رحلة هنا كسباني كوراني إلى شيكاغو 1892– 1896
من يتابع أعمال الباحث والروائي تيسير خلف سيلاحظ حجم الأعمال التي أصدرها حتى الآن في مجالات البحث المختلفة والرواية وما تتمتع به من علمية في المنهج والمقاربة في حقول مختلفة تبدأ من التاريخ القديم لحضارات المشرق العربي والقدس ولا تنتهي مع التاريخ المنسي لرواد المسرح العربي والحركة النسوية العربية.
إن هذا الجهد المبذول في الكشف والاكتشاف والتدقيق هو ما منحه حضوره الخاص ومنح مؤلفاته تلك القيمة المعرفية الخاصة. جديد الباحث هو كتاب “الحركة النسائية المبكرة في سوريا العثمانية: تجربة هنا كسباني كوراني 1892 – 1896”.
تتجلى أهمية هذا الكتاب في أنها تستعيد تاريخيا حضور العمل النسوي العربي من خلال شخصية هنا كسباني التي شاركت في المؤتمر النسائي العالمي في مدينة شيكاغو الأميركية عام 1892، وكان لمشاركتها الأثر الكبير في التعريف بشخصية المرأة العربية وانتزاع الإعجاب بشخصيتها الأمر الذي جعل الدعوات تنهال عليها لتقديم المحاضرات في مدن أميركية عدة، إلا أن المرض الذي فاجأها جعلها تحزم حقائبها وتغادر إلى باريس ومن هناك تعود إلى بلدها لبنان.
في تقديمه للكتاب يشير الباحث إلى الإنجاز الكبير الذي حققته هذه المرأة منذ لحظة صعودها الأول على منصة الخطابة سواء من حيث تمكنها من اللغة الانكليزية أو ثقافتها التي استقطبت من خلالها اهتمام الصحافة الأميركية والمنتديات الأدبية والاجتماعية التي استضافتها المرأة للتعريف بالعوالم الشرقية التي كانت مجهولة للجمهور الأميركي، والأوضاع التي يعيشها كل من النساء والرجال في هذه المجتمعات.
الجانب الهام الذي يكشف عنه الباحث في هذا اللقاء مع النساء الأميركيات أنه كان مرحلة تحول في وعيها النسوي وإدراكها لمعنى المشاركة الحقيقية للمرأة في الحياة مع الرجال بعد أن كانت أفكارها تتمحور حول ضرورة التعلم من أجل تطوير نفسها وتربية أولادها تربية صحيحة. لكنّ لقاءها مع الشخصية النسوية رايت سيوول المسؤولة عن هذا المؤتمر قادها إلى التخلي عن أفكارها المحافظة والانفتاح على الفكر النسوي الليبرالي كما ظهر في أطروحاتها لاحقا.
تشير الدراسة إلى مفارقة هامة في تاريخ هذه الشخصية النسوية تتمثل في محدودية المصادر العربية التي تتحدث عن هذه الشخصية على خلاف ما هو متوفّر في المراجع الأميركية. من هنا فإن الكتاب يمثل محاول مهمة لسد هذا الفراغ واستعادة حضور هذه الشخصية ودورها في التأسيس للفكر الليبرالي النسوي إذ سيكون لهذه الشخصية وللأفكار التي كانت تطرحها دور هام في نشوء الحركة النسوية العربية في المشرق العربي وفي ظهور الاتجاهات الفكرية والفلسفية التي أثّرت فيها، إلى جانب علاقتها بالحركة النسوية العالمية وحركة الإحياء العربي في القرن التاسع عشر.
لذلك فإن استعادة تجربة هنا كوراني في الكتاب هي استعادة للبدايات الأولى لعملية المثاقفة والتفاعل الإيجابي الأولى الذي حدث بين النسويات العربية في المشرق العربي والفكر الليبرالي الغربي من جانب، وفي تغيير الصورة النمطية في المخيال الغربي والأميركي عن المرأة الشرقية.
ومن أجل التعريف الكامل بهذه الشخصية والعوامل التي أثّرت في تكوينها يتناول الباحث سيرة كوراني منذ ولادتها في بيئة علم وأدب وتلقيها علومها في مدرسة أميركية. لكن النقلة النوعية التي ستحققها وتخرجها من إطار الفكر المواقف التي تجمع بين التحرر والمحافظة كانت خلال مشاركتها الفاعلة في مؤتمر شيكاغو . لقد ظهرت هذه النقلة النوعية في مواقفها من قضية تحرر المرأة في دعوتها لمشاركة المرأة في الحياة السياسية بعد أن كانت ترى أن دور المرأة يتحدد داخل المنزل والأسرة.
إن الأهمية الخاصة لهذه المشاركة على الصعيدين الشخصي الخاص والنسائي العام أن كوراني أدركت قيمتها كامرأة مؤثرة من خلال الاستحواذ الكبير على اهتمام الصحافة والمنتديات ما جعلها تتحول إلى شخصية مشهورة في المجتمع الأميركي. كما أسهمت في تطوير شخصيتها وأفكارها ورؤيتها حول المرأة ودورها في المجتمع، وهو ما ظهر في دعواتها إلى النهضة الشاملة والمساواة بين الرجل والمرأة وضرورة التفاعل مع تجارب الشعوب الأخرى من أجل التقدم والارتقاء بالمجتمع، وقبل كل هذا أهمية دور المرأة العربية في استعادة حقوقها وتأكيد قدرتها على أداء هذه الأدوار في المجتمع والحياة بنجاح. لذلك يمكن القول إن هذا الكتاب لا يحاول استعادة شخصية بهذه الأهمية وحسب بل هو يعمل على إعادة بناء تاريخ الحركة النسائية خاصة وأنه يحاول التنقيب عن كل ما يخصها في المراجع العربية والأميركية من أجل تقديم صورة متكاملة عنها وعن الدور الذي لعبته في تطور الفكر النسوي العربي في مرحلة كان فيه المشرق العربي ما زال خاضعا لهيمنة السلطنة العثمانية.