رعدُ المجرة الأقدم
في مرتع القش أتخمّر
(الفصل الأول ملحمة “باطن منكب التيس” التي حصلت على الجائزة الهولندية الكبرى “هرمان دو كوننك” Herman de Coninckprijs)
فزعا ارتفع الجدار الضرير في ذلك الشارع،
واجهةً جانبيةً لزريبة أصبحتْ طللاً.
لم أبصرْ إلا بمرور الوقت الظلّ الذي رماه، والشعارات التي على جلده المُفتّت.
صفائحُ، صناديقُ مبتلة داهمها النوم قريبا من قدميه،
منشوراتٌ مهملةٌ، بساطٌ بشظايا زجاج.
خزان صرفٍ صحي كنتُ أشمّ، صرير حياة كنتُ أسمع.
دعامات تسند أساسات البناء.
من ذا الذي فطن للنوافذ إذ تهالكت، من ذا الذي أغلقها بالخرسانة الخفيفة؟
على حافة عنقي،
عرّشتْ هدأةٌ للتو. ذلك كان هو الجدار. حجمه
استثار شيئا ما. كان على أصابعي
أن تنزلق وسط تضاريس الطابوق، حِتار الأظافر تمزّق على صفحة البناء. هزّني الشوق
إلى غارةٍ ليليةٍ بحثا عن طريدة، إلى إغلاق البوابات، ثم العبور تحت جسر السكك،
والانطلاق في المطر المنهمر.
أما “الصموت” فليس له أن يعرف أي شيء.
في تلك البقعة القفر،
بعد حين، رأيتُ كائنا يحيا هناك، ويحتجب في الداخل
كل جمعة. كمن يطرد أرواحا شريرة، هكذا بدا.
باستمرار كان ثمة شيء يصدّني.
ذات ظهيرة
رأيته كيف يومئ للطيور. إشاراته
ضخمة مهيبة ولكنها مهذّبة. فوق السطح
المتصدّع رسمتْ الطيور حلقاتٍ على الهواء. كان يلزمها
البحث عن القوت، تماما كمثله، إن شاء الله.
ما بين ارتعاشات ضوء
الربيع مدّ لي يدا.
أذرع الأشجار تدلّت عليّ. حرارته
التهمتني كشعلة تلتهم تفاحة.
إلى البيت
كنتُ مضطرة للعودة. للأيام الطيبة قواعدها.
لا بدّ من إنجاز الكثير قبل إرخاء الظلام السدول.
تبعني نداءٌ منه.
ولمّا استدرتُ
هيمن منظر شعره الهائج عليّ.
بحضرة شعره
انهارت دفاعاتي. من شعره تفوح رائحة دبس وأربعون يوما
من الكرى. تجنّبتُ ملامحه العابسة
وتنشّقت تبغه.
ضعيفة كانت مقاومتي إزاء شعره.
ففي داخله كنت أتيه. اشتهيت فقدان الاتجاهات
في قلب تلك التعاريج. تجعيدات شعره جعلته يبدو
شجيرة ملتاعة، وأنا أمسّدُ
الغرس المتخمّر ذاك بأناملي.
حافات أظافري الحالكة زمجرت، أنشبت نفسها
في العفن.
كل الذنب ذنب شعره.
كل الإجبار أجبرني باطن المنكبين.
ثمّة ما يُمضغ، ما يُخمّرُ في صندوق القش،
هكذا وجدتُ نفسي في عالم خارج جسدي.
فحم بناتي وأغصان واجمة عبأت ثغوري.
أحراشه كانت بحاجة لتشذيب هائل، إنها كثيفة جدا، حالكة جدا، وبدا كأني أنا التي أضحيتُ أحراشا.
لكن
ما رأيته، بثّ المخاوف بي: كان لسانه
فاحما كفجل أسود.
كل الذنب ذنب عصارة المرارة.
أقداحا منها كان يرتشف ليلا، ممزوجة بأعشاب لا يعرفها أحد هنا. لا يشمّها أحد.
وإذ كان الكرى يستحوذ على الناس، كان يلوذ بأسطح منازلهم.
أغصانٌ طفقت تلوّح من بعيد. تؤدي له التحية
تفرش الظلال أمامه.
حيثما كان،
آه، كان عليّ أن أقتفي اللون البرتقالي،
وخزات دبابيس تبغه. حيثما خفقت أنفاس الكحول
دخلتُ.
متبخترا بردائه الصوفي
كان يأخذني بلا مناسبة، إلى سلّم عار.
يمسك بيدي كأنني طفلة.
ظلامٌ دامس. لو كان لهذا الفضاء نوافذا
فهي حتما نوافذ أُلصقت بشيء
لا يستطيع التنفس.
استعلمته
إن كانت العتمة هذه ضرورية حقا. كانت له كلمات حادة:
“في الظلام يرى المرء ما يريد أن يرى”. تحسسنا طريقنا في ممر.
وكان فضاءٌ إلى جانب يدي اليمنى.
ما بين تراقص أخيلتنا
في الغرفة طالعني غسيل في نزعه الأخير، ظلال
أشجار في قارة قصية. ما الذي
خبأه هنا؟ لحظتها أخذ بزمام يدي.
لم أشعر إلا بما هو رقيق. هناك ابتدأ شيء
قطني. لقد امتدت، وسادةً، وفي إبطيه أوقعتني في شباكها كثمرة من لحم.
باب الأسئلة أغلقتها
في حفرته سقطتُ وحيث من غياهبها انبثقت بلاد.. اسم البلاد غانومي.
ساخنا
كان.. ناعما نديّا لا حدود له، وساداته أضحت أمواجا بها أيائل سابحةً،
خيولا خائضة، وقد أخذني إلى بقاع
يشبّ فيها غمامٌ وبخار. تستحمّ فيها أفواج حريم
بالزعفران.
“لا تضعي حسابات ولا خرائط.
احبسي أنفاسك. ستجري الأمور من تلقاء ذاتها”.
من عمق الأرض انبثق صوته.
من الجذع، اللحاء، الفتحة. من حيث انبثقت مغارة أرضية، سلّم من جذور، هناك في الأسفل،
من حيث نشأت الحياة يوما، حيث نشوء النماء
وإلى حيث سنرحل يوم نرحل. نعم، في الأسفل
من هناك انبثق صوته.
كلّ الذنب ذنب صوته
“اتركي بحق السماء كل هذه الأفكار.
أنت ملكٌ فقط لنفسك وقدرك.
عيشي وانظري، طيّعا سيمسي العالم.
ملكةُ غانومي أنتِ”
حتى الآن لم تجر الأمور بعفوية.
يا ما عدت مجفلة للبيت، وعلى الدوام كان “الصموت” بانتظاري هناك. سبرتُ أغوار عيني، سترتُ بصري.
حموضة معدتي اجتذبت حلقة من الماء الأجاج.
جنينة الروح والمقام الموسيقي
ها قد غدا المسار جاهزا.
البئر التي عليّ أن أنزل فيها
جدرانها شديدة الانحدار.
وقد اصطفيتك
كي ترميني فيها.
إنّها واقعة وراء الجنينة،
خلف شجيرات الأزاليا.
أهلا وسهلا،
يا صديقي الحبيب.
أهلا وسهلا،
يمكنك المجيء إلى هنا متى شئت،
في المستقبل أيضًا.
خذ الماء الذي أملك.
خذ النوم الذي أملك.
ما عادتْ بي حاجة إليهما
طالما أنك لديّ الآن.
في جنينتي ينتثر صوتك
نكهاتٍ للقنابل والتوت الشوكّي،
ستائر غريبة الأطوار تمسّد لي دائما.
أنت تغنّي مقاما إثر آخر
مثل مبخرة
في شمس سبتمبر.
وتدندن لي بضبابية
عندما تنصب الفخاخ
حيث ستلتوي مفاصلي داخلها، وقد أعماني
الارتياع من فقدانك.
أنت تضع أقماع الغيرة المخروطية
ودوارق الوحشة/الوحدة
بين فطر الشانتريل
وزهرة “الألف جمال”
وتطلق تهويدةً لتستدرجني.
خلف أحواض الزهور،
تفوح بشدّة رائحة مكبّ النفايات:
بقايا أنسجة دماغ
وبُطينين مهملين.
فراشات الكرنب البيضاء تهفهف
مباشرة من خلال انبعاثات كربوناتك.
وعندما أصيخُ السمع
أسمع لون رئتيك.
يا صديقي الحبيب،
ألقِ/ارمِ بي الآن،
الآن.
معطف الحِداد
في غرفتي أجلس
موشّحة بمعطف الموت.
إنّه ما زال يحمل دفء جسدك.
منه تفوح
رائحة شجونك.
رائحة رحلات تشردك.
رائحة نشواتك الجنسية.
رائحة استنطاقاتك.
لكنك لم تعد هنا.
بعد قليل،
عندما أرحلُ أيضًا،
قد تنبعث منه رائحتي.
رائحة جُبْني.
رائحة تقاعسي.
رائحة طلاء أظفاري و
فطائري المرشوشة بالعسل.
آه، يا معطف الحداد، يا برقع النعش
المخصّص للانسحاب من مساحة التنفس هذه،
حيث لا يزال الكثير مما يستوجب استكماله
في ظل ما لا يُحصى من الظروف.
آه، يا معطف الحداد، يا حجابًا
لذاك الزمكان المجهول
حيث يتفجر الدخان زهور توليب فوضوية المنظر،
حيث يتدفق النبيذ من أقبية في تشكيلات سحبٍ أرجوانية،
حيث الحب “أبيض مثل فسفور النابالم” يهيّج النار في عضوك الجنسي
فلا تخفت أبدا.
أجلس بين جدران خرسانية
تسخر من الإنسان
في بحثه عن المعنى.
لهذا أسألك،
يا عظمةَ جماجمنا،
يا عظمًة جبهيًّة، يا عظمًة أماميًّة،
يا دماغ ماتريوشكا ([1]) المعوجّ،
احتضنّا
مثل سقف معبد الآلهة البانثيون.
حوّل السرير المربّع الراكد لأدمغتنا
إلى مداخل تعجّ بأعمدة مقوّسة وقبابٍ وثّابة
حيث، بلا حساب، نقبّل بعضنا البعض من الفم،
حتى تهطل رعدا في المجرّة الأقدم
التي تنكّرتْ لنا بهيئة ضفدع أزرق
نائمًا تحت معطف أزرق في ليلة باردة.
جسدٌ يتوق إلى ثغرة وإلى بَصِيرَة هايدغر
أن يكون المرء قادرا على ركل رأسي.
أن يكون المرء قادرا على انتزاع شفتي.
أن يكون المرء قادرا على نهب كليتيّ.
ذلك ما أخشاه.
تارةً، وددتُ لو أكون غبارا.
متناثرةً، لا أنفصم، في كل مكان، بلا ملامح،
غبارا يجلجل، ساطعةً، كابيةً، أو كما تبغي،
خليلة خفيّة لكل ذي حركة،
حاضرة دائما بعينين تخلوان من البريق،
لا-دازاين-حاضر ([2]) في هواء طليق،
متوهجة، لا يمتلكني أحد، غير قابلة للاندحار.
في السكون المعشعش في غرفتي
أشعر بالطمأنينة. هنا لا أثر حتى لذبابة.
ربما ثمة حشرة سمك الحائط أو حشرة سمك فضي بمجسّات استشعار أمامية وخلفية
بيد أنني قادرة على التعايش معها.
القذائف لا تنهال في رقادي.
ولا في رفوف مكتبتي الموسيقية.
أنا لا أبالي بدعوات الملذات.
أنا أرقص بشكل أجمل عندما أكون ميتة،
انظر، كيف تتراقص غيمة الغبار تلك، شقراء
وراء زوجٍ من العجلات.
قد يكون الألم هو الحقيقة الوحيدة.
وقد لا يكون أفول الألم سوى خدعة.
أراه واقفا بين البقايا.
يتصاغر وجهه، لأسباب مجهولة،
لكن بشرته تغني كالسهوب في أيلول.
العالم غادر.
في غيابه
يطنّ الذباب في كلسوني.
في أوار الجمر ورائحة الكحول
تنبعث منه وبشكل لا غرابة فيه
رائحة تفاح شهي
في بستان ما، في مكان ما.
لقد انزويت في صالون بيتي أكثر مما يجب.
من خلال النافذة أنظر
فلا أشاهد قطاع طرق في الشارع.
أرمي بالآلام التي أعرفها
على الأرصفة.
فوقي تنتصب كاتدرائية المساء الجوفاء
في أسراب فاتنةٍ من رذاذ المطر المتلألئ،
ثمة شلالات من بغش الغيوم، تدوّم.
بينما هو يرمي عينيّ بعينيه.
أدرك ذلك جيدا، عندما أنظر في عينيه أصبح على حافّة الخطر.
ففي عينيه يقيم الشيطان – الشهيد
وفي عينيه تقيم بهجة الآلاف من ألف عام،
مكثفةً ونابتةً في غصن غضّ، في ثانية واحدة.
أسائل نفسي فيما لو كان الألم والبهجة مرتبطين بعشق سرّي.
أقول له:
أنا خائفة.
لماذا، يسأل، دون أن يدرك الأمر.
رغم أنه باح لي بالسبب للتو:
“للأرض نافذة مشرعة
منها أتطلعُ لليقين”
أرى ذلك في عينيه:
إنّهما تلتمعان كبرميلي نفط خام.
تنشقّتا المرارة في جسد الليل.
أبصرتا القاع.
لقد كانتا يوما مغمورتين في محبرة الهجّاء.
قبّلتا الأرامل السوداء، العناكب.
وهنّ جذلات في آن.
في عينيه تسكن بهجة الآلاف في ألف عام،
مكثفةً ونابتةً في غصن غضّ، في ثانية واحدة.
إنهما ترشّان مهرجانات كاملة التألق، ومسرّات، وتجلٍّيات، وهيبة.
منتشيا يصيح ديك في مكان ما:
يا للبهجة يا للفرح! يا للبهجة يا للفرح!
في عينيه ثمة كائنات لا أعرفها
تمارس ببهجة شديدة أعنف طقوس الفجور.
وفي عينيه، مناجم فحم حجري نَدِيّة،
في قلب الأرض الأخاذ المعتم،
انطلقنا نرقص دبكات شعبية.
رقص – رقص
رقص – رقص
رقص – رقص
يهبط منسوب التأمل
عبر الجهاز التنفسي الميكانيكي في رئتيّ،
عبر جهاز كبح الصدمات لردفي ([3])،
عبر جهاز الفرملة لربلتي ساقيّ.
الأبدية هي إقلاع الغبار،
وهبوط في الجاذبية.
إقلاع الغبار،
هبوط في الجاذبية.
ارتشاف العواصف الرملية.
حبّات رمل نحن.
نحن نرقص.
هل كان رقصا؟
لا.
هل كان عنفا؟
لا.
هل كان جنسا؟
لا.
إنه ليس سوى الخلود.
زفاف/هروب ملكة النحل
أيامٌ غفيرةٌ مرّتْ
وحيدةً في البستان،
رفقة الحجارة،
والواي فاي، والجيل الثالث 3G –
والجيل الرابع 4G في بعض الأحيان، لو حالفَ الحظ.
لكن ذات يوم
أقبلَ فتىً صحبة ترومبيت
وجلس
على الصخرة المحاذية لبواباتي.
تلفّتَ صوب المارّة الغائبين
وابتسم للنباتات
التي عزفت قيثارة على أوتار النجم.
تعثّرتُ خارجةً.
خدوشٌ عفّرتْ جسدي في كل مكان.
عازف الترومبيت أزال المرل عن وجهي
ورمى بشعري إلى الوراء.
قال
“إلى اللقاء يوم حصاد البرقوق ([4])”
وراح.
عندها تذكرتُ زيارتي
إلى كهف الماء المرّ،
حيث شطفتْ الساحرة يديها
بالدخان الطالع من إبريق الشاي
ومسّدتْ خدوشي
وتنبأت بزفاف/فرار ملكة النحل يوم حصاد البرقوق:
ثُقلُ طبقات الهواء،
حبوبُ اللقاح الطالعة من عاريات البذور،
الإخصاب المزدوج،
الارتماء في القش،
الاتهامات بالجشع،
البلل في الشراشف وفي الستائر،
لون الغدير عند الدقيقة الثامنة بعد الثامنة ليلا.
طِبقًا للنبوءة، سوف يلتأم الجميع
داخل وعاء الخلط، في منتصفه:
أسراب مئة مستعمرة من النحل،
ست وثلاثون نحلةٌ عاملة، سبعة جنادب،
ثمان وثمانون فراشة ليلية،
نملٌ أبيض وعِثٌّ ونحلٌ دنّان،
دبابيرُ وذبابٌ في قلب وعاء الخلط،
والذين مرّتْ عليهم جميعا أيامٌ وهم تحت الشمس الحارقة
سويّة مع كوكتيل الخوخ على البراندي.
أجدادٌ بأحذية بسيطة يراقصون
جدّات يحملن كيكًا
بينما الأقرباء يُحضرون فطائر بالفاكهة،
وفطائر المافن، وسلّة للعنب، وعلب مربّى المرملاد،
بيضُ بطٍّ وبطانياتٌ مُحاكة،
ومناشف شاي مطرّزة،
كبشٌ ونعجةٌ بوجهين أسودين،
عجلٌ يرضع إبهامك.
في تلك الأثناء
وعاما بعد عام تكدّستْ الفصول في جسدي،
كبذور خرشوف
وضاعتْ بين دُمى طفولتي.
غير أنّ العيد عاد.
لا نهائيا كان نهار العيد،
بلا مفاتيح، بحناجر مفتوحة.
حلّقنا طائرين من الغدير إلى المطبخ
ثمّ ثانيةً في الفناء.
عازف الترومبيت كان حاضرا.
رأيته مُتألقا فوق قميصه.
سحبني إلى داخل خزانة النقود، حيث أسعار الفائدة خاليةً من حُمّى القش مغموسةً بمربّى المرملاد قائلا:
“برقوق،
يا برقوقي الصفراء،
ها قد عثرتُ عليكِ
ببشرتكِ الصفراء المذهّبة
ونمشكِ الأحمر”.
والد العريس كان هناك أيضًا.
وقد حدس الأمر
أنها تفعل ذلك من أجل المال.
أنها بدّدتْ أموالها كلّها
من أجل لاجئ
أبى أن يبيع نفسه للأيديولوجيين،
أبى أن يشارك في استمناء النظام،
ارتضى العيش في غرفة قهوائية اللون في بروكسل
عازفا عن العمل،
مُقبلا على كتابة الشعر،
مُقبلا على نسيان الموت.
وأنّ هذا الزواج الجديد إن هو إلّا لجوء
إلى ماضٍ
خالٍ من اللاجئين.
“لسنين ضوئية مديدة”
قال عازف الترومبيت،
“سعيتُ إليك
وأنا أعلم أن قبّة سمائنا
لا تمتدّ إلا لليلةٍ واحدة
أنت الثمرة الأولى”.
وكان كلّ شيء محكوما بالمسافة
الواصلة حتى قلب وعاء الخلط.
حتى منتصف الزمن.
حتى صميم الألم،
يوم تختفي النقود
ولن يعود بالإمكان معرفة ماذا كان يملك.
وانطلق بالعزف.
نفخ مربّى المرملاد في الفاتورة،
نفخ بقايا النقود في كعكات الفاكهة،
نفخ ناتج الحسابات المالية في فطائر المافن،
الأقساط النقدية في الوعاء،
وارتمينا في القش بلا مديونيات،
وكانت على فستان الزفاف ديون وكان بَلَل،
وتحممنا في الغدير في الدقيقة الثامنة بعد الثامنة ليلا،
ونقعنا خدودنا المخمورة
في سديم مشروب العرق الذي وصل متأخرا.
صندوق سيجار بـ25 ألف وردة ([5])
لدينا قيثارتان سومريتان ([6])
نقلناهما إلى أوائل الربيع.
أحدهما أدهم
والآخر مطليّ
بإكليل زهور وتخطيط
بقلم الرسم لصندوق
سيجار فيه 25 ألف وردة.
وضعنا القيثارتين في البستان حيث كانت أشجار اللوز تزهر مثل فقاعات سفن آب.
شاهدنا طيورا مهاجرة عائدة.
رقصتْ سوية
أولا تحت وفوق قيثارتينا،
ثم تحت وفوق سيارتنا العاطلة ذات الدفع الرباعي.
وقررّتْ بناء أعشاش لها هناك.
استلقينا تحت شجرة الفراولة
فمرّتْ قطعان الأغنام
وكذا الفلاحين المعبأين بقوّة داخل أزيائهم
وهم يدبكون على جرّاراتهم، ولكن ليس الوقت.
طيور الكناري تناولت الحلوى من مبايضنا
في الضوء الياباني.
بعذوبةٍ ترنّمتْ الزرازير بالأغاني
التي حفظتها من طيور الشحرور عن ظهر قلب،
وأضافت عليها ارتجالات
بعضا من جرس إنذار السيارة.
كنا نشتغل
في مرآب قديم، أما كبار السن
فكانوا يطلقون عَرَضًا من مكبرات الصوت
موسيقى دبكات إسبانية ([7])
فحلّقتْ أسراب الكناري، والحسّون، والحسّون الأخضر، والخوري، والقليعاوات السوداء وغادرت الأزهار.
“ماذا
لو كنت تعرفين
إلى أين أنت ذاهبة؟”
سألتَني.
قلتُ:
“أعرف إلى أين أذهب.
أنا ذاهبة إلى شجرة الفراولة،
إلى زنابق العنب المسكاري، إلى الورد الصخري،
إلى الزعتر، البردقوش”.
وأعددنا طاولة الطعام
في غرفة الخريف الخالية المتربة.
طقطقنا على الأنابيب،
أصلحنا خزان شطف الماء
ودراجتك الهوائية القديمة.
________________________
[1] تتعمد الشاعرة خلط المصطلحات العلمية البحتة داخل الصور الشعرية. دماغ ماتريوشكا هو مفهوم دماغ أصله فكرة استخدام كرات دايسون من أجل تشغيل كومبيوتر ضخم بحجم النجوم. منشأ مصطلح “دماغ ماتريوشكا” هو دمى ماتريوشكا الروسية، وهي دمى تعشيش خشبية روسية. تتكون أدمغة ماتريوشكا من عدة كرات دايسون متداخلة داخل بعضها البعض، بنفس الطريقة التي تتكون بها دمى ماتريوشكا من مكونات دمية متداخلة متعددة.
[2] دازين (Dasein): المصطلح الفلسفي الهايدغري المعروف. https://de.wikipedia.org/wiki/Dasein
[3] تتعمد الشاعرة استخدام مصطلحات ميكانيكية بحتة. الإضافات والتحويرات تمت بالاتفاق مع الشاعرة.
[4] Tot in de pruimentijd من أمثال اللغة الهولندية وترجمته الحرفية هي (حتى زمان البرقوق). المثل يعني: إلى اللقاء ذات يوم. ولأن الشاعرة تأخذ هذا المثل في سياقات أخرى داخل القصيدة آثرنا الإبقاء على الترجمة الحرفية بعد الاتفاق معها. ملاحظة هامة: البرقوق فاكهة فيها إحالة إلى فرج المرأة.
[5] في الأصل العنوان هو (Romeo Y Julieta). والشاعرة تحيلنا إلى ماركة السيجار الشهيرة Romeo Y Julieta. ولكن ثمة إحالة إلى روميو وجولييت أيضًا. ولأن تركيز الشاعرة منصبّ على علبة السيجار اتفقنا معها على هذه الترجمة.
[6] في الأصل هي آلة الهاربسكورد Klavecimbel.لكن الاسم ثقيل. بالاتفاق مع الشاعرة اخترنا آلة القيثارة السومرية.
[7] (Sardana) و(Jota) رقصتان فولكلوريتان إسبانيتان. الترجمة بالاتفاق مع الشاعرة.
• ترجم القصائد عن الهولندية بالاتفاق مع الشاعرة: حازم كمال الدين