رماد في الحلوق

الخميس 2016/09/01
لوحة: سعاد مردم

مسدت قلبي لآخر مرة وأدارت ظهرها نحو اللاشيء، قررت أني سأصير الحلقة الأقوى في هذه المعادلة واكتفيت من كوني الفتاة التي تلوح لكل من يدير ظهره، فأدرت ظهري أنا الأخرى.

كان الدرج المؤدي إلى بيتنا محفوفا باللون الأخضر، لطالما أَحبّته وظَلت تزرع اخضرار أصابعها في كل أصيص فارغ تجده، كانت جميلة مثل قمر الشتاء، في آخر الدرج الأخضر كان باب البيت الخشبي، خلف الباب كان بانتظاري طفلان لا يعرفان شيئاً عمّا حدث ويحدث غير أني سأصير أمهما.

أدارت عينيها عني باطمئنان وغابت، أنا وهي كنا نظن أننا سنكبر سوياً، اعتقدنا بالخطأ أننا سنشيخ معاً بينما نقرأ كتاباً واحداً ونستمع إلى «مارسيل خليفة» الذي ظلت تهديني أشرطته القديمة وتغنّي لي أغانيه حينما تمشط شعري. كانت تفتح ساقيها على الأرض فأجلس بينهما معطية إياها ظهري فتمد يدها نحو شعري وتبدأ بتمشيطه، كانت تغني: قمر المراية، بعد أسابيع رنّ الهاتف فقلت لها: اشتقتلك ماما.

كنت طفلة بما يكفي لألومها دائماً، أردتها أن تشعر بما فعلته في حياتنا، أردتها أن تتألم لتدفع ثمن أنانيتها. كان بيتنا ميتاً دونها، حتى أن أبي سافر بعد أيام من رحيلها ولم يعد إلى البيت أبداً، وهكذا كبرت وحيدة.

تَركت كل كتبها في البيت وأخذت كل ثيابها، ضمن الكتب واحدٌ بأوراق صفراء لتعليم الطبخ، فتحت الكتاب وأعددت حساء العدس. هاتفتني عمّتي تلك الليلة لتخبرني أنها سترسل لنا طعاماً فقلت لها «بعرف أطبخ لحالي». لم أكن أطول من حدود حوض الجلي بكثير، لكنني أنجزت كل شيء وحيدة.

سمح لنا القاضي الذي نفذ رغبتها بالطلاق أن نزورها كل نهاية أسبوع، في بيتها لم تستطع أن تعوّضنا عن أيام الأسبوع التي نقضيها بعيداً عنها، وشعورنا بالغربة معها لم يتوقف، كنا نحبّ أبانا الذي يهاتفنا من بلاد بعيدة ليسأل عن حالنا، ويرسل لنا متطلباتنا المادية مع عمتي التي كانت يدها خشنة على وجوهنا كلما صفعتها.

في بيتنا كنا ننام وتحت وساداتنا سكاكين، اعتقدنا أننا سننقذ أنفسنا من وحوش الليل لو هاجمتنا، في بيتنا كنّا نخاف من الغُرف فنمضي إلى الغرفة ثلاثتنا سويّا ونخرج منها ثلاثتنا سوياً، كنّا نخاف من البيت إلى الحد الذي جعلنا ننتظر بعضنا عند باب الحمام الذي نتركه مفتوحاً لئلا يهاجمنا الليل، كنا نخاف ولم نكن نعترف بهذا الخوف.

أنا الأكبر بين أخ وأخت تركتهم لي أمي، أخي يصغرني بعشرة أعوام وأختي تصغرني بثلاثة. كان أخي ما يزال يتلعثم كلما حاول أن يلفظ الكلام، بينما كانت أختي أقصر من أن تصل إلى حوض الجلي لتساعدني قليلاً. صرت أمّا صغيرة.

حقدت على عماتي وكل أقاربنا الذين يجتمعون في بيت جدي، كانت كل واحدة منهن تحكي عن أبنائها بينما أستمع. كل واحدة منهن تحب أبناءها بينما أختي تبكي. لم يطرق أحدٌ باب بيتنا. كنا وحيدين مثل أيّ شيء مهمل، أيّ شيء لا قيمة له. حينها شعرنا باليُتم.

انقضت أربعة أعوام ونحن نزور أمي كل نهاية أسبوع ونصارع حزننا باقي الأيام في بيت كبير نخاف غُرفه ولا ندخلها إلاّ فرادى، حتى أتاحت لنا الأقدار فرصة الانتقام، إلى حين هاتفنا أبي معلناً «رح أجيبكم عندي تعيشوا معي هون».

لم أعرف أكنا ننتقم من أمّنا التي هجرتنا أم من أنفسنا التي لم تكن تَغفر لها، لكن ما حدث هو أننا ودّعناها كما لو أنها غريبة، كما لو أننا سنلتقي بها في عطلة الأسبوع الآتي، كما لو أنها ستسافر معنا.

ربطنا على قلوبنا نحن الثلاثة وسافرنا معه، كان طيباً حنوناً ويحبنا، كنا في المطار وكان يضحك معنا -لم يكن يضحك معنا كثيراً حسبما نتذكره قبل أن نسافر-.

صباح العاشر من أبريل استيقظت لأجد نفسي في غرفة بيضاء تماماً لا مكتبتي ولا خزانة ثيابي فيها، خرجنا إلى المدينة التي أراد أبي أن يُبهرنا بجمالها، هناك كانت البحيرات والنوارس والشطآن والشوارع النظيفة والسكان الشُّقر.. هناك كانت الغابة والأنهار، هناك كانت المدينة خاوية.

عدنا إلى البيت ننتحب، حينها تمتمت أختي في أذني «إحنا شو عملنا بحالنا. وتمتمت أنا لنفسي: يا كسرة قلبي!»

أشعلت أول سيجارة لي وأطفأتها في جلدي، أدركت متأخرة أنني لم أكن أعاقب غير نفسي، أن أمي كان عليها أن ترحل لأنها لو لم تفعل كانت ستموت مغبونة، في البداية حقدت على كل شيء، وفقدت الشعور فيما بعد، ودون أن أرضى بالواقع، آمنت بداخلي أن كل ما كان عليّ فعله من البداية حتى الآن أن أجبر إخوتي على تقيؤ الرماد الذي نثرته الحياة في حلوقنا نحن الثلاثة لتظل لعنة الذاكرة داءنا الذي لم وربما لن نشفى منه إلا حينما نموت.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.