رائحةَ الحقلِ في القَميص الأبيض
عَلى غيرِ عادتِهِ
يلتفِتُ المَاضي نَحوي
يتنَفَّسُ مِن هواءِ اليَوم
ويَسيرُ مَعي في شوارعِ الجَزَائِر
المدينةُ الصَائِمةُ حُفرةٌ مَليئَةٌ بِالكلِمَات
يقِف ويستلُّ مِنها: غُيومَ الطّريقِ فِي الهَاتفِ المَحمُول،
يَدِي وهيَ تَبحَثُ عَنكَ فِي السَّرير،
رائحةَ الحَقلِ فِي القَميصِ الأبيض،
ذاكرةَ الكُرسيِّ الأصْفَر،
وصوتَك الّذي يبْتعِدُ وَيَعِد
…
يَحمِلُها إلى حَافةِ الزَّمنِ الآتِي
يَنثُرُهَا أمَامي
ويَعودُ إلَى الوَراء.
2
أحلامٌ تَهرُبُ مِن قَبضَةِ اللَّيل
وتُفاجِئُني فِي الأزِقَّةِ المُظلِمَة
غِيلانٌ بِلِحَىً طَويلةٍ وبَنادِق، سَيَخرُجُونَ مِن الشّاشَةِ
ويُطلِقونَ النَّارَ عَليّ
شَرنَقَةٌ تُصبِحُ بِحَجمِ مَدينَةٍ
ولا تَنكَسِر
حَشَراتٌ تَدخُلُ السّاعاتِ
وتُعيدُ العَقارِبَ الجَارِحَةَ إِلَى الوَرَاء
صُوَرٌ تَتَدلَّى مِن حَبلِ أيّامِي بِارتِعاشَةٍ مُقلِقَة
وأصوَاتُ مَن يَسأَلونَنِي بِحُزنٍ، طَوالَ الوَقتِ: لِماذَا؟ لِماذَا؟
يَكفِي فقَط أن تَفتحَ البابَ الزُّجَاجيَّ
بِالقَميصِ الأَسوَدِ
تَتَقدَّمَ
وتَمُدَّ يدَكَ لِلتَّحيِّةِ
فَتَنغَمِسُ فِي سُكونِ المَاءِ
ليَذوبَ هَذا العَالَم.
3
أمُدُّ يَدِي فِي الهَواءِ
أُمسِكُ بِكَلِمةِ الذَّاكِرَةِ
كَلِمَةِ الفَرَحِ،
البَيتِ،
الحَافِلاتِ الّتِي تَنقلُنَا مِن مَدينةٍ صَغيرةٍ إلَى أُخرَى،
أُمسِكُ بِكَلِمِةِ الصُّبحِ،
نَومِكَ
وصَوتِ المَاءِ الدَّافِئِ
بِشَمسٍ كَبيرَةٍ فِي أَزِقّةِ الأَهوَازِ
بِحُلمٍ يَجرِي كُلَّ لَيلةٍ فِي طُفُولَتِي
بِكَلِمَةِ السَّفَرِ
أُمسِكُ بِالكَلِمةِ الَّتي هِيَ اسْمُكَ
وأَكتُبُ: لَا شَيْء.
4
الوقتُ مُبَكّرٌ لِلسّرَابِ
ولِلوَهمِ أن يَأتي بِأسبابٍ بَسِيطةٍ،
ليَدخُلَ البَيتَ
الشَّمسُ غَيمةٌ نَاصِعَة
والضَّوءُ ظِلَالُ الشَّبَقِ عَلَى الصَّباح
نَهدَايَ زَهرَتَانِ بَرّيَّتانِ بَينَ الحَرِيرِ
وحَقيبةُ السَّفرِ قَريَةٌ هَادِئَة.
هكَذَا
أخَذتُ ألهُو بِالكَائِناتِ السَّعيدَةِ
ونَسِيتُ أن أُغَطّيَ الظَّهيرةَ بِالشَّرْشَفِ الأزْرَقِ
كَي لَا تَخدِشَها يَدُكَ القَادِمَةُ مِن البَعِيد
لِتُغلِقَ البَابَ
وَتَهبِطَ بِهُدوءٍ فِي المَصعَدِ،
ثُمَّ تَسيرُ بَینَ الأَبرَاجِ والمَرْكَباتِ
وتَنسَى عَالمِيَ الصَّغيرَ
وحيداً
فِي الطَّابقِ السَّابع.
5
دُونَ أنْ يَحدُثَ أيُّ شَيْءٍ
دُونَ أنْ تَشعُرَ أنَّ شَيئاً مَا سَيَحدُثُ
فِي الصُّورَةِ الكَبيرَةِ الَّتِي أنتَ فِيهَا:
تَسُوقُ
تَمكُثُ مِنْ أَجُلِ قَهوَةٍ
تَصِلُ
حَامِلاً بِيَدٍ تِيناً
وَبِيَدٍ أُخْرَى قُبلَةً خَاطِفَةً
تَصعَدُ
- وَفِي المَصعَدِ نِصْفٌ مِن كلِّ شَيْءٍ-
تَدخُلُ
تَغْسِلُ وَجْهَكَ، يَدَيْكَ، وَأفْكَاراً عَمَّا مَضَى
تخطيط: حسين جمعان
وَتَنَام
تَخرُجُ الأَنفَاسُ العَمِيقَةُ دُونَ أنْ تَشْعُرَ
هكَذا دونَ أنْ تَشْعُرَ
سَأغِيبُ عَن أمْكِنَتِكَ
أسِيرُ بِيَدَيْنِ فَارِغَتَيْنِ
كَيْ أُحَقِّقَ أُمْنيَاتيَ الصَّغيرَةَ
واحِدةً
تلوَ
الأُخرَى
فِي الصُّورةِ المُقَابِلَةِ
وَحيدَةً
فِي بَيتٍ مُشرِقٍ
أوْ عَلَى الطُّرُقِ الْبَرِّيَّةِ فِي أفْغَانِستَان.
6
فوقَ الفِراشِ
أترُكُ رِجالاً نَادِمينَ
ظُنوناً
قَلَقاً
صُوَراً تَغرُبَ وَتَعُودُ
أحْلاماً غَاضِبَةً
وأصْواتاً تَهتِفُ: لا، لا..
نَحوَ صُورَتِكَ فِي الشَّاشَةِ الصَّغِيرَةِ
قَبلَ أنْ يَبدَأَ العَالَمُ يَومَهُ بِأيِّ شَيْءٍ
أَحْمِلُ الكَلِماتِ وأَسير.
هذِهِ القَصيدَةُ،
“صبَاحَ الخَير”،
أيْقونَةٌ ضَاحِكَةُ،
وأَنَا
مَصيرُنا فِي زِرٍّ رَماديٍّ صَغِير.
7
فِي لَيلةِ الشَّوارِعِ الأَخيرَةِ
يَمرُّ الغُرَباءُ بِعُيونٍ لَامِعَةٍ
كَأنّهُم سَيَحضُنُونَ أسماءً تَنتَظِرُ خَلفَ الشَّبابِيكَ الحَجرِيَّةَ البَيضَاءِ
دُونَهُم.. أنتَ الوَحيدُ تَعرِفُ اسْمِي
نَسيرُ
ثُمَّ تَسقُطُ اللَيلَةُ مِن فَمِ العَالَمِ -غَيرَ مُبالٍ-
ودُونَمَا صَوتٍ، كَنُواةٍ صَغيرَة.
8
أرَى أنْفاسِيَ طَائِرةً فِي الهَواءِ
أرَى رُوحيَ رَاكِضَةً خَلفَها
وَجَسدِي لَا يَنطِقُ..
بِيَدِكَ
أَنْ تَنفَخَ أو ألَّا تَنْفَخَ
أنْ تَكتُبَ بِضعَ كَلِمَاتٍ أوْ ألَّا تَكتُبَ
أنْ يَكونَ اسْمِي مَا حَمَلْتَهُ وَرَحَلْتَ
أوْ لا يَكُون
أنْ تَكونَ دَسَسْتَ فِي جَيبِكَ ظِلّاً لِيَدِي
ظِلّاً لِشَفَتِي
وَصَوْتِي حِينَ تَتْرُكُ البَيتَ وَأُنادِيك
أوْ لَا..
أنْ أُنادِيكَ فِي الأَهْوَازِ
وتَسمَعني فِي المُحيطِ البَعيدِ
أنْ تسمَعَنِي وَلا تَسمَع
……
مَصيري قَارِبٌ صَغيرٌ يَنتظِرُ فِي عَرضِ المُحيط.
9
ها هو يومك يبدأ
وشمس الظهيرة معفرة بتراب المسافات
تضحك.. وتلعنها
كما تلعن بلادك
تمضي
وتنسى شفتيّ اللتين تقبّلان جبين العالم كلّ صباح
لأن روحك لم تعد تحنّ إلى العدم
10
لأنِّي أسمَعُها تُرفْرِفُ فِي ظَلامِ الذَّاكِرةِ
لأنَّ جِناحَيْها النَّاصِعَينِ مَزَّقا نَسيجَ وَحدَتي
الكَلِماتُ الّتي بُحتَ بِها عَلى شَاطِئِ الغُرَبَاء
مِن أجْلِها فَقَط
تَتحرَّكُ الآن
وتَرفعُ رَأسَها نَحوَ الضَّوْءِ
حَياتِي العَالِقةُ فِي طِينِ الأَوهَام.