رمزية أدوات الكتابة وأثرها في صناعة المعنى الشعري
“و ما ظنك بقوم يملكون أزمة المنى والمنايا بحسن كلامهم ويريقون دماء الأعداء بأسنة أقلامهم. وقديما أغنت كتبهم عن الكتائب (….) ففي سواد مدادهم بياض النعم وحمرة الدم” (عبد الملك بن محمد الثعالبي).
إن الحديث عن رمزية أدوات الكتابة في الرسائل الشعرية والرسائل المتبادلة بين وجهاء القوم مما تواتر ذكره في كتاب “الذخيرة ” لابن بسام (ت 542 هـ /1147 م) وعن أثر ذلك في صناعة المعنى الشعري والأدبي، من شأنه أن يحيلنا على نظرية التواصل اللسانية بوظائفها المتعددة ولاسيما الوظيفة الأدبية والوظيفة الماوراء لغوية (la fonction metalinguistique) من ناحية وعلى عناصر مقام الترسل: وضع المتكلم، وضع المخاطب، الرسالة المكتوبة بأنواعها: الابتداء، الجواب، الاستئناف وجواب الاستئناف، من ناحية أخرى فبين هذه وتلك تشابه، إن لم نقل تطابقا. هذا التطابق من شأنه أن يعيننا في تحديد نوعية الرسائل المتبادلة وتحليل خطابها. فمن سمات مقام الترسل أنه يخلص المرسل – المتكلم وكذلك المرسل إليه – المخاطب من وضع المواجهة ويخلق بالتالي سبيلا جديدة في تلقي الرسالة – الخطاب. الكتابة تبتدع نوعا تواصليا جديدا يحدث نقلة نوعية، إن لم نقل قطيعة ما بين الشفوي والمكتوب، أو ما بين الصوت والخط، يقول إبن وهب الكاتب (ت 335 هـ/947 م) “أما الرسائل فهي مستغنية عن جهارة الصوت وسلامة اللسان من العيوب لأنها بالخط فإن ذلك يزيد في بهائها ويقربها من قلب قارئها” (أبوالحسين إسحاق بن إبراهيم بن وهب الكاتب، البرهان في وجوه البيان، بغداد،1967، ص 116).
فهل يسمح هذا النوع الجديد من التواصل، لأدوات الكتابة وما ترمز إليه أن تشكل المعنى الشعري والأدبي سواء أكان ذلك في الرسائل الشعرية أم في الرسائل النثرية؟ وبالتالي هل ترتقي هذه الأدوات بالخطاب الترسلي إلى وظيفته الماوراء لغوية لتحقيق أدبيته؟
إن تحويل أدوات الكتابة من معناها الحرفي إلى معناها المجازي من شأنه أن يربطها بمناخ الأدب والشعر ويمكنها من أن تلج عوالمه وتصبح بالتالي أدوات الكتابة رموزا قادرة على صناعة المعنى الشعري والأدبي، فالرمز يقوم على فكرة تحويل الشيء من دلالته بذاته على ذاته إلى دلالته بذاته على غير ذاته، ومن شروط تحقق الرمز طواعيته لهذه الدلالة على غير ذاته، وهي طواعية مزدوجة بعضها ذاتي يتصل بما ينبثق عن الرمز من طاقة تعبيرية أو إيحائية وبعضها الآخر موضوعي مقترن بما يتوفر للمتلقي من قابلية التمثل للربط بين الرمز وما يرمز إليه.
في الاحتفاء بالمكتوب من خلال فن الترسل
لئن كانت المشافهة هي الأصل واستمرت طيلة قرون الوسيلة المثلى لتلقي المعارف ونقلها ثم تداولها، فالعلم كان يؤخذ من صدور الرجال، إلا أن ظهور الكتابة أحدث تحولا عميقا كان له أثر كبير في صياغة المعارف وفي تدوينها من ناحية، وفي ظروف تقبلها نعني بذلك العلاقة بين الباث والمتقبل للخطاب المكتوب، فإذا كان للمشافهة (l’oralité) دعاماتها من ذلك سلامة النطق ووضوحه، صحة المنطوق، النبرة ودورها في تدقيق المعنى المراد تبليغه ثم أخيرا سلامة حاسة السمع، فإن للكتابة (l’écriture) أيضا دعاماتها (ses supports) من ذلك اليد والقلم والمداد والقرطاس والخط وسلامة البصر لدى طرفي الخطاب/الرسالة.
إن الخط باعتباره التجلي الأمثل للمسار الجديد الذي أحدثته الكتابة، ستتولد عنه فنون وأجناس يقتضيها المقام ومن ضمنها جنس الرسالة أو فن الترسل حيث الباث/المرسل يتوجه إلى متقبل/مرسل إليه بعينه برسالة تقتضي جوابا وربما استئنافا وجوابا للاستئناف. فالكتابة اكتشاف حاسم وفريد مكّن الوعي الإنساني من أن يلج مناخات جديدة من المعرفة، فاختراع الإنسان لنظام مشفر من العلامات البصرية استطاع بواسطته أن يصوغ آراءه وأحاسيسه ومشاعره وأن يدوّن كل ذلك وأن يسجله تسجيلا مرئيا وأن يبلغه لقارئ حقيقي أو مفترض.
لقد كانت الذاكرة على امتداد قرون حبيسة ما يرد عليها عبر حاسة السمع، تغنيها وتنعشها ثم جاءت الكتابة لتمنحها بعدا جديدا يسمح لها من خلال حاسة البصر بتوسيع طاقة استيعابها وتمكينها من وسائل جديدة تستثيرها لتثريها. لقد احتلت أدوات الكتابة في القديم منزلة مرموقة، في ظل احتفاء حار بمقدم هذا المولود الجديد ألا وهو الكتابة، لاسيما الخط والرق اللذان اقترنا بصاحبهما اقترانا شديدا، فما تخطه يد الإنسان يعكس شخصيته لا محالة من حيث قيمة الأفكار التي يحتويها الرق، كما أن نوعية الرق تخضع بدورها لأحكام قيمية تعكس طبع صاحبها. ففي ظل بيئة تهيمن عليها الأحكام الاعتبارية ذات المستند الديني، لا مناص من التقييمات الأخلاقية في مقاربة جل المواضيع المطروحة.
وقد وردت في كتاب “الذخيرة” لابن بسام إشارات تبين المنزلة الهامة التي أصبحت تحظى بها أدوات الكتابة من عناية واهتمام، فكلما انحط الخط، انحط الفكر المعبر عنه بذلك الخط تبعا له، وكلما دنئ الرق، دل على دناءة صاحبه. ففي رقعة كتبها الوزير الكاتب أبي حفص بن برد الأكبر إلى المظفر بن أبي عامر يقول فيها “وإن قوما من خدمة الحضرة قد عادوا لما نهوا عنه فكتبوا الخط الدقيق، في دنيء الرقق، دقة من هممهم ودناءة في اختيارهم، وجهلا بأن الخط جاه الكتاب وسلك الكلام، به ينظم منثوره، وتفصل شذوره، ونبله من نبل صاحبه، وهجنته لاحقة بكاتبه (…) وأنا أعطي عهدا لئن ارتفع إلي كتاب على الصفات المذمومة والأحوال المسخوطة من رق أو مداد أو خط، لأوفين لصاحبه بما قدم إليه من الوعيد إن شاء الله” (أبو الحسن علي بن بسام الشنتريني، الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، ليبيا/تونس، 1395 هـ/1975 م، القسم الأول، المجلد الأول، ص ص 107 – 108).
في التغني بأثر أدوات الكتابة في جماليات النصوص
إن التشدد في ضرورة أن يكون المكتوب حائزا على قدر من الجمال والنبل، لأنه يحيل على صاحبه، لم يكن هو القاعدة في جميع الأحوال. إذ نعثر في كتاب “الذخيرة” على رسائل قد اختل خطها وقمئ ولكن صاحبها، وبسبب ما احتوته من جيد المنثور وجزالة التعبير يدعو المرسلة إليه أن يغمض عينيه عن قبح المرئي ليتمتع بجمال المخفي وأن لا يغتر بالشكل فالجوهر أسمى وأجدى، فقد جاء في رقعة لابن حناط في وصف رسالة “بعثت إليك برسالة الوزير الكاتب أبي عمر الباجي في البهار، منقولة بخطي على اختلاله واختلاف أشكاله، إلا أن حسن الرسالة، وموضعها من البلاغة والجزالة يغطي على قماءة خطي، ودناءة ضبطي، فاجتلها – أعزك الله ‐ عروس فكر، لحظها حبر، ولفظها سحر، ومعناها بديع، ومنتهاها رفيع، ومرماها سديد. ركب اللفظ الغريب فاعتن له المراد البعيد، يطمع ويؤيس ويوحش ويؤنس، فأما إطماعها فبما تحرز من لدونة ألفاظها وسهولة أغراضها، وأما إياسها فبما يعجز من امتثالها ويبعد من منالها والله يمتعك برياض الآداب تجتني أزهارها وتنتقي خيارها”. (المصدر نفسه، القسم الثاني، المجلد الأول، ص ص 195 – 196.).
تبدو صورة الرسالة بما تحتويه من معان كعروس قدت من أفكار وقد تجملت لحاظها بمداد، فاستوت فتنة ينم جوهرها عن إغراء يطوح بصاحبه بين الطمع حينا واليأس أحيانا، وبين الوحشة تارة والأنس طورا آخر. إنها صورة لغانية تتمنع عن الرجل وهي راغبة فيه. وإذا لم تكن الرسالة شبيهة بالمرأة، فهي تتحول إلى فضاء للمتعة وللاستمتاع، فتغدو روضة من رياض الأدب يطيب اقتطاف أزهارها / أفكارها وانتقاء خيارها وتذوق رحيقها واستنشاق رياحينها.
إذا كانت أدوات الكتابة في بعض الرسائل صفات لموصوفات تتصل بمجالي الطبيعة والمرأة، فإننا نعثر في بعض الرسائل على تحول قلب تلك المعادلة رأسا على عقب، فأصبحت أدوات الكتابة موصوفات وعناصر الطبيعة موضوعات للوصف. لقد انقلبت الصورة في غرض المدح ضمن أدب الترسل، فأضحى الخط والمداد والرقعة وغيرها المرجع أي موضوع الوصف وأصبحت الموصوفات أي عناصر الطبيعة هي المجال التصويري الذي تستمد منه الأوصاف. جاء في” الذخيرة ” أن الوزير أبا محمد عبدون كتب إلى الوزير أبي الحكم عمرو بن مذحج:
أبا الحكم أبلغ سلام فمي بدي
أبي الحسن وارفق فكلتاهما بحر
ولا تنس يمناك التي هي والندى
رضيعا لبان لا اللجين ولا التبر
فراجعه أبو الحكم بأبيات منها:
أتى النظم كالنظم الذي تزدهي به
عروس من الجوزاء إكليلها البدر
فحلت لنا منك بخطك رقعة
هي الروضة الغناء كللها الزهر.
(المصدر نفسه، القسم الثاني، المجلد الثاني، ص 590).
هكذا يجعل مقام الترسل، ولاسيما في رسالة الجواب، الصورة الشعرية أكثر إيغالا في التخييل، فبعد أن شبهت اليد بالبحر وهي صورة مستمدة من التراث الأدبي والشعري. في رسالة الابتداء، يعمل المقام ولاسيما في رسالة الجواب على تكثيف دور عناصر الطبيعة في إكساب رموز أدوات طاقتها الإيحائية. فتشبه الرقعة بالروضة الغنّاء والخط بالزهر الذي يكللها، مما يعني أن رسالة الابتداء ليست سوى تعلة (un prétexte) حتى تبدو الصورة الشعرية أكثر اكتمالا في رسالة الجواب، وهذا ما يؤكد أن الرسالتين تكونان معا وحدة نصية.
إن علاقة الخط كشكل/وسيلة بالمخطوط كمضمون علاقة أرسطية في منشئها، لأنها علاقة بين الصورة والمادة في وجه من الوجوه. فكلما فسدت الصورة فسدت المادة التابعة لها، ولكن ذلك لم يكن هو القاعدة التي حكمت تلك العلاقة، إذ يمكن أن تكون الصورة/الخط فاسدا ومنحطا ويكون المضمون راقيا وجميلا.