رسالة إلى الشعراء
هذا كتاب للشّاعر الأميركي بِنْ لِرْنِرْ صدر عام 2016 يتناول فيه تناقضات وانطباعات سلبية متعلّقة بالشِّعر وحتّى الشعراء. فيظهر تشابه واضح بين ما يكابده الشعر الأميركي وما يكابده الشعر العربيّ. وحسب الكاتب فإنّ مقالات مطولة تصدر باستمرار تحاكم الشِّعر أو تعلن وفاته وتتهم الشُّعراء المعاصرين بتردّي واقع الشِّعر؛ أمرٌ لافتٌ للانتباه إذا قارنا الشّعر بأشكالٍ فنية أخرى.
يتطرق هذا الكتاب لمأزق الشعراء الكبار الذين يصارعون محدودية القصائد التي تخيب آمالهم؛ والشعراء الذين يكتبون شعرًا شديد الرداءة لكنهم يظهرون، حتى ولو من دون قصد لمحة من طاقة كامنة، فضلا عن الشعراء الطلائعيين (المنتمين للحركة الطليعية) الذين يكرهون الشعر لأن القصائد تبقى قصائد ولا تتحول لقنابل، والنوستالجيين الذين يكرهونه لأنه لا يفعل ما قد فعله في الماضي، غير مدركين أن تصورهم عن الشعر في الماضي مغاير للحقيقة.
شعراء يفشلون في كل مرّة
يستشهد الكاتب بتفسير للشاعر ألن غروسمان الذي يرى أنّ الشِّعر يأتي من الرّغبة في تجاوز النّهائيّ والمؤقّت؛ للارتقاء والوصول للإلهيّ اللاّمحدود (المابعد). على أن الدّافع المتقد الذي يشعل الكتابة لديهم ويبدو معه العبور أو التّجاوز ممكنا لا يحقق تطلع الشاعر لما يريد، لأنّ الذي يتحقّق، أو القصيدة الفعلية، إنما تصطدم بحدود اللّغة وما تفرضه من منطق.
هذا التفسير يجعل من الشّاعر كائنًا تراجيديا، إذ تصبح كلّ قصيدة فشلاً جديدًا يستحيل الانتصار عليه مادامت مادّة القصيدة متأصلّةً في العالم الذي يريد الشّاعر تجاوزه. القصائد لا تجعل الشّعر وما يُراد منه فقط صعبًا بل مستحيلاً لكّنها قادرة على خلق مساحاتٍ تُحرِّرُ الوجدان وتخلق التّواصل والالتقاء والانتقال. وهو ما يتناسب تماما مع قصيدة ماريان مور في مقدمة الكتاب والتي تعزّز وجهة نظر غروسمان “أنا أيضا لا أُحبّه/لكن مع ذلك عندما يقرأ المرء الشِّعر، بازدراء كامل/يكتشف في النهاية، مساحةً للأَصْلِيِّ فيه”.
الشعراء يخذلون القراء
يذكر الكاتب من تجربته كرئيس تحرير مجلة صغيرة للشعر والفن في بداية الألفية أنه كان يتلقى عددًا ثابتا من المراسلات من أشخاص، كان من الواضح أنهم ليسوا متابعين للمجلّة لكنهم كانوا يعبّرون في رسائلهم عن رغبتهم اللافتة واليائسة في الانتباه إليهم، في أن يروا قصائدهم منشورة في مكانٍ ما. في عشرات الرسائل كان “الشاعر” المعنيّ بالأمر يشرح بأنّه يعاني من مرض مميت وأنّه يريد رؤية قصائده منشورة قبل وفاته، وفي عدد منها تكررت الجملة نفسها “لا أعرف كم يتبقى لي من الوقت”. بعض الرسائل التي وصلته كانت أيضا من مساجين امتلكوا الإحساس بأن نشر شعرهم هو الطريقة المثلى ليُثبتوا أنّهم ليسوا مجرد مجرمين؛ بل كائنات إنسانيّة أيضا.
يرى الكاتب في ذلك دليلاً على قوّة العلاقة الضّمنية للشِّعر بالاعتراف الاجتماعيّ بإنسانيّة الشّاعر. إذ أنّ الأمر في الحقيقة لا يتعلّق فقط بالقصيدة ونشرها بل بكون الشاعر سيُعْلِمُ ويعلن للآخرين أنّه شاعر نُشِرَ له وذاك تميُّزٌ لن يقدر أحدٌ، لا الموت ولا المجتمع بعد الموت ولا القانون على انتزاعه منه.
الشِّعْرُ يجعل المرء مشهورًا حتّى من دون جمهور؛ نوع من الشّهرة المجردة الأوليّة التي تثبت للفرد قيمته. اسمه المنشور في مجلّة، وإن كان لا أحد من معارفه يمكن أن يقرأها، يخلق له احتمالاً بأن يكون اسمه مذكوراً، ويعزّز قوله بأنّه شاعر ومن المحتمل أن يتعرف عليه آخرون بتلك الصفة.
هناك تناقض واضح في التصريحات السلبية المتعلقة بالشعر، بالمقارنة مع الإقبال عليه ومحاولات كتابته. فبالرغم من الأحكام المستهزئة والإدانات التي يصدرها قرّاءٌ وكتّاب عن الشّعر فإنّ من يخوضون تجربة كتابة الشّعر لا يتناقص عددهم، فالذين يحاولون انتزاع الاعتراف بهم كشعراء لا يُستهان بأعدادهم، خاصة مع انفتاح الفضاء الافتراضي، ويسر إنشاء الصفحات الشخصية الإلكترونية.
أفلاطون الشاعر
كان أفلاطون من أوائل المترافعين ضد الشّعر، وكان يرى أن لا مكان للشِّعر في المدينة الفاضلة لما فيه من تلاعب بالحقيقة، ولكون اللغة التي هي وسيلة الفلسفة في كشف الحقيقة يجب أن تُحْمَى من الشعراء. وقد تبعه سقراط في التساؤل عمّا يُسهم به الشّعراء وعن دورهم. الكاتب بن لرنر اعتبر سقراط شاهدا على أنّ الشِّعر لا يستطيع أن يعبّر بالكلمات عن حقيقة العالم، وأفلاطون الشاعر الأقرب من الشِّعر لكونه ظل يرفض القصائد الفعلية ولكن حواراته كانت تجنح للطابع الشعريّ. تجدر الإشارة هنا إلى كلام غاستون باشلار ومديحه للشعر مستشهدًا بمقولة أفلاطون “أكبر الأفضال تأتينا من جنون تمنحنا إيّاه موهبة إلهية”، بما في الجنون من تخيّلٍ ورؤية مغايرة لما يراه الجميع. وباشلار يعتبر الشّعر أحد المسارات الإنسانية الأسرع والأكثر استقامة وبأنّه مجدّدٌ للخطاب اللغويّ إذ يدفعه نحو آفاق جديدة.
الخطاب الذي تحتاجه الفلسفة، كما الشِّعر، هو ذاك الذي يصل الفرد بنفسه وبغيره.
يمكن النظر إلى هجوم أفلاطون على الشّعراء بوصفه دفاعاً عن الشِّعر، إذ يبقى الشعر أعلى من القصائد وغير متحقّق تماما، ما يعيدنا إلى إحساس بعض الشعراء بأنّ القصائد هي مشكلة الشِّعر القاتلة. لا يفوت الكاتب أن ينبهنا إلى ذلك الإعجاب الكبير الذي يكنّه كثير من الشعراء لزملائهم الذين توقفوا مبكرا عن كتابة الشعر، كأرثر رامبو، أو الشعراء الذين اختاروا أن يدخلوا في فترات صمت طويلة.
صورة مثالية
يعبر كثيرون عن خيبة أملهم في شعر لا يغيّر الواقع السياسي، أو لا يعبّر عنهم بما يكفي، ولا يوضّح صورة العالم المشترك بين البشر بشكل أفضل من المتوقع، كما قد يجلد النقاد الشعراء بتهم كعدم الارتقاء باللغة، أو فقدان الجمهور، وتركيز الشعراء فقط على ذواتهم. لكن كلّ هذا يصدر عن صورة مثاليّة يريدها المرء للشِّعر، مما يولّد في الإحساس خيبة الأمل أو الكراهية من باب الدفاع عن الشِّعر والمرتبة السامية التي يضعه الناس فيها.
يبقى الشّعر يشكل تحدياً للشعراء والقرّاء معا بما يشيعه من حاجة إلى تبديد الضباب بين ما هو فعليِّ متحقق في القصيدة، وبين العبور جهة الافتراضيّ لاغتنام مساحات تخلقها القصيدة بكلّ ما تسمح به وما ولم يكن مُتاحا من دونها. إمكانيات سبق موريس بلانشو بن لرنر في الحديث عنها حين قال في كتابه “حصّة النّار”، “القصيدة لا تكون أبدا حاضرة، إنّها على الدّوام بجانبِ أو فوق. إنّها تُفلتُ منَّا لأنّها إلى حدٍّ ما صورة لغيابنا أكثر منها تعبيرا عن حضورنا، لكونها تشرع في خلق البياض وتنزع الأشياء من نفسها، وتغيّر الأشياء بلا توقّف حتّى تُظهر ما لا يمكن إظهاره وتقول ما لا يمكن قوله”.
اللعب والخلق
يعيدنا الشاعر/الكاتب بجمال إلى عوالم الطفولة وبداية علاقتنا بالكلمات، وهو أمرٌ كثيرا ما يغيب عن الذهن؛ إذ تعتبر الكلمة أولى اللُّعَبِ التي يمتلكها الطّفل، يلعب بها ويجرّب من دون خوف. يستكشف معانيها وينتبه إلى الأثر الذي تحدثه فيه من خلال انفعالات الآخرين، تأثيرها ووظائفها. إنّه يشير إلى ما يفعله الشاعر بالكلمات إذ يجعلها تشعرنا بالمسافة والمساحة التي تخلق، وإن لم تؤدِ إلى ذلك التجاوز كما يطمح شاعرها.
يختم بن لرنر بأنه كتب دفاعا عن لائحة اتهامنا وأنّه يتمنى من الكارهين، وهو يعترف أنه واحد منهم، أن يطمحوا إلى تجاوز ازدرائهم وتوجيه طاقتهم نحو القصائد كي تتعمق، بدل أن تُطْرَد، بذلك قد تتحقّق لها مساحة مبتكرة لتخلق ذلك الكامن المجهول ولحضور الغيابات، فتشبه الحبّ.