رجل في عباءة سوداء

الخميس 2016/09/01

في 1980 عُرِض عليّ إخراج برنامج سهرة وثائقي عن «مولد النبي». قبلتُ العرضَ بحماس رغم ما كان يحيط العمل من مشاكل. كانت فرصة لأرى مرة أخرى مشهدًا رأيتُ ما يشابهه وأنا طفلة في سن الخامسة على أقصى تقدير، مشهد عجزتُ حينها عن فهم معانيه، وعانيت لسنوات من غموض دلالاته، فظلتْ صورُه محفورة في ذاكرتي تاركة أثرها الكبير.

في نهاية عصر يوم صيف وقت القيلولة، والهدوء يسود الشارع، المتراصة على جانبيه بنايات أغلبها فيلات صغيرة بحدائق. كنتُ وحدي، متعلقة بقضبان الباب الحديد لحديقة بيتنا، أتسلى بمتابعة المارة القلائل في الشارع، أسرح، تأخذني الخيالات إلى البعيد فأنفصل شيئا فشيئا عمّا يحيطني فيما يشبه غفوة.

وأنا في هذه الحالة بين النوم واليقظة، زحفتْ إلى سمعي أصواتٌ غير واضحة قادمة عن بعد، تردد كلمات غامضة، بشكل إيقاعي منتظم. أخذتْ تقترب وتعلو شيئًا فشيئًا، حتى ظهر في إطار رؤيتى المحددة بقضبان باب الحديقة مشهدٌ لم أرى له مثيل من قبل. اختلطت صور المشهد أمامي بالخيالات في رأسي وبدت وكأنها امتداد لها وجزء منها؛ أو كأنها كابوسٌ حي.

رأيتُ مجموعة من الرجال، بعضهم بذقون وشعور طويلة، يرتدون ملابس غير اعتيادية من عباءات وجلابيب وعمم مختلفة الأشكال، يسيرون في موكب ممتد، يحملون أعلامًا ملونة، يتمايلون في حركات هي كالرقص لكنها ليست برقص؛ فوجوههم متجهّمة وبعيدة عن مرح الرقص. وبعضهم كان يصل تمايله لحد الشطحات.

وفي وسط الصف الأول للموكب كان رجلٌ طويلُ القامة، يرتدي عباءة سوداء وعلى رأسه عمامة كبيرة خضراء. يتقدم بخطوات ثابتة. حين أصبح في جواري رأيته يلتفت إليّ وشعرتُ أنه ثبَّتَ نظره عليَّ للحظات، التقت عيني بعينيه. نفذت نظراته واخترقت لاوعيي وسكنته.

تسمّرتُ في مكاني لا أقوى على الحركة لأفرّ إلى داخل البيت، وعُقِدَ لساني فعجزتُ حتى عن الصراخ.

كنت أشاهد المنظر وفي رأسي أسئلة بلا إجابات: من هؤلاء؟ ماذا يفعلون؟ هل هم أشرار؟ لماذا يرتدون هذه الملابس الغريبة؟ هل هم بشر مثلنا أم من الجن التي يحكون لنا حكاياتهم؟

كنت في سنّ لا تسمح بصياغة هذه الأسئلة في كلمات. فظلت أسئلتي بلا إجابات. وظل الغموض يحيط بالمشهد ويولّد الرعب في قلبي.

رحل الموكب، لكنه لم يتركني.

عندما وضعوني في السرير لأنام هذه الليلة، وأُطفئت أنوارُ البيت ولم يبق إلا السهاري بضوئها الخافت وما يولده من خيالات مضخمة، رأيت الرجل ذا العمامة الخضراء الكبيرة، يقبل من عمق الطرقة المواجهة لباب الحجرة الموارب في اتجاهي وهو مثبت نظره نحوي.

كنت أرتعد خوفًا، لا أعرف إن كان عليَّ أن أغمض عينيّ حتى لا أراه، أم أن أبقيهما مفتوحتين لأتأكد أنه لن يدخل الحجرة ليؤذيني.

لسنوات لازمتني هذه الصور والأصوات في منامي. لم أُسِرّ بخوفي منها لأحد. ظلت سجينة ذاكرتي وأنا سجينة غموضها.

كنتُ مع مجموعة العمل مستغرقين في تصوير موكب مولد النبي. فرأيته.. هو. بعباءته السوداء وعمامته الخضراء يتقدم في ثبات أبناء طريقته الصوفية. التقت عيني بعينه، ابتسم، بدا سعيداً لأننا نصوّره، ابتسمت. فلم يعد الغموض يحيط بالمشهد.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.