ذنوب قديمة
كتبتُ ولم أكتب
رمادًا كان الفحم
والمحبرةُ شقّقها الجفاف
لكنّني كتبتُ
كتبتُ لمن يجلسُ هناك
منسجمًا مع اللّحظة المناسبة لانقضاض النّوارس
واكتمال نموّ الذّكرى على فروة القلب،
بإصبعه يدير مفتاح الرّدهة التي بين اليقظة والنّوم
وما ادّخراه هناك من أحلام الملوك المتهوّرين
ونزوات المخذولين في الحبّ
وأهواء المقامرين...
كتبتُ له عن أسواقنا المكتظّة بالنّساء
عن حكاياتهنّ اليابسة في الأغاني
عن رائحة الصّندل في دموعهنّ
وعن دموعهنّ الكبريت كيف تحفر على خدودهنّ
وكيف تغلي الحليب في الأثداء
فيسيل عرقًا...
كتبتُ عن حليمة وهناء وجيهان وفاطمة والبقيّة..
ولم أكتب إسمَ حبيبتي..
كتبتُ له عن الغرباء
عن أسمائهم الفضّة حين ترنّ في دعاء الأمّهات البعيدات
فتحرجُ اللّه
وتُنهّدُ الجبلَ
دون أن يُسمعَ لصداها بكاءُ طفلٍ
أو تأوّه بنفسجةٍ...
كتبتُ عن غيابها في مواويل الرّيح على شبابيك الصّبايا
أوفي صفحات الجرائد صباحًا مبعثرةً على الأرصفة
ولو في صفحة الوفايّات....
كتبتُ: لماذا لا يحظر الغريبُ إلاّ في الغيابِ؟
كتبتُ له على الإسفلتِ
فوق تصاوير الأطفال وآثار أقدامهم..
كانوا صغارًا مزهويّن بثياب العيد،
يركضون على الطّريق دون أن يبالوا
أنّه المؤدّي إلى اللّه..
كتبتُ: أنا أيضًا مررتُ من هنا.
كتبتُ له.. ولم أكتبْ
لم يكن لي طبشورٌ
ولا حبر
ولا فحم
لكن ما فائدتهم..وهو أعمى
ذلك الموت!
الحبيبات السّابقات
بهرام هاجو
الحبيباتُ السّابقات يعُدْنَ أوّلَ اللّيلِ عَادةً
ليقرأنَ قصائدَنا الحَزينة..
يأتينَ مع سَأم المسَاءات في القهْوة بلا سكّرٍ
مَع المُزاح الثّقيل لرفاقٍ لا نعرفهُم
مع المَطرِ في موّالٍ قديمٍ
مع أيّ شيءٍ يأتينَ!
يأتين بالأعناق مدهونةً بالعطور التي اختلسْنا أثمانَها
بالألوان مُرتّبةً على أجْسادِهنّ كيْفما اتّفقنَا
بالابْتسَامات ذاتها التي كانت تُدوّخنا..
أمّا الهَدايا، تلْك التي ذهبْنا قبل أن نأخذها
يأتينَ بها مع النّوْم المُتأخّرِ دائِمًا
ليفتحنَها في مَناماتنا!
الحبيباتُ السّابقات:
بناتُ المعْهدِ وبناتُ الجيران،
مَن قرَأن في العتْمة رسَائِلنا
وبقينَ سَاهِرات حتّى الفجْر
ليحرُسْن نومنا..
الحبيباتُ السّابقات:
بناتُ الجامِعات وبناتُ المقاهي،
أو أيديهنّ الممْدودة دُون خجلٍ تحت ثِيابنا
لترتُق سُمرَتنا بعدَ كلّ شتاءٍ
أو وهي تفكّ -مثل خبيرة ألغامٍ- حبالَ السُّرة
وكلّ تلك الأشْياء التي رَبطتها أمّهاتنا.
الحبيباتُ السّابقات:
الجالساتُ عن غيرِ درايةٍ بالمكانِ والوقت
يُمسّدن بالأغنيات زغبَ المواعيدِ القديمة
حتّى تبْقى أملاً..
الحبيباتُ السّابقات:
الواقفاتُ ظِلالاً،
دون إرْهاق الذّاكرة بالسّؤال:
في أيّ عناقٍ بقيت أجسادُهنّ؟
الحبيباتُ السّابقات:
السّعيداتُ من حُضنٍ إلى حُضنٍ
لا يُعييهنّ البحث عن الجهة التي يَأتي مِنها
أو في أيّها يختبئُ الحبّ..
الحبيباتُ السّابقات ينسحبنَ آخرَ اللّيلِ دائِمًا
وفيما نحن نبتعدُ.. دون التفاتةٍ
تسقطُ صامتةً، من مفكّرتنا:
وُجوههنّ الطّيّبة
أصواتهنّ حين البكاء والضّحك والغناء
تجاربُ القُبل والنّوم
أسماؤهنّ أيضًا..تسقطُ...
تسقطُ لتترُك مكانًا
للنّساءِ المنتظرات هُناك
على بَاب الصّبَاح..
النّساءُ اللاّئي سَيكُون لهُنّ مع الوَقت
قصائدُ حزينةٌ أيضًا
3) في الطّريق إلى البيت
في الطّريق إلى البيت،
البنفسج يذبل على شرفات النّساء
والسّتائر لا تنزاح عن النّوافذ
لشاعرٍ يمشي بطيئًا
وفجرٍ يأتي دون أغنية
ودون قصيدة..
في الطّريق إلى البيت،
ينام المُتعبون من اللّيل دون أسماءٍ
ويبقى قلب الشّاعر مستيقضًا لقلقٍ ما،
ربّما هي لعنة القراءة،
ربّما نامت البنت قبل أن تُحظّر فروض الجامعة
وتركت سائق التّاكسي في الحانة
يفكّر برائحة اللّيمون على نهديها
وبتفاصيلها التي تستفيق عند النّوم،
ربّما عاد الجنود إلى البيت وأفزعوا السّنونو،
ربّما استيقظ الشّهيد ولم يجد البلاد،
أو لعلّ شيئًا من هذا لم يحدث:
للخمر فعل المرأة تحت المطر
وللفجر مذاق السّؤال
وكذبة الحبّ،
ولا شيء غير هذا...
في الطّريق إلى البيت
يسقط اسمي عن كتفي
ولا تعود أغنية البنت إلى البحر
ولا أعود إليّ،
يتوه منّي الصّوت
تتوه المسافة
ولا شيء يبقى، لا شيء
سوى هذه القصيدة..
4) مشهد صباحيّ
سماءٌ لا تخفي شيئًا،
شارعٌ كربْطة عُنق علّقتها الحضارة برقبة ابن خلدون
هكذا يبدو المشهد صباحًا،
مدينة تجلس في مقاهيها وحيدةً
تنسج من قلقها مطرًا
في مخيّلة بوزيديّ يتدفّؤ على زيتونته الأخيرة،
وامرأةً في بال شاعرٍ يدخّن سيجارته الثّالثة على الرّيق،
وتتثاءب، غير عابئة بالبحر الذي أتى لزيارتها..
يبدو أنّ الشّارع، رغم ما فيه من هرولة، لن يتعلّم المشي
ويبدو أنّها لن تمطر اليوم
وأنّ المرأة التي تطلّ من النّافذة و تعدّ الجنود،
قد نسيت موعدها،
و يبدو، خلافًا لما يظنّ أبو القاسم الشّابّي
أنّه علينا أن نعود إلى النّوم
وننتظر الحياة!
عندما نزلت إلى النّهر
بالأمس، عندما نزلتِ إلى النّهر
سقنا أغنامنا إلى أعلى التّلّة وجلسنا مثل كلاب صيدٍ مدرّبة
نتنصّت على تضوّع الماء وهو ينزل بين نهديك الصّغيرين
ونحرس أدباشك المرميّة على العشب .
من الأشجار نزلت عصافير ورتقت فستانك الممزّق قليلا عند الكتف
وفي الماء لمعت سمكة حمراء بين يديك ثمّ اختفت،
وبينما كنت تبحثين عنها
نبحنا بصوت خافت كي لا نفسد الأمر
ونحن نحصي الحملان الضّعيفة التي نفقت من العطش .