاصة. لذلك فالسؤال الذي يفرض حضوره ثانية ماذا لو لم تكن مجلة شعر؟