رشفات أرجوانية

29  قصيدة
الاثنين 2021/02/01
لوحة: أمل بشير

أنتَ ابني الآن

أنتَ ابني الآن، أنا أبٌ. كان أبي أباً، كنتُ ابناً لأبي. كلانا كان يقضم حبّات رمّانة حمراء واحدة، من جهتين: حمامة كبيرة وعصفور هش. جهتكَ اليوم شمسٌ، جهتي عتمةٌ. المنطفئُ مضيءٌ والآيلُ مرآة. والآباء مسبحة تكرّ كالنهارات، كالأموات يا بُني.

 

احفرْ بصبرٍ

احفرْ بصبرٍ. تجدْ بعد شبرٍ حَجَراً مُبقّعاً، كأنه وَزَغَة، احفرْ أعمق قليلاً في رطوبةِ الترابِ الحيِّ بأصابعك المُرتجِفة، تجدْ جذراً يابساً مُغطّىً ببياض الكلس، هذه ملوحة يَتذوّقها الأمواتُ، احفرْ بعيداً بأظفرك المُشِعّ، تُشِعّ الحافةُ، وتُضيءُ القصيدةُ.

 

العصافيرُ لا تشيخُ أبداً

العصافيرُ لا تشيخُ أبداً. إنها تموتُ فحسب بسعادةٍ، قافزةً من نقطةِ ضوءٍ إلى حبّة رزٍّ، من الأعلى إلى الأدنى، من القريبِ إلى البعيدِ، دونَ توقّف.

 

في آخر الليل، أخذتني البنت الغريبة إلى أيكةٍ

في آخر الليل، أخذتني البنت الغريبة إلى أيكةٍ، تحت جسر من جسور “الرون” الخارج من المدينة إلى مخدعه، وقالت:

خُذني كما تأخذ الظلام،

وقبّلني كما تُقبّل حجراً كريماً،

واجرحِ الجرحَ، كمثرايَ التي نضجت أكثر من نجوم هذا الليل،

وغُصْ في الغابة أعمى، وعُد أعمىً وفقيراً.

 

لم نزل نبكي على جثةٍ، حتى عرفنا أنها جثة الليل

لم نزل نبكي على جثةٍ، حتى عرفنا أنها جثة الليل المسجّى في ورديّ الفجر، ولم نكن نعرف حتى حينها أن الفجرَ ورديٌّ، ثم عرفنا، فصارت دموعنا وردية وفجرُنا أخاً بالتبنّي للظلام.

ألا أيها الليل الطويلُ ألا انجلي – بصبحٍ وما الإصباحُ منك بأمثلِ

 

نزيلُ الفندق سيُغادِر

نزيلُ الفندق سيُغادِر، سيغادر النزيل نهائياً، تاركاً البلبلَ في قفصِهِ الأنيق يُغرِّدُ عند المدخل، تاركاً بعض الخِيار الطريّ عند النافذة. تاركاً ظله على بياض باب الغرفة، لا أمل لقصائده غير المكتوبة بعد في ارتعاشات كفّه.

 

ليست رغبةً للريح باختطاطِ كلمةٍ ومحوها

ليست رغبةً للريح باختطاطِ كلمةٍ ومحوها، بل دافعاً للورقة للخروج تحت الشمس. الكتابةُ كفٌّ مُرْتعشة تختطّ هيروغليفيا مُحاطَة بالعناصر الأربعة والفصول الأربعة، بصرخات الحياة حديثة الولادة وصوت الفاني المترنّم:

على ألَمِي تنامُ القُبَّرهْ

مُضِيءٌ خَطْوها المُتحيّر العجوزْ

هديلُ القبّرة الثَّمِلُ المِعْوَزْ

يُنوّمُني على أزهار أفرشتي الفقيرةْ.

 

ما زلنا نطرق بحجر الفلاسفة على أوراق المعجم

ما زلنا نطرق بحجر الفلاسفة على أوراق المعجم، فتصير صفائح من الضوء. تصير الكلمةُ خبّيزة تتكئ على التراب وترتفع قليلاً لملاقاة نفحات الصيف. ما زلنا نَلْثم بأطراف شفاهنا حجرَ الفلاسفةِ، فيصير هواءً ثم ذَهَبَاً ثم شِعْراً ثم نافذةَ مفتوحةً على نافذةٍ. صَيَّرَنا شبكةً للعنقاء، ساريةً من رمادٍ، فجراً مشتعل الأطراف. حجرٌ يضرب اللغة فتقدح، والأفعال فتشطح، والأسماء فتتساقط كالأسنان اللبنية.

الشِّعْرُ حَجَرُ الفلاسفة.

الشعراء خيميائيو العصور المواظبون على صنائعهم.

 

نُقبّل جبين الحبيبة، لنتأكد أنها تمتلك جمجمة مثل جماجمنا

نُقبّل جبين الحبيبة، لنتأكد أنها تمتلك جمجمة مثل جماجمنا، نحتضنُها كي نتيقّن من أننا لا نحتضن هيكلا عظمياً. أناشيد الحب لها، كي نُؤبِّد الفاني في اللغة.

 

لكمْ أحببتكَ أيها القوسُ

لكمْ أحببتكَ أيها القوسُ، فأنتَ ترفعُ حجراً على عَدَمٍ. أنت معقود الحاجبين. أنتَ الذي تُدْخلنا في سديمٍ كي نَخْرج إلى دائرةٍ. سيّدي أيها القوسُ قوِّسْني مع هواءٍ تتأرجحُ فيه. دوّرني في نورٍ ننامُ إلى الأبد فيه.

 

الوردةُ أيضا مُكبَّلة بالزمن

الوردةُ أيضا مُكبَّلة بالزمن. الجَمَال محمولٌ على محفّات الهواء، نوره يذوي حينما يشتدّ الضوء. شوك الوردة أكثر بسالة من سلام الوردة الذي يُؤبِّدُها في ذاكرة الحقل.

 

ها هي الجَرَادة عسليّة العينين، من جديد

ها هي الجَرَادة عسليّة العينين، من جديد، وثّابة المسافات الطويلة، أدنى صفرة من ليل المجاعة وأغمق قليلاً من حنطة الخبازين، تلتهم الأخْضَرين على جانبي الزمن. تائهة بين الفلفل الحلو والهندباء، بوجه بومة وفم حصان مُهدّم ورايتين ممزقتين، مهاجرةً مثلك دون دموع من قارة إلى أخرى.

 

مطرقة المَحْكَمة من خشب الجوز

لوحة: أمل بشير
لوحة: أمل بشير

مطرقة المَحْكَمة من خشب الجوز، ورقاب القضاة من خشب الزيتون. ضربة واحدة فيتطاير الذباب من صحن الحلوى. كلمة واحدة فيسقط ستار أبيض على وجه غراب أسود. الطائر المُحوِّم في حمرة الشفق يذهب لسماع تصادم الماء بالحصى.

 

نذوق الشِّعْر لِمَاماً، كما نذوق طعم السكاكر

نذوق الشِّعْر لِمَاماً، كما نذوق طعم السكاكر الذي ننساه بعد قليل، كالسكاكينيّ الذي تَنسى أحلامُه التماعَ الشفرة الموسومة بالخيط الأحمر. نتذوّقه كما نذوق غُسَيلتها السوداء، كما طعم المروءة التي لا وجود لها إلا في معجمنا.

 

ذَهَبُ القصبِ يرتعشُ على سيقان الربّات

ذَهَبُ القصبِ يرتعشُ على سيقان الربّات اللواتي ارتعدن لذةً في غابات القصب مع الصيّادين، تحت فضة القمر. ثم خرجن مبللات بالرافدين، الحوراء ها هنا والقمراء، وفي الظل الممدود تنام الزهراء. ينسجنَ الضوءَ شراشفَ، والظلماتِ ستائرَ، وصياحَ الديكة مساميرَ لثيابهنّ.

 

ساط الطاغية ظهورنا كي يعمينا في ليل الشمال

ساط الطاغية ظهورنا كي يعمينا في ليل الشمال، المطر يسيل من جروحنا القصوى على ظلمات غابةٍ التنّوب، بينما تجتمع الأغصان غربالاً للرذاذ الساقط على الحافات الصخرية والخدود. لقد نذرنا شموعنا لنور الرب الخافت على الشرفات.

النجمة تتلألأ وتسيل من عيوننا.

 

أنا من قبيلة الخروف الأسود

أنا من قبيلة الخروف الأسود، وأحمل قناعاً أبيضَ مزركشاً بأزهار خشخاش الأفيون، بعينين ناعستين، وفم التنّين. يا لجَمالي في مساء المراعي وأنا أنظرُ في بِرْكة النار التي تمنحني، إضافة إلى ذلك، طَفْح بشرة أخي الخروف الأبيض، بقناعه الأرجوانيّ والحشيشة الخضراء في فمه المُزْبِد. انتظرنا، كلانا، طويلاً على التل قدوم قطعان ذهبية تغزو هذا المرج.

 

أرتعشُ، في شيخوختي، كعصفور واقفٍ على الشرفة

أرتعشُ، في شيخوختي، كعصفور واقفٍ على الشرفة، مضروبٍ بالصاعقة، يخشى الوقوفَ ويخشى السقوطَ. حفيداتي الصبيّات مثلي أمام عشّاقهن. حبيباتي الميّتات مثلي أمام صُوَرِهنّ. كلنا نرتعش، برُكُب ميكانيكية وقلوب بلاستيكية.

 

الكثير من الحمقى في هذه الحانة، يتبادلون الابتسامات

الكثير من الحمقى في هذه الحانة، يتبادلون الابتسامات دون مناسبة. ثمة فيها فحول تحمحم من على الطاولات، تُلقي بأزهار الستارة على الخصلات، الملمعة لربّاتٍ لا وجود لهنّ إلا في ظلمة المدخل. ثمة الكثير منهم عند الباب وفي المبولة اللذين لا يكفون عن الابتسام في فضائهما.

 

وصلنا أخيراً الى بداية المَصبّ فانقطع الخرير

ماذا نفعل حبيبتي؟ وصلنا أخيراً إلى بداية المصبّ فانقطع الخرير. ليس إلا خرير النجوم بَعْدُ فوقنا. ليس إلا حفيف أوراق الشجرة وهي تتساقط قربنا، أعني الشجرة. ما الذي سنفعله بعد هذه الجولة الليلية سوى أن نُقبّل رقاب بعضنا، من أجل بعض الدفء، وننسى بأننا نُقبّل هيكلاً عظمياً.

 

اجتزتَ يا بُنيّ، سنيّكَ العشرين سريعاً

اجتزتَ يا بُنيّ، سنيّكَ العشرين سريعاً، كما اجتاز طائرٌ حقولَ الزارعين. اجتزتَ الثلاثين فقلتَ شيخوختي الخضراء الموصولة بأبنوس عصاي ألهو بها وأهشّ الذباب الذهبيّ، وحسبي الثلاثون. لكنك اجتزتَ الأربعين، رغم ذلك، بعروق زرق تُزَخْرِف رقبتكَ، بل ارتقيتَ الخمسين يوم صعود الروح من المرقى نفسه. وها أنت تجتاز الستين على ستين درجة مضاءة بستين ظلّ، ولما تزل بَعْدُ، يا بُنيَّ، تحتاز حقول الزارعين.

 

حبيبتي قَبْل ثلاثين عاماً

حبيبتي قبل ثلاثين عاماً، تخلط اليوم بيني وبين رَجُلِها. امرأتي القديمة تُقدّم زهرةً لظِلي الراهن، تكتنف وجهي بيديها السائلتين كأنها ترفع مزهرية من الصلصال. تحتضن رائحة مخدّتي المخلوطة بروائح دخان زريبة الأحصنة. كلانا يلمح شبحاً في عيون رفيقه، كلانا يرى آخر سواه في سريره.

 

الصَّقْرُ والحَمَلُ ينطلقان في الأفق المفتوح

الصَّقْرُ والحَمَلُ ينطلقان في الأفق المفتوح، الأعلى والأدنى، نحو الهدف الواحد للحيّ: الفوز بديمومة الشمس. يضرب الأعلى الهواء بمخالبه، والأدنى يضرب التراب بحوافره، إمعاناُ في الرعب والشجاعة.

 

زهرة مرسومة بالألوان المائية

زهرة مرسومة بالألوان المائية يمكن أن تَمّحي، أو تتحوّل وحشاً بقطرة ماء زائدة، يمكن أن نستمتع بالبكاء حتى يصير شهقات المُغرق بالضحك، في مأتم الأبدية، حيث تختلط الألوان دون ضوء، في حفرة المَحجر الذي لا حواجب فوقه بعد.

يا لجملة الوجود الطويلة.

 

نتشبّثُ بقَدَم التابوت الخشبيّ القصيرة

نتشبّثُ بقَدَم التابوت الخشبيّ القصيرة، كأننا نتشبّث بقَدَم الله. ننعى، أنفسنا بصوت خشن، للجلالة الخاطفة مع العصفور فوق النعش في صباح مألوف. نرفع التابوت من قدمه عالياً، عالياً قبل الحفرة، ونودّ تقبيل أصابعه الجليلة قبل ذهابه إلى النوم.

 

لم أتعلّم من تجهّم الموت شيئاً

لم أتعلّم من تجهّم الموت شيئاً، سوى المفاكهة. عبثاً عفّر الخدّ في أوْجِ حمرته، عبثاً قَبَّل الحسناء من ثدييها، عبثاً التهم عنب النبّاذين، عبثاً مزّق شراع النوتيّ العائد لمنزله. عبثاً كان يتكلم عندما صمت الآخرون. عبثاً بالَ على ضوء القمر. عبثاً باضَ في سلة الوجود. عبثاً صعد مع الأنبياء في مرقى واحد ليقتلهم. عبثاً طمر أسنان الآنسة الفارعة في حفرة الأفعى. عبثاً مسخ الحكمة بوماً في الخرائب، عبثا محا الجَمَال ببصاقه. عبثاً خنق العشّابين والزيّاتين والمشّائين والصيادلة والفاكهانيين.

وهو يغني: النار فاكهة.

عبثاً، عبثاً، عبثاً.

 

وضعتُ رمّانة منفلوطية على قفل بابي

وضعتُ رمّانة منفلوطية على قفل بابي. ركّبتُ رتاجاً زهرياً لغرفتي المحروسة بالضياء. وبظلال الأجنحة المارّة أغلقتُ نافذني، جناحاً لصق جناحٍ وريشةً قرب ريشةٍ. لكم كنت سعيداً، السعيدُ بليدٌ، والسعادةُ صنو البلاهة.

 

تشربُ النبيذَ، هذا اليوم، وحدكَ

تشربُ النبيذَ، هذا اليوم، وحدكَ، رشفةً أرجوانيةً أثر رشفة، حتى يكتمل سحاب المدينة حواليك، وفوقك، وتحت إبطيك، فتبتسم بشفتين قانيتين، وتضحك بعينين عسليتين. تباً لكَ، وحدك.

وحدك في هذه الحديقة

وحدك في هذي الحقيقة

وحدك رغم يد الله الموضوعة على ظلك

كأنها تمحوك، هذا اليوم، وحدك

 

جرثومٌ مُتوّج

جرثومٌ مُتوّج يهيمن هذا المساء على المحطة القديمة: القطار الصاعد فارغ، والقطار الهابط خالٍ، إلا من ظلّ رجل ماش في عربة. المساء يرتعشُ على المدخل المزخرف حيث رافعةُ البناء ذيل عقربٍ معدنيّ يَلْسَع الهواءَ فيسكتُ، ويبهتُ المُشرّدون على الرصيف أكثر تشرُّداً مما مضى.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.