رواية عن الوحوش
يقبع مراد في زنزانته المنفردة، تتباطأ أنفساه ويدخن سيجارته راسماً ابتسامة على شفتيه، وشيئاً فشيئاً تكشف الجدران عن ذكريات من سبقوه فيها، لتبدأ بعدها سلسلة الذاكرة بالتكون أمامنا على لسانه، لنقرأ عن حربه ضد حيّة ونفسه والجميع، لندخل معه خفايا عوالم أشبه بالكوابيس في حيّ مهدد بالانهيار، هذه الذاكرة المثقوبة لمراد نقرأها في رواية الكاتب المغربي محمد بنميلود بعنوان «الحيّ الخطير» الصادرة هذا العام عن دار الساقي بالتعاون مع مختبر آفاق للرواية.
نرجسية السرد
نقرأ الرواية بلسان مراد، يحدثنا عن خسارته لأصدقائه وكيف انتهى به الأمر في السجن، يخبرنا بعدها أسرته وخصوماته مع من حوله وتحوله إلى شقيّ يقتل ويسرق ويدخن الكيف، فالسارد في «الحي الخطير» يعي ما يفعل، فعل الإخبار الذي يقوم به ينطلق من دوافع ذاتيّة، لا بد من أن تتجلى الحكاية ولو ضمن أربعة جدران بدون «سامع/قارئ» متوقع، وهنا تكمن حساسية السرد النرجسي، فتقنيات تكوين المعنى التي تحيل لها الرواية تعكس تجربة مراد نفسه وصوته الذي يختلف حسب مسافته الشخصيّة من كل حدث في الحكاية، فالراوي يحيلنا إلى جسده لنتلمس ثناياه وندوبه، أما تسلسل بناء الأفكار والأحداث فمرتبط بالسارد نفس كبشر، أما اختيار الحكايات وأيّها يستحق أن نسمعه فنابع من موقف نرجسي لا سياسيّ، فالسرد النرجسي يحاكي الألعاب الإنسانية، لنقرأ تجربة مفتتة أشبه بالذاكرة التي تتداعى على لسان الراوي الرافض للأنظمة التقليدية لبناء العلاقات التي انتهت به في الزنزانة، فمراد يولّد «روتين» السرد الخاص به والذي يشبهه وحده، إذ لا يمكن لهذه الحكاية أن تروى إلا على لسان مراد، دون ذلك ستنصاع لأنظمة سرديّة تحوّل مراد لضحيّة لذات الأنظمة التي تجعله مثيراً للشفقة والتعاطف لا كائناً غاضباً يدعونا للتحرر.
مهرجان الخراب
تختلف العلاقات بين شخوص الرواية عن تلك التقليدية، فصلات الدم والعلاقات الأسرية منهارة، فنحن في حي طبيعته قائمة على أساس العنف من جهة، وعلى أساس الرفض من جهة أخرى، أنظمة السيطرة التي تشكل العلاقات بين الأفراد بدائية حسب التوصيف «الصحيح سياسياً»، لكنها ترسم المصالح بين الأفراد وتجمعهم لأنها ناشئة نتيجة الانهيار والهشاشة التي يمكن لأيّ اندفاع عاطفي أن يحوّل أخوين إلى عدويّن، ما يجعل عوالم الرواية قائمة على الافتراس والذبح، فالبقاء حقيقة للأقوى والأشدّ صلابة وقدرة على تحمل الطعنات وغارات العصابات الأخرى، هذه العلاقات تتجلّى في الرواية بموضوعة النار التي تحضر لتلهم الشخوص تدريجياً، هي الخلاص أحياناً إذ حاول مراد إحراق السجن للفرار، وفي أحيانٍ أخرى تولّد عنفاً جديداً، تصهر من تلتهمهم لتنبعث من رمادها وحوش أشد ضراوة، فالنار لا تنطفئ وتغذي جوهرها كلما التهمت أجساد جديدة.
المتخيل الرومانسي
تمتلك شخوص الرواية سيناريوهات مستقبلية عن حياة أفضل، وتخيلات لنهاية تُوصلهم للسكينة، التي ما تلبث أن تتلاشى تحت وطأة العنف، فمراد الذي ظن أن كتب خالها لشيوعي من الممكن أن تجيب عن أسئلته عن الظلم وغياب المساواة اكتشف أنها دفعته لطرح أسئلة أكثر، ليكون الانتظار وتربية الوقت هو جواب سؤال «ما العمل؟» الذي كان يقرأه في الكتب والرسائل بين الرفاق الشيوعيين، أما مغزى حياة مراد في النهاية هو الهرب كما يقول، الهرب سواء من الكتب الشيوعية أو الحيّ أو أسرته أو السجن، الهرب بوصفه رفضاً، فهو يثور ضد دوره كضحية أنظمة القمع وأنظمة العصابات، فالهرب في حالة مراد ليس مجرد خيار بل مصير لا فكاك منه.
الأخ المسخ
تتجسد أنظمة الهيمنة والقمع في الرواية بشخصية «العربي» وهو أشبه بوحش أعور مسيخ يصطاد ضحاياه، ممارساً عليهم كل أشكال العنف والساديّة ملقياً بهم بعدها في النار، هو يتسلل بين سكان الحيّ سارقاً حياواتهم بصمت، أشبه بغول عجائبي يتربص بالجميع، تحاك حوله الأساطير والحكايات لدرجة أن البعض لا يصدّق وجوده، وكأنه تجسيد حقيق لمجاز «ضد-النظام»، فالنظام بشكله المعروف يهيمن لخدمة مصلحته وتماسكه، أما الوحش فيقتل للقتل فقط مشبعاً رغباته، هو يمثّل بضحاياه لمتعته الذاتية، الرعب المنتشر ضمن الحكايات عنه لا يهدف للتأديب أو الهيمنة، بعكس الرعب والوحشية الممارسان منهجياً من قبل الأنظمة التقليدية، لنرى أنفسنا أمام صراع للحفاظ على اتزان الانهيارات، لا بد من «ضدّ» يعيد تمثيل العنف المختزن في الحي، ومراد ليس إلا ضحية هذا العنف المتبادل، هو ذبيحة تتراقص بين مسخين، نظام ووحش، وبالرغم من أن «العربيّ» يموت حرقاً كما كان يقتل ضحاياه، لكن حتما لا بد من أن يأتي غيره، فالحي بأكمله تمثيلٌ للقرين المسيخ للعالم الذي يدّعي التحضّر.