رغبات هاربة
من قلب الدوامـة
خرجتُ عـلى عَجَـل. لم يمـهلني أثـر الفـراغ فـي
المـرايا. في الطريـق دفـنتُ آلهـتي بكامل زينتِهـا.
وما إن شـعّ تـرابي البـكرُ حتى اختـفت الكلمـات
في قـواقـعها. وربـما أعـمتـني حاجـتي إلى سـرّ
يغـدر بي أو مـوجة تـوجزني. هـكذا لم يكـن لـي
سـوى أن أشـيّد فـي النـسيـان قـلاعـا لا تـُرى
وأن أخطـط لخسـارات باهـرة. لم يكـن لي سـوى
أن أغـدو وأروح بـين حجَـريْن، وأن أدّخـر صمت
الـذاهبـين إلى حتـفهم، ومن يولدون ليـُلـْدَغوا مـن
الجحر نفسه آلاف المرات.
أفـتح عينيّ في متاهـات مـرجأة وأصغي إلى صدى
أبـواب تـُصفـَق كي أتبـيّن مـن أي سـفح يهـبّ
عـليّ الصمت. أرى الجثة نفسـَها تـتمرّغ في التراب
الأسود، والدودة العمياء تدب في الطين المعجون
بالدماء. أهبـط الدرجات الأخيرة وأطـل
عـلى جسـدي من قلـب الـدّوّامـة عـاريا من كـلّ
سـماء ومن أخـاديع الظـلال. صدِئ الضوءُ لفرط ما
لعِـق الحلبـات. يا لعُرْيي النـّاقص فـي النـار.
ربّمـا تـفـتـّحتْ لأجلـي هـذه الـزهـرة.
كيف ينجـو بـريقها مـن رثـاثـة الكلمـات؟
أمشـي عـلى قسـمات وجهي لفـرط مـا
تغـيّرت أسـماء قـتـلاي وما شربَـتـْني الـكؤوس
والنـوافـذ الغـبراء. قـانعا باليـأس، أسـتدلّ الدّربَ
بـأثـَر مَـحْـوٍ، يبـلّ دمـي شـوقُ السـراب إلـى
السـراب. لـن أدرك معـنى الفجـر المرتجف مهـما
زارتـني هـواجسُـه. مـاذا توشـوشـني هـذه
الأكـمـات التي وُلـدتْ في غـفـلة مني؟ أيّ ريـح
سـأجنيهـا من شجـر لا يألفـني ولا يعْـلم بنهـايتي؟
ولـن يهجـع هـذا اللمـعان الذي يتـمرغ في قطرة
الـسّم. وحـده الصـباح المتعـثر بعمـاي سـيرثيني
بظـلالـه المتصـدّعـة في كل جدار.
غيبوبة
كمثل ثمـرات متخـفـّية في أغصـان شـجرة، لاحـت
صـور أيـامي البعيـدة. تَـأرْجَحَ فـراغ كثـير يسـابق
سـطوري، مـازجا ذهـول الزهرة المسـمومـة بلـون
ألـمي المخبّـإ في ذرى الرغبات الهـاربة. بدا لي أنني ميّـت
منـذ زمن بعيـد. كل ما هبـط من أشرعة لم يكن ليطرد
هـذا النـوم. في رأسي تضطـجع غابات من الصرخـات
التي لا يُسْـمَعُ لها أدنى صدى، ودروبُ نار لا تـُرى منـها
سوى بُقع ناشـفةٍ على الجدران. مـاذا يحفـر الليل فـي
بؤبؤ العين ولِمَ لا ينـهدم مـلاذيَ الوحيـد ؟ الحشـرجات
مبدَّدة. يسيح ظل فانوس على البَلاط متأففا بين أشباح
تغـدو وتـروح. كأنـّني أغـادر جسـدي وأرتـفع
إلى السّـديم حيـث لا ضـوء ولا عتـمة، لا غبطـة ولا نـكد.
لم أكترث لأطياف تناديـني باسـمي.
كنت أصـغي فقط إلى تفتـّت أنفـاسي من بعيـد.
وأجتـاز أبـوابا تـُفضي إلى أبـواب.
كيف لم أفـكر مطـلقا بطـريق تـُرجعـني؟
يوليو 2007
كنوز الفلاة
صعدوا باتجاه الجذور الناعسة.
قد تكون زمجرة الطريق هي التي حفرت لهم متاهات جديدة.
وليست هذه الدعسات سوى آثار أرواحها في التراب.
حين تفتّتتْ فراشاتهم في ماء الرعشة الأولى،
مزّقوا أصابعهم في المهابّ،
كيف قايضوا عصارة سكراتهم بهواء شاحب،
واختبأوا في روائح لم تعد تصدّقهم؟
قد تكون العاصفة هي التي رتـّبتْ لهم هذه الحلبات
وخططتْ لمصادفات أيقظها حجرٌ نائم في العتبات.
لطالما حوّم الصهيل ليحطَّ على جباههم.
في نسيئة العمر جلسوا يدرّبون الليل على فخاخهم وستائرهم
ويستبسلون في أنات الصخور،
لكنهم بعد أن تلمّظوا قطراتِ السراب،
قلـّبوا بأعينهم المدماة رفوف النسيان،
ثم توارَوْا خلف صرخات القتلى.
لو أنهم أعْوَلوا كريح لاهتدَوْا إلى كنوز الفلاة.
ديسمبر 2011
قد أكون حيا…
كلما قلتُ اهتديتُ، رحتُ أنظر خـلسة إلى الفراغ.
هل أغمضُ عينيّ كي أنجوَ من بقعة الصمت التي تثرثر على الجدار؟ ما دمت قد ألقمتُ نظرتي لزرقة البحر ونسيتُ أن أطرب،
ما دام في فمي طعم رماد ليس كالرماد،
فقد أكون حيّا.
أنا الذي غسلتني مياه الغبش بطعناتها قبل أن تجفّ مراياها،
لن أقنع بعد الآن بأقل من الزبد؟
ديسمبر2010
الأعمى
بنظرة واحدة أسقطتُ غيمتين ثم انعطفت إلى غصن مبلل بهمس براعم ممزقة. من مَحْجِرَيَّ لا تزال ترشِف النوافذ رغوة العتمات. ليس لي سوى أن أتمـدّد في حشرجات الظلال لأصحّـح في القصيدة صمتي، لأرى أبعد مما يرى حفيف اللون: الأثرَ الذي لا يقتفيه أحد والمصباح المهشّم !
فيفري 2012
وردة
عندما هرع إلى الهوّة، لم يجدها في مكانها ولم تعلق بشباك النور سوى ذرى أمواج وتمتمات طيور مطعونة بالزبد. استنفد الغرقَ حتى آخر قطرة ولم تنتش أشلاؤه. أيّ أثر يتهجّى موتَه المستحيل؟ لن يطمئن إلا لِما لا يُكتب، لهذه الوردة التي لا يراها أحد غيره وهو ينسُجها بيديه من لهب يتنفّسه الجميع.
مارس 2012