رائد الحداثة وفاتح بلاد الشعر
ربما لم ولن يؤثر شاعر عربي في فضاء الشعر العربي الحديث وأرواح شعرائه، كما فعل ذلك العاشق الملعون نزار قباني، حيث عجن الشعر بكل مواد الحياة، من الإنسان حتى أعقاب السجائر، وأشعل اللهفة في كل شيء من الأصابع، حتى الموجودات والجمادات، فباتت طيّعة بين يديه ومفرداته يشكل منها نصوصه ويحرّق عليها عشاقه ومريديه بكل سهولة ويسر.
لقد كان نزار قباني ولا يزال ظاهرة لغوية لا تقل غرابة ولمعانا في ذات الوقت عن الظواهر الكونية التي لا تتكرر، أو التي لا تتكرر إلا نادرا، لقد كان إلها شعريا خالقا بامتياز، وكان يجمع في بوتقة أصابعه شهوة الحس، ولذة الخيال، وجنون السياسة، ولهفة العشاق، ويخلق نصّه (غير المصنوع) ببداهة خزّاف، أو حنكة ودقة صائغ معتّق، ليقول ببساطة الكلمة -التي لا يمكن استبدالها بسواها- كل شيء ببساطة ودهشة الأطفال في الحديث، ويترك المتلقي معلّقا بآخر حرف عالق في لسانه، ينتظره أن يجيء، لتكتمل تلك الدهشة التي لا تنسكب مرة واحدة، بل تتدرّج في ذهنية المتلقي مع تواتر الصوّر الشعرية، وانسكابها في لوحة المعنى حتى تكتمل اللوحة الأكبر (النص).
لقد فعل نزار قباني فعلته الكبرى، واقترف جرائمه القصوى في بنائية النص المخاتل، وأعاد في مجموعاته الشعرية نسج التاريخ الشعري العربي بأكمله، وصالح المتلقي في كل عصور اللغة والكلام، وفي كل مستويات الثقافة والوعي، وفي كل جوانب التلقي إيروتيكيا وعذريا، سياسيا واجتماعيا، داخليا وخارجيا، فكان كل متلقي يجد ضالته بين أفياء كلماته المظلِة المضلِّلة، وكل باحث عن وفرة المعنى، أو عن خصوبة الرؤى، أو عن جمالية الكلمة سيجد ما يريد وربما في نص واحد.
لقد أكمل نزار قباني حلقات الشعر الناقصة في تاريخ اللغة العربية، وآخى بين النخبة والشارع وبين العشق والأنثى، وبين اللغة والجسد .
وهو في جرأته تلك التي رفعت في وجهه كل أصابع الاتهام، وكل رايات الظلاميين، جعل النص جسدا أنثويا رائعا يتهادى بخفة رشا، ورشاقة راقصة باليه جذلى بالحلم والموسيقى، وجعل الجسد نصا لغويا مشغولا ببهاء العبارة وإشراقة المعنى اللاموارب، واللامنتقص.
لقد ألّه نزار قباني الجسد واحتفى به، وتمادى في كشف مستور لغاته ومناطقه، وأحرج المتوهمين وسدنة التغييب، والفصاميين الذين يميلون لاستحضار سري لمكنوناته الفضية، والتمرغ في غاباته الوعرة، والتلذذ بمواربة أفعاله .
كما ألّه المرأة/ الأنثى وجعلها معبودة النص والعاشق معا، فهو يتبتّل في محرابها ليلا ونهارا، ويكتحل بأوجاعها ويتلبس هيئتها ليأتي نصه أنثويا يحاكيها ألما شفيفا/ ووجعا طريا، وأحاسيس لم يكن لأحد أن يكتبها بصدق الأنثى وحقيقية أوجاعها سواه.
فقد كان نزار قباني شاعرا عاشقا، جعل أنثاه تتصدر نصه تارة، ويتصدرها هذا النص تارة أخرى، فإما أن يكتبها النص وإما أن تكتبه هي.
وحين قيل إن نزار قباني شاعر المرأة، فقد كانت تلك غاية الحمد للمرأة وللشعر معا، فمن ذا الذي تصدى لإشكاليات عبورها المؤججة بالحزن والوجع والظلم، وأي نص احتفى بها بكل جوانبها جسدا وروحا، فرحا ووجعا، طفلة وأنثى كما فعل نزار قباني، فأي اتحاد خلقه نزار بين الشعر والأنثى، وأي معادلة عصيّة على التمازج إلا بين يدي نصه كانت بين الجسد والنص.
لقد جعل نزار الثوري الروح النص ساحته الأكثر حدة وجرأة في مجال العشق والنقد الاجتماعي والتحدي الثوري، والرفض السياسي، فأخذ العشق بين يديه أشكالا أكثر ولعا من جسد ميت، ليصبح نصا شهيا كحديقة غناء مملوءة بثمار الجوز والخوخ والرمان أو كثورة مفعمة بالحزن، والدمع والرفض، وليصبح النص امرأة معشوقة، وأخرى موجوعة، وطفلة تتشاقى بين حروف النص، ولعوب تقامر العشق بالكلمة، وكلها أشكال حية في مجتمعاتنا الميتة، مسكوت أو متغافل عنها، أحياها نزار قباني بشهية فاتح، ليجعل بذلك نصه الشعري ساحة حرب، وشهادة موت، وزغرودة أم على شهيدها البطل، وصرخة مظلوم في مجتمعات القهر، ومظاهرة في وجه العدالة الناقصة والجوع المستتر، والبغي المظلل بأسماء مستعارة.
إن أهم ما قدمه نزار قباني للنص الشعري هو تخليصه من ربقة المواربة، وثقل الأطر التاريخية والجغرافية، ومن رنين الزيف المقنن، وحدبة الكذب التي كانت تتكئ على ظهور أغلب النصوص فتجعلها واضحة الانحناء.
إنه رائد الحداثة، وفاتح بلاد الشعر، وسيد القصيدة التي تخاطب الجميع فتنزل الشعر بمظلة قزحية إلى الأرض والشارع والناس، وترفعهم بمناطيد ملونة إلى سماءة الضاجة بالألعاب النارية ليلتقيا معا عشاقا ومحبين.
نزار قباني هو تلك الدهشة الخضراء التي نمت في أرواحنا الطفلة حينما عانقنا قصائده لأول مرة – نحن الخارجين من رحم مجتمعات الكذب والخوف- لنجد نصه يخاصر أنثى بين حروفه، ويجاهرنا برقصة عاشقين في متن نصه، وناسكين ملتهين بالصلاة بين حروفه في ذات الآن، بل قد يتجاسر على النص فيسميه بأسماء الجسد الأشهى والأكثر تلغيما في الذاكرة العربية كـ»طفولة نهد» أو «نهد مغرور». ليحقق للشعر تلك التوأمة اللغوية بين جسدية النص ونصية الجسد.
نزار قباني هو البوابة الأمامية الأولى للشعر العربي المعاصر، والتي لا بد أن يكون قد دخل منها كل شاعر عاصره أو جاء بعده، وربما يدخلها كل من يكتب الشعر العربي إلى أن يشاء الله، ولكن مع عدم التسليم -في عصرنا هذا- بمدة المكوث في أنهارها العذبة، ومتاهاتها اللينة اللدنة التي قد تفضي إلى عذوبة وبساطة لغوية لم تعد تناسب كائن هذا العصر المنشق من ماديته ورماديته، والمضرّج بالوجع والوحدة والضبابية.