ذكورة وأنوثة
الأفكار التي يطرحها الباحث والأكاديمي عزيز العظمة في حواره حول الأنوثة المقموعة في العدد الـ32 من مجلة “الجديد”، تمثل مقدمة مهمة لفهم واقع الأنوثة في ظل سيادة سلطة وثقافة الرجل، من خلال ما قدمته من قراءة وتوصيف جديرين بالتأمل والحوار معهما.
في هذا السياق كان يمكن لأغلب المقالات المنشورة معها أن تدخل في حوار واسع ومهم جدا حول مجمل القضايا والتصورات التي طرحها العظمة، لكن أغلبها اكتفى بالانطلاق من الموضوع إلى تقديم رؤاها وتصوراتها الخاصة من خلال تحليلات مختلفة استندت إليها في طرح تصوراتها وفهمها لتاريخ هذه العلاقة ومدلولاتها في الثقافة والحياة الاجتماعية والسياسية العربية.
تجدد هذه المقالات الحوار حول الأسباب التي تجعل ثقافة الحوار غائبة عن الحياة الثقافة العربية، وأثر ذلك على ديمقراطيتها وقدرتها على التفاعل الخلاق كسلوك وقيمة معرفية. إن ما طرحه العظمة من أفكار وتحليلات يشكل مادة غنية ومهمة حول مجمل قضايا المرأة العربية راهنا، خاصة وأن الثقافة العربية لم تستطع حتى الآن أن تبلور مفهوما مغايرا وناجزا للأنوثة خارج السياق التاريخي والثقافي الذي كرس دونيتها وضعفها واستلابها، والدليل هو الارتداد الراهن عن تلك الإنجازات التي حققتها تجربة المرأة خلال أكثر من قرن من الزمن. لذلك فإن تجديد الحوار حول هذه القضايا هو استعادة لحضور هذه القضية باعتبارها جزءا أساسيا من عملية تحرير المجتمع والذات المقموعة من عوامل ضعفها وتنميطها وإخضاعها لسلطة الاستبداد بمسمياته المختلفة.
الأنوثة المقموعة
يركز الكاتب عامر زيد الوائلي في مقالته على ما ينطوي عليه عنوان النص من ثنائية نمطية تخيلية إقصائية منحت الرجل صفة العفة والمرأة صفة الشبق. إن هذا التوصيف للعلاقة بين الرجل والمرأة في المجتمع والثقافة العربيين على الرغم من وجاهته إلا أنه لا يقدم توصيفا دقيقا لهذه العلاقة لأن المرأة، لا سيما في الثقافة الدينية، ظلت ترمز للإغواء والإثارة، في حين أن الثقافة العربية منحت الرجل صفة الفحولة بوصفها قيمة كبيرة حتى وسمت بها الشعراء الكبار في الماضي وصنفتهم على أساسها.
إن العفة بالنسبة إلى الرجل ليست قيمة أصيلة فيه والدليل أن هذه العفة مرتبطة بحجب المرأة لعناصر الإثارة التي يمتلكها جسدها وحجبها عن المجال العام، في حين يباح ذلك للرجل في الجنة مكافأة له على هذه العفة المفترضة.
هنا تنطوي الثقافة الدينية على تناقض واضح لأن هذه العفة مرتبطة بحجب المرأة لجسدها المثير، باعتباره المسؤول عن إيقاظ شهوات الرجل. لكن هذه الثقافة أباحت له التمتع بالجواري وما ملكته يمينه، وتداول هذا الجسد الشهي خارج سياق الزواج بوصفه سلعة تباع وتشترى. في ظل هذا الواقع نشأت التراتبية الاجتماعية للمرأة وتعددت الأسماء والصفات التي تطلق على المرأة وفقا لموقعها الاجتماعي وقوة فتنتها، ما يعني أنها ظلت في جميع هذه الحالات تختزل في جسد مشتهى ومثير لإشباع رغائب الرجل وفحولته المباركة.
من هنا فإن صفة العفة للرجل غير متحقّقة واقعيا طالما أنها مرتبطة بحجب للمرأة ولجسدها وطالما أن الرجل يملك القدرة على تداول هذا الجسد خارج مؤسسة الزواج الدينية، التي تبيح له أيضا تعدد الزوجات والتمتع بجسد الأنثى كيفما يشاء. في هذا السياق يلح العظمة على طرح التصور الثابت للأنثى باعتبارها ذاتا منفعلة ومفعولا بها.
ثمة مسألة أخرى يجدر التوقف عندها تتعلق بوضع المرأة في الديانات التوحيدية حيث لعب المخيال الديني ورجال الدين دورا هاما في تكريس دونية المرأة وتهميشها وإخضاعها لسلطة الرجل والمجتمع الذكوري، والغريب أن هذه الوضع الخاص الذي فرض على المرأة ينطوي على ثنائية ضدية، كما هو الحال في التصور الديني لمريم العذراء وما انطوى عليه من رمزية للقداسة لم تكن موجودة في أيام المسيح، على خلاف موقف المسيح الإيجابي من مريم المجدلية التي أنقذها من الموت رجما بالحجارة. كذلك يظهر هذا التباين بين موقف المسيح من المرأة وموقف القديس بولس الذي ظهر فيه واضحا تأثير اللاهوت اليهودي حيث تتراجع قيمة المرأة بسبب ما تحمله من صفات النجاسة والدونية كما يتجلّى في استبعادها من ممارسة أيّ سلطة دينية.
أما بالنسبة إلى موقف الإسلام من المرأة فإن رجال الدين اجتهدوا كثيرا في العمل على تهميش المرأة وإخضاعها لسلطة الرجل وتحويلها إلى وجود مفعول فيه، ويمكن أن نستدل عليه في اللحظة الراهنة التي يزداد فيها الفكر الديني المتطرف على تهميش وتكميم وجود المرأة وإعادتها إلى أدوارها التقليدية وكأن الإنجازات التي حققها نضال المرأة وتطور المجتمعات العربية خلال أكثر من قرن لم تستطع أن ترسّخ هذه المفاهيم والقيم في وعي المرأة والمجتمع معا.
المشكلة الأخرى التي يطرحها المخيال الديني هو المكافأة التي ينالها الرجل في الجنة والمتمثلة في الحور العين والفحولة الخارقة، بينما لا يتحدّث بالمقابل عن المكافأة التي يمكن أن تنالها المرأة على عفّتها وتقواها، ما يعني أن وجود المرأة كجسد مشتهى ومثير ما هو إلا من أجل إشباع رغبات الرجل وتمتيعه في الدنيا والآخرة.
إن هذا التكريس لسلطة الرجل وامتيازاته والتبضيع لجسد الأنثى هو ما تشير إليه الكاتبة خولة الفرشيشي في مقالتها من خلال استعانتها بالنص القرآني الذي يختزل المرأة في موضوع الجسد والشهوة (نساؤكم حرث لكم..). لكن الكاتبة تقدم قراءة مغايرة لهذه العلاقة الجنسانية وما تحمله من مفاهيم مغلوطة، إذ تعتبر أن الانتصاب الذكوري يرتخي نهائيا بعد الفعل الجنسي، وهو ما يرمز للموت، في حين أن فرج المرأة يستمر في هذه العلاقة التي يصل إلى ما بعدها عبر الإخصاب والولادة.
إن هذه المحاججة القائمة على المفاضلة على المستوى الفيزيولوجي والبيولوجي بين الرجل والمرأة على مستوى العلاقة الجنسية يعيدنا مرة أخرى إلى الجدل الدائر داخل الثقافة العربية حول أصل الوجود الإنساني وأفضلية المرأة على الرجل في ذلك، كما تحاجج نوال السعداوي في كتابها “الأنثى هي الأصل”.
إن تحرر المرأة واستعادتها لقيمتها الإنسانية المغيّبة جسدا وروحا يتجاوز هذا الجدل إلى احترام الوجود الإنساني للرجل والمرأة معا بعيدا عن الهوية الجنسية وأولية الخلق، باعتبار ذلك جزءا من استعادة الذات الإنسانية لقيمتها المغيبة وحقها في التعبير عن ذاتها وعن وجودها بوصفها ذاتا تمتلك قيمتها في ذاتها وليس من أيّ شيء آخر.
إن استمرار نشاط أعضاء المرأة الجنسية بعد الفعل الجنسي مرهون أيضا بالعلاقة مع الرجل الأمر الذي يعني أن هذه الشراكة الوجودية بين الرجل والمرأة تقوم على التكامل والتشارك بعيدا عن الاستلاب والتهميش وعلاقات التبعية والتأثيم، وهو ما يحتاج إلى علاقات متكافئة ومنفتحة تحرر وعي الرجل ووجود المرأة وتكرس القيم التي تحقق استقلال الذات وحريتها بعيدا عن هذا الإرث الثقيل من تاريخ الاستبعاد والسيطرة والإلحاق والتأثيم.