ربيع‭ ‬في‮ ‬الشتاء

الاثنين 2016/02/01
سيف الثلج في الخارج كان يذبح

خرج من السجن مولوداً من جديد، بعد ثلاثين يوماً بالتمام‭.‬ إذن هي معجزة أن يولَد المولود بعد حمل في الأغلال مدته شهر شمسي، بلا شمس‭.‬ خرج حافياً تقريباً، وكل مولود يولد حافياً، في يوم مثلج، ومعه شابان‭..‬ إنه جاري أبو عبد الله الذي زحف بعمره إلى سفوح الستين‭.‬ لم يحدث أن زارني من قبل، فهو مشغول دائماً‭.‬ وهو رجل مقفول وبلا مفاتيح، ولولا تعطل الأسانسير لما دخل شقتي الواقعة في الطابق السادس‭.‬ القرعة- وهي القرعة الوحيدة السليمة من اقتراعات الادّخار السكني- جعلتنا جيراناً‭.‬ كان النظام، الذي نظم كل شي مثل قصيدة “تفعيلتها” السلاسل، كل حلقة في السلسلة تشبه أختها، قد سارع إلى توريط بعض الوجوه الشعبية في مهزلة البرلمان المنظم مثل لعبة كومبيوتر‭.‬ المظاهرات المتهورة في بسالتها أرغمت السلطة على كرم ليس في طبعها، فأرغمته على الجلوس في مقعد في “مجلس الشعب” المنظم مثل لعبة “أتاري”، حتى تحلّي فم الشعب الثائر بسكرة، تلك هي طريقة النظام في الإصلاح “بالصدمة” والتي تبيّن أنها إصلاح بالحقنة‭.‬ اعتقل الرجل “السكرة” لأن جثة ابنه وجدت مقتولة عند أحد الحواجز، فواسوه بالاعتقال والتحقيق شهراً، خرج في الصفقة التي تبادل فيها النظام ألفاً ومائتين مقابل ثمانية وأربعين إيرانيا وتلك إهانة لزنوبيا، ومعاوية، والأحمق أندريه بارو، صاحب المقولة الشهيرة: لكل إنسان وطنان، وطنه وسوريا! قال الرجل الجهم الصموت، جملة مقتضبة يقولها كل من يخرج من جحيم لو سمع به دانتي قبل كتابة كتابه الشهير لفقأ مثل أوديب عينيه بالقلم: طلعنا بمعجزة! ظننا أننا نساق إلى الموت، فتبين أنها الحرية، والموت أحد الحريتين‭..‬ يا أخي بروتوس طوله متران، وزنه يتجاوز المئة، وله في العمارة ثلاث شقق، واحدة لابنه الذي يدرس في مصر في الطابق السفلي، والثانية لصهره، والثالثة له‭.‬ الثانية والثالثة في الطابق العلوي الأخير، في الطبقة التاسعة‭.‬ والحصول على شقة حكومية هي من بركات الفساد الشرعي الحلال فهو مهندس في “الإسكان”، ويعرف من أين تؤكل الكتف وتقضم الأذن ويمصمص العظم‭..‬ الابن صاحب الشقة السفلية في مصر، والصهر غائب أو مفقود، أو شهيد‭.‬ علمت لاحقاً، بعد شهر تقريباً أن ابنه الأصغر الذي يبلغ الرابعة والعشرين شهيد والذي اعتقل لاحقاً من أجله، الموت الغامض غير مسموح به، فكيف إذا كان موتاً مشبوهاً‭.‬ كل شيء ينبغي أن يكون منظماً، مثل مسلسل تلفزيوني ولعبة مبرمجة‭.‬ لم أعزّه، كان الوقت قد فات، أو أنه لم يعد معنى للعزاء مادامت سوريا كلها تستشهد‭.‬ كان عدد الشهداء في الحارة أكبر من أن نعزي بهم‭.‬ اعتبر بعضنا أو معظمنا أنّ دفن الشهيد، في أيّ مكان في سجل المحفوظات الأكبر، تحت التراب، وهو أدنى حقوق الإنسان “الميت”‭..‬ غاية لا تكاد تدرك‭.‬ تجري الرياح بما لا تشتهي السفن لكن الأرض الواقفة غير السفن الجارية ويجب أن تبلغ ما تشتهي‭.‬ لم أعزّه، لعله الخوف، أو هو انتظار اللحاق بهم في سكة الشهداء التي يعبّدها النظام إلى‭..‬ الجنة‭.‬ العزاء تقليد أصيل أهمّ من التهنئة بالعرس، وواجب اجتماعي تليد، في زمن الأمان‭.‬ الحزن أمّ والفرح أحد أولادها الطائشين‭.‬علمت لاحقاً أنّ له ابنين معتقلين أيضاً، مؤكد أنّه سعيد بشهادة الابن أكثر من اعتقال الآخرين‭.‬ ومع ذلك لا يبدو عليه الحزن، قلبه من صخر هذا الرجل‭.‬ يصعب جرّه للإفضاء أو الحديث، يضحكه مالا يضحك الآخرين، ويغضبه ما لا يغضب الآخرين‭.‬ هو يعيش وحيداً الآن في ثلاث شقق! فزوجته تركته لتعتني بأمّها النازحة العجوز في الجنوب، وبينهما حواجز وبرازخ‭.‬ الفوضى الشعثاء واضحة في الشقق الثلاث، وبين الحين والآخر أنزل (وأحيانا أطلع حسب الشقة المضاءة) ومعي هرتي، بطبق ساخن من وجبة اليوم، فيدعوني إلى المشاركة، فأجامله، ومجاملته صعبة، فهو كتوم، ويصعب التنبؤ برد فعله‭.‬ شبه أخرس، لكنه صاحب ذوق فني فريد، في مبارح أخرى، فقد أنفق الآلاف على اقتناء قطع فنية قديمة: مثل شراء أحجار من أبنية عتيقة، وأخشاب مطعّمة بالكتابات، بيته متحف للأنتيكات واللقى الأثرية، ويربّي جواداً عربياً أصيلاً، له مهر صغير، في بستانه في مدينة القصر‭.‬ وقد أعدم الجواد بالرصاص، ربما احتياطاً من تعاونه مع الجماعات الإرهابية! فمات المهر بعد لحظات حزناً على أمه في إحدى أغرب قصص عالم الحيوان‭.‬ يحتفظ بأعداد مجلة العربي والدوحة وصباح الخير المصرية وآخر ساعة، منذ أواخر الخمسينات‭.‬ والأهم أنّه يحتفظ بأرشيف المراحل الدراسية السورية كلها منذ الاستقلال، هذا الرجل لي عنده حاجة، فهو يقف حارساً على بعض أبواب فصول طفولتي في الكتب الرهينة في بيته، والبيت تحت القصف‭.‬ وسنكتشف لاحقاً أنّ التاريخ قد أكلته الصواريخ‭.‬

تعاونّا أنا وجارنا الثالث المهندس يوزرسيز ( كان اسمه يوسف قبل المسلسل الإيراني عن يوسف الصديق) في تأمين بعض الزاد والقرى، للثلاثة الناجين من الحرية المرّة إلى الحرية الأقل مرارة‭.‬ الشاب الأصغر يريد أن يستحم، لكن الماء قليل ومثلّج، أمّا أماكن النوم، في الشقق الثلاث فكثيرة‭.‬ تيمموا بغبار السجاد، صليت بهم العشاء، إماماً‭.‬ المياه مقطوعة من قبل العصابات المسلحة، الكهرباء من قبل الجماعات التكفيرية السلفية‭.‬ سينام القمل سعيداً في أحضان الصئبان يوماً آخر على الأجساد التي اختمرت بدهونها ودمائها ودموعها‭.‬ القمل أيضا يقف مع الاستقرار والمقاومة والممانعة وضد الربيع العربي‭.‬ قاد يوزرسيز الشابين إلى الشقة الواقعة في الطابق التاسع، في الشقة مكشوفة الرأس للبرد، ودلّهما إلى فراش واحد، فزجاج النوافذ مكسور إما من شظايا قصف القنابل أو من زئير الطائرات الروسية، أما الزجاج الناجي من الاثنين فهو عاجز عن صدّ ثعابين البرد، بسبب قصف الفساد في إدارة الإعمار والبناء والهندسة، فإما أنّه محسور الحروف عن سطور الخشب، أو أنّ الخشب فائض على حروف الزجاج‭.‬ نام الشابان تحت ثلاث طبقات من البطاطين، واضعين أقدامهما على المخدات حتى تعود الدماء التي تراكمت فيها بربا التعذيب، يرغمها البرد إلى ضمّ الفخذين إلى الصدر كما الجنين لكن أورام القدمين تجبرهما على رفعها إلى الأعلى‭..‬ رفع يوزرسيز السجادة الثقيلة وطرحها عليهما، فسكتا من غير حراك‭.‬ مدفونين‭.‬

الشاب الأول كان عائداً من بيروت وقد اعتقل بسبب كثرة الأدعية والآثار والرقاق الأذكار في جواله، فهي أسلحة مشبوهة، والله “جهات خارجية”! ينبغي عدم الاتصال بها، أو ربما اعتقل بسبب مكان الولادة، فهو من “الحولة”، أو لكلا السببين‭.‬ الثاني اعتقل لسبب أكثر وجاهة فقد شارك في حمل صناديق أسلحة جاءت بها البلدية وصورها التلفزيون على أنها أسلحة مصادرة من الإرهابيين، فاعتقل “بالجرم المشهود”!‭.‬

أكل أبو عبدالله قطعة من حلوى اسمها “أسبانيا” دبجتها زوجتي، ولم يكملها، والأسبانيا حلواء هجين، خنثى، من زواج بين جنسين أبوها اسمه الهريسة أو النمورة، القاسية الصلبة وأمها الكاتو اللينة المتكبرة لإدمانها على مسحوق البكم باودر الذي يصيب آكلها بالغرور والنفاش‭.‬

عاب أسبانيا أمام زوجتي، فادكرت، وظهرت بعض الغيوم الرمادية على وجهها حزناً على الأندلس‭.‬ أبو عبدالله ضعيف في الآداب واللياقة العامة أو أنه يدّخرها لجواده، أو لكتبه، لعله ينسى أنّ النساء يغزون قلوب الرجال غير المنيعة عبر أبواب معداتهم‭..‬ وغالبا ما أخادع زوجتي بمديح نصوصها المدونة على زفير النيران في وجبات المساء، وأغازل قوافي السميد المحروق، بالثناء على الجناس بين السكر والزبدة، والطباق بين النار في صدر الطبق وعجزه، أدناه وأسفله، استعارات مكنية من قشور الليمون، مجازات من ثمرة جوز الهند التي تجف فتتحول إلى ثلج لا يذوب‭.‬

أبو عبد الله يعاني من السكري‭.‬ قال بمناسبة المرض: باعونا الأدوية التي اشتريناها، ثم قسّطوا الدواء، جرعتي، هي حبة كل ثمان ساعات، يتمهل في الحكي بفواصل طويلة من الصمت، لعله يتعثر بذكريات مرة‭..‬ يتابع: لكنهم كانوا يعطونني حبة واحدة في اليوم ويبيعونها لي مع أني اشتريتها بأموالي‭.‬ يسخر: كرماء!‭..‬ رجّعوا لي نصف المال الذي كان معي‭.‬ عندما طلبوني للتحقيق كان معي 30 ألف ليرة، خرجت ومعي عشرة، نعمة من الله‭.‬ الشاب الصغير عبدالحكيم قال إنهم صادروا 200 دولار هي كل ثروته، أما الشاب القوي بكري الممثل الذي أدّى دوراً في تمثيلية لفضائية الدنيا، فاعتقل، فكان ينادي الدماء في معصميه بالدعك، وقد أخلي سبيله، بعد شهر ونصف من الاعتقال والتعليق من الرسغين‭.‬

غفا أبو عبدالله رافعاً قدميه على مخدتين أمام المدفأة التي كانت قد تحوّلت من آلة جمهورية تستعر بالوقود السائل إلى آلة ملكية تلتهب بالحطب‭.‬ والحطب هو من عطايا الكتاب، فقد أجبرنا الكتب على النزوح من بيوتها في المكتبة إلى منفى الأرض وكسرنا بعض الرفوف، وألقمناها المدفأة التي قبلت على مضض بالوجبة الجديدة‭.‬ آثار عناق أساور الحديد في معصميه، واضحة، بين الفينة والأخرى يمدّ يده إلى مكان الأخدود الدائري الذي حفره الحديد في اللحم‭.‬ قال: علقوني من يديّ بعد أن وقفت على أطراف أصابعي، كنت ألفظ روحي، من يديّ‭.‬ قطرة قطرة‭.‬ كنت مستعداً أن أعترف بقتل اللورد برنادوت‭.‬ تعبوا من التعذيب فوجدا هذه الطريقة السهلة‭..‬ يعلقنا السجان في أول الوردية ثم يأتي السجان التالي ليجد الاعترافات قد نضجت وتورّمت في أسفل القدمين، واليدين‭.‬ والرأس‭.‬

في الآونة الأخيرة بات يفضّل الزي العربي فأصبح يرتدي الجلابية والشماخ والعقال، لاحقاً أيضا عرفت أنه كان يكتب مقالات صحفية، في مجلة الدوحة أيام رجاء النقاش‭.‬ كنت أدخل شقته بعد دقّة على باب شقته المفتوح، لأجده غافياً، وهو يقرأ في إحدى الكتب التراثية، وتدخل معي هرتي، فمن مناقب أبو عبدالله الكريمة تسامحه مع الهرة، وهي هرة أليفة، تغار منها زوجتي، ليس لجمال ألوانها؛ كواكب وهالات وأزياج من الألوان على جلدها، جلد أنثى الكوجر، الهرة ماتت صاحبتها تحت القصف فآوت إليّ، ثم باتت تصعد إليّ في الطابق السادس، يعني تعرج حوالي 120 درجة، وهي تجر بطنها الثقيل‭.‬لم يتوقف كرمه عند استقبال هرّتي بل إنه بات يطعمها، ووعدني بأن يسمح لها بالولادة في شقته الأرضية‭.‬ كنت أجلس ساعة عنده، حتى تعود الكهرباء وتجلس معنا الهرة مشكّلة بذراعيها وقدميها ما يشبه العجلات الأربع المغطاة تحت الجلد، ثم نملّ من الصمت والسكون الذي تخترقه أصوات القذائف، فأنسحب‭.‬ يطلب مني الجلوس فأمضي من غير اعتذار وتلحق بي الهرة‭..‬ كنت قد توصلت إلى لغة خاصة مع الرجل الجهيم‭.‬ نتعامل بلا كلفة كجارين ما من صداقتهما بد‭.‬ في وقت الحرب‭.‬

غفا أبو عبدالله، رنّ الهاتف، رفعت السماعة، فسمعت صوت أنثى، طلبت أبا عبدالله من غير تحية، التحيات ترف، مثل العزاء، لعلها ابنته أو أخته أو إحدى قريباته، أيقظته من غفوته وناولته السماعة، مستغربا سرعة معرفة رقمي الهاتفي، فهو هاتف جديد نسبيا، وهي المرة الأولى التي يزورني فيها‭.‬ كيف عرفت رقمي!

كان يردّ على كلامها بهمهمة‭..‬لم يقل شيئا أبدا، فقط كان يهمهم، كأنما فقط النطق، أو يحاول تعلم الكلام‭..‬ ثم انحدرت دمعتان، تأبيان الانبثاق على خده‭.‬ لكنهما انبجستا، سالت الدمعتان، اللتان لمعتا بفعل قذيفة عابرة، فمسحمها بكمّه، كانت تحكي هي ويرد عليها بهمهمة، تحولت الهمهمة إلى أنين، بكت زوجتي، ثم سمعت نشيج ابنتي الكبرى عاليا، فهربت ابنتي الصغرى إلى حضن أمها، انتهت المكالمة فناولني السماعة من غير أن ينظر في عيني‭..‬ تأوه‭..‬ مسح أنفه، ومسّد معصميه المخدودين،‭..‬ أحسّت الهرة برائحة الدمعتين ففتحت عينها وتفحصت الموجودين تبحث عن منبع الدمعتين‭..‬ مصهورات من البرد تتدفق في شقوق الزجاج المكسور المسدود بالخرق، سيف الثلج في الخارج كان يذبح، بسيفه الأبيض العريض‭..‬ الموجودات كلها، من الوريد إلى الوريد، بدم شتائي بارد.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.