رواية النكبات

الجمعة 2016/04/01

شاءت الأقدار أن أحيا في عصر التفكك والإجحاد، عصر التمزّق وتقطيع الأرحام. الأحداث متسارعة متواترة تهتك أحلام طفولتي، تُزعزع كيان أملٍ زرعه والدي ومدرِّسي وكُتّابي المفضلون، الذين ما فتئوا يردِّدون حكايا المجدِ من أيام تموز وعشتار إلى عين جالوت حيث دُحر التتار. كم ردَّدوا بأن الأمةَ العظيمةَ لا تموت، بل تخرج من تحت الرمادِ كما تعود العنقاءُ إلى الحياة بعد كلّ موت.

كم بنيتُ من قصور مجد في كياني كوني عربيا أصيلا، وضع أجداده أسس الحساب والفلك واخترعوا الأبجدية والصفر وعلم الجبر واللوغاريتم. وفجأة فاجأني كابوس ظننته عابرًا، فداويته بالتحدي، كما داويت تاليه بالعناد. توالت كوابيس الوطن عندما أصبح الوطن مزرعة ثم تفكَّك مزارع متناحرة بقدرة صَدَف. شح حليب البقر مع قيود التقشف من أجل رفاهية صاحب المزرعة الذي أسرفَ بذخًا وإفراطًا على ندماء السوء وقيان محلية ومستوردة.

كبرت بين الأعاصير وخسران المصير، حتى توقّفت عن التفكير. كيف أفكر وأنا جائع بعدما دخل والدي السجن لأنه أصرّ على إنسانيته. أو عندما اضطرّت والدتي أن تُقبِّل قدم الحاكم كي لا يطردنا من مزبلة كنا نتخذها دارًا. كبرت بينما يتناقص عدد المدارس كما يتناقص الزهر في فصل الخريف، لكن دون أمل بربيع أو شتاء. وازداد روّاد السجون في عهد أصبح فيه المدرّس متسولًا والمفكر يُتَّهم بالعمالة. هرمت وأصدقائي يختفون بسهامٍ موت لم ترسلها السماء فقُصفت أعمارهم دون استحياء كلما همس أحدهم بائحًا بأوجاعه بعد كل نكبة.

هل قلت نكبة؟

اعذروني فالنكبات تتسارع في بلداننا ووجداننا، نكبة عدم الاعتراف بإنسانيتنا، نكبة الاستعمار العائد بحلّة جديدة اسمها الإرهاب، نكبة المجاعة في بلاد كانت تصدّر الغذاء لعهد قريب، نكبة الفساد الجماعي. لكنّ النكبة الكبرى تكمن في لَبِنات الإرهاب التي بنيناها عبر السنين. لَبِنات بناها القهر، واستغلال الله في زرع الكراهية باسم الدين في وجدان كل مولود. كفّرني جاري وكفّرته، سعينا لقتل بعضنا بعضًا وحلَّلنا الاغتصاب تحت راية الإرهاب. ومَدَّنا جنيّ خفي بالأسلحة وبث فينا روح حقد كانت متأصلة فينا. إذ كيف يتصرّف أحدنا كإنسان وقد ولد في مزرعة اسمها وطن عومل فيها كحيوان، فضُرب بسياط المذلة، واغتصبت إنسانيته كل يوم ألف مرة حتى أصبح كالقرد يكافأ بموزة كلما قبَّل حذاء سيده.

هل قلت نكبة؟

نكبة فلسطين البداية، ثم نكبات العراق وسوريا وليبيا واليمن، كما لبنان ليست النهاية. نكبة الوطن، نكبة الأوطان، بل نكبة الأرض ومن جاء منها.

يا لعديد النكبات في عصر التردّي، عصر لم يسمع به معتصم مناجيته، فيحرك جيوشًا لانتزاع الكرامة، ولم تتحرك فيه لهفة العربان على سبية بيعت بعلبة سجائر، أو أخرى مؤمنة فكّت ضفائرها على مجاهدي النكاح تقرّبًا من الله. تبعثرت المدن والقرى وعمل السيف عمله، كما شحت الأخلاق والخيانة فسال النجيع الطاهر مُنجَّسًا بكفرنا، مُدنَّسًا بتفرقنا وتكفيرنا وقتل الغريب وذي القربى على حدّ سواء، حتى اشتمت ذئاب الغرب والشرق ضوع نجيعنا ونتانة أجسادنا فأرسلت ضغابيسها تنهشنا وتبول على بقايانا.

وتسألني لماذا متّ ألف مرة فوق تراب الوطن وتحته في لحظة الدّم.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.