رواية ما بعد الحداثة

بلاغة الخطاب وتمثلات الهوية
الاثنين 2019/07/01
لوحة: سعود عبدالله

تعتبر رواية سليم بركات ”هياج الإوز” (بركات سليم. هياج الإوز. المؤسسة العربية للدراسات والنشر. بيروت. 2010) أحد النصوص الروائية العربية التي اشتغلت على نحت أساليب وطرائق جديدة على مستوى الخطاب الروائي. وتأتي فرادتها انطلاقا من أسلوب الكتابة الروائية الذي يعيد صياغة سؤال الكتابة والاختلاف.

وتضيف هذه القراءة مقاربة بلاغة الكتابة الروائية من خلال أحد مظاهرها، وهو الانزياح السردي داخل الخطاب الروائي، مما يجعلنا أمام نص مفتوح ينفلت من مواضعات وتقاليد التصنيف، ويستعصي بالتالي على التحليل التقني الذي يحصر النص ضمن دائرة ضيقة، ويحد من تلك القوة التي تحدّث عنها دريدا والتي تجعل ارتباطنا بالنص ارتباطا يستشف منه مساءلة الدلالة الإنسانية ومحاورة الكينونة وتجلياتها البعيدة.

ولقد تنبه بوث واين ولو بشكل أكثر تطرفا إلى هذه المسألة حين حصر بحثه في دائرة بلاغة النص، إذ يقول في هذا الإطار «إنني على بينة أنني قد استبعدت التقنية من جميع القوى الاجتماعية والنفسية التي تؤثر على القارئ والمؤلف عندما أتكلم عن طرق المؤلف للسيطرة على القارئ» (بوث واين. بلاغة الفن القصصي. ترجمة: أحمد خليل غردات. علي بن أحمد الغامدي. منشورات جامعة عبد الملك سعود 1994 الرياض، مقدمة المؤلف). إن بنية العنوان ”هياج الإوز″ أول معالم بلاغة النص. إنها بنية مفرغة من كل حمولة تحيل على أنساق مرجعية مرتبطة بالنوع الروائي. إنه عنوان يحاول أن يؤسس تلك الخيانة التي تلازم كل تصور ما بعد حداثي لمفهوم النوع.

وتؤشر صيغة العنوان باعتبارها العتبة الأولى إلى نزوع نحو تجاوز البلاغة الأحادية ومطلقية المعنى، إلى محاولة تأسيس انزياح نوعي قوامه كتابة الاختلاف بتعبير دريدا فـ«المعنى ليس مقولة أحادية..والكلمة المكتوبة هي في حد ذاتها شيء، وهي مختلفة عن المعاني التي ترجئها والتي لا يمكن الوصول إليها إلا بعلامات أخرى..». (ج.المؤلفين. القصة، الرواية، المؤلف دراسات في نظرية النوع ص:193). إن العلامة وهي هنا بنية العنوان التركيبية والدلالية والتداولية لا تحمل أي مؤشرات مرجعية نوعية.

فالجملة الاسمية ”هياج الإوز” أبعد ما تكون عن أي تمثل يحيل إلى عالم الرواية النوعي. وهذا ما يؤكده الخطاب المقدماتي الذي يحاول إضاءة مفهوم النوع السردي على ضوء مفاهيم التجاوز والاختلاف والتعدد. فليست هناك خصائص ثابتة ذات مؤشرات تصنيفية. ولذا نجد جاك دريدا ينتقد تصورات نقدية حداثية حاولت مقاربة السرد من زاويتي الصوت والصيغة، ويرى أنها سقطت بدورها في فخ النمذجة. إن دريدا يتحدث عن قانون التجاوز ويذهب إلى أن «كل نص لا يمكن أن يكون منتميا إلى جنسه» (Derrida jacques. Parages. Edition: galileé.. 1986. Paris. P:264).

وهذا بالفعل ما يوحي به لنا الانتقال من خطاب العنوان ”هياج الإوز” والوظيفة المهيمنة أي الوظيفة الشعرية بتعبير ياكبسون إلى خطاب النص المحيط كما سماه جينيت والذي يشتغل في هذا النص على الإيهام بالواقع، كما يظهر من طريقة تقديم أسماء الشخوص المشاركة في أحداث الرواية ولعل الإيهام بالواقع يروم بناء ميثاق التلقي بين السارد والقارئ وهذا ما نستشفه من خلال حضور الوظيفة المهيمنة في العنوان ”هياج الإوز” أي الوظيفة الشعرية داخل الحقل السردي. إن من شأن الوقوف عند وظائف خطاطة التلقي الكشف عن الأنساق الداخلية ومختلف أبعادها. ولقد دعا مجموعة من الباحثين من بينهم بول ريكور إلى استلهام خطاطة وأفكار ياكبسون، فضلا عن تأثيراتها العميقة على دراسات أصحاب نظرية التلقي…

طرائق جديدة على مستوى الخطاب الروائي
طرائق جديدة على مستوى الخطاب الروائي

ولعل الخطاب المقدماتي في ”هياج الإوز” يضعنا في صلب هذا السؤال المرتبط بعلاقة الوظيفة على اختلاف مرجعياتها بالمقصدية وهاجس بناء ميثاق واقعية تتجاوز وتنتقد وتكشف أنساق الواقع ذاته و«لربما شاهدنا كذلك بداية هجوم مضاد يقوم به مذهب واقعي نقدي في وجه الإغراء الجمالي..حتى أنها فجرت الحدود القصوى للتمثيل» (بول ريكور. الذاكرة، التاريخ، النسيان. ترجمة وتقديم وتعليق: جورج زيناتي. دار الكتاب الجديد المتحد. بيروت 2009. ص:375).

إن المؤلف من خلال خطاب المقدمة بصدد مسرحة لعالم الواقع الروائي المحتمل، وهو يضعنا بين المتصل والمنفصل، وكأنه يبحث عن جوهر الاختلاف في ماهية الواقع المختلف عن المألوف، إنه يرغب في ترسيخ قانون التجاوز من خلال تجاوز مفهوم القصة والنوع ذاته. فالمؤشرات الخطابية التي تدل على الواقع تؤسس لانزياح عن الواقع والنوع الروائي نفسه، ومنطقه الروتيني الصارم يقول في هذا الإطار في خطابه المقدماتي محاولا الإيهام بالواقع وتجاوز الأثر الذي أنتجه العلامة العنوان ”هياج الإوز”:

 «جرى توثيق أقوال الشخصيات على نحو لا يجعلنا مسؤوولين عن أي تحريف..»

ويبدو أن العلامة العنوان تصور بالفعل سمة الهياج المرتبطة بإحدى صور المرأة التي تسبر الرواية عوالمها الداخلية وتحولاتها الفسيولوجية والسيكولوجية، كما سيتبين ونحن نتقدم في قراءة النص. وهكذا يؤسس العنوان نفسه تعارضا نوعيا مع المؤشرات التي توحي بالواقعية في خطاب العتبات، ثم مع المتن ذاته، بيد أن هذا التعارض يتحول إلى تواز دلالي يمكن اكتشافه على مستوى البنية العميقة بعد العبور من منطقة البنية السطحية أي مكان اجتماع النسوة وما يتولد عن مسارات سردية متباينة تعكس في العمق قانون الاختلاف والتجاوز.

 إن النص الروائي يتوزع إلى أحد عشر فصلا تتماهى دلاليا مع الفصول الأربعة وتحولاتها وتأثيراتها على جسد وذهنية المرأة وأعماقها كما سنعثر في المؤشرات الزمنية الدالة على الخطاب، وتبعا لذلك فإن هناك جدلية بين دورة الزمن كما يتجلى من خلال دورة الفصول في النص التي تتماهى مع فصول الرواية وبين المرأة بمختلف أبعادها السيكولوجية والفسيولوجية والاجتماعية. فالمرأة كما يتجلى من الشخوص التي يقع عليها التبئير (تاسو، نازلي، دارخو، شتولا) لا تحضر فقط باعتبارها كينونة الواقع بل تتمثل باعتبارها كينونة زمانية ومكانية وامتدادا لكينونة الطبيعة ودورتها.

 هكذا يمكن القول إن الرقم أحد عشر يحضر في بعده الزمني وباعتباره رقما دالا ومكونا سرديا، كثيرا ما استلهمته أدبيات العصر الحديث نظرا لحمولاته الجمالية والدلالية في التراث القصصي الديني وهو ما يجعله رقما ينتقل من دلالة مرجعيته إلى دلالة أكثر اتساعا تمتد إلى ما يمكن تسميته ببلاغة الواقعية.

إن الكتابة الروائية في ”هياج الإوز” باعتبارها تستشرف أفق ما بعد الحداثة ستخرق الاستعمال المألوف للغة الرواية إلى بناء تنافر وعلاقات اتصال وانفصال. اتصال بالشكل الجمالي وانفصال عنه في نفس الوقت وتجاوز قدسية الخطاب ومظاهره الثابتة، بغية بناء الاختلاف. ومن ثم نلاحظ الانتقال من الإنسان إلى الأنوثة، ثم إلى العالم الوجودي للمرأة باعتبارها علامة ونسقا رمزيا ومن خلال سماتها وصورتها المتمثلة في عينة اجتماعية، ومن خلال أسئلة الهوية والهجرة والحق الإنساني في الوجود، وبالتالي فالانفصال لا يقع فقط ضمن تاريخ الجنس الأدبي بل هو كينونة وجودية تستدعي وضع الإنسان المعاصر وتجسد فكر الاختلاف.

وهكذا يؤسس شكل النص الروائي علاقة جدلية مع مركزية الرقم أحد عشر باعتباره حافزا دفع بيوسف في القصة الأصلية إلى طلب تفسير وبالتالي بداية القصة، غير أن النص الروائي يوظف الرقم في القصة بدلالة مرجعية تحيل على الرحلة الإنسانية والانفصال عن الأصل والهروب والبحث عن الملجأ من الظلم الإنساني وعن الكينونة المكانية والهوية، وهو ما سنعاينه مع الوقائع المرتبطة بالمصير والمشترك بين النسوة اللواتي يمثلن صورة شاذة عن نساء الواقع في الروايات الحديثة.

إن السارد وهو يروي بضمير الغائب يراهن على تأسيس ميثاق جديد بينه وبين متلق، يرتكز على إعادة تركيب وبناء الواقع داخل الخطاب الروائي وتجاوزه، وفي نفس الوقت عكس منظورات إدراك السارد والشخوص بما يعكس جوهر الاختلاف، وذلك من خلال التبئير على سيكولوجية صورة المرأة وتجاوزها إلى الحفر في بنية الاغتراب وهاجس الهوية وحقوق الإنسان، باعتبارها إحدى البنى العميقة التي تكشف عن بلاغة الخطاب الروائي وطرائق اللغة الروائية.

وكل فصل من هذه الفصول يمثل في الغالب مشهد لقاء الصديقات العشر في بيت إحداهن، من أجل الاستمتاع بأمسية عشاء السبت التي يتخللها خمر ورقص، فهو مشهد تتحكم فيه الرغبة في تعرية عبث الواقع، وما يخفيه من تناقضات تسلب إنسانية الإنسان. فهناك هواجس وقضايا مصيرية تكشف وضعية الذات الإنسانية وتناقض الواقع في فضاء الاغتراب بالسويد، والذي تعيشه كل ذات من هذه الذوات الإنسانية التي تشكل عوامل سردية تعطي معنى لعالم الخطاب، بل إنها تمنح الواقع معنى مضاعفا سنشتغل على تجلية تمثلاته.

إن الشخوص المبأرة -أي الصديقات اللواتي يلتقين في أمسية السبت – يمثلن نقطة اتصال وانفصال عن الواقع، وهو ما يولد مسارات سردية متباينة ويسمح بإنتاج الخطاب الروائي في إطار ما اصطلحنا على تسميته ”بالإبداعية ” التي تطبع مفهوم الخطاب في الرواية، على غرار الإبداعية في المجال اللساني عند تشومسكي وهي إبداعية تخترق مفهوم النوع الخالص بما أن النص عابر للأجناس، يرفض كل تصنيف معياري على صعيد الكتابة.

وهكذا ستؤدي وضعية النساء في ظل الاغتراب إلى التمرد والارتماء في أحضان البنية الرمزية الممثلة بالعبث: فالصديقات العشر يجمعهن مصير واحد وتاريخ واحد (الصراع المستمر مع الذكورة وتقاليد المجتمع وهذا ما يبرر تجربة فشل الزواج وقبل هذا كله وضعيتهن كمهاجرات مغتربات خارج أوطانهن…)، وهوية وثقافة واحدة ووضعية واحدة (كلهن لاجئات يعانين من تبعات هجرة الوطن)، وهو ما يجعل المشهد يتحول من طابعه العبثي هذا، إلى نقاشات وجدل حاد حول قضايا مجتمعية وكونية –إنسانية ووضعية المرأة وهي في مرحلة الأربعينات، وهي على مشارف سن اليأس، والحفر في أعماقها السيكولوجية والثقافية انطلاقا من وضعيات الشخصيات المبأرة في مستوى تعدد الأصوات من جهة، والرؤية للعالم من جهة أخرى. وهكذا ينبني الخطاب الروائي ويتشكل من خلال الحفر في البنية السيكولوجية للشخصية وتشريح وضعها من خلال الانتقال من التبئير الخارجي على مشهد لقاء الصديقات، إلى التبئير الداخلي وإلقاء الضوء على مرحلة عمرية تعيشها المرأة بكل تفاصيلها، لننتقل إلى التبئير على الذات في ظل وضع سيكولوجي مرتبط بالهجرة والاغتراب.

إن كتابة الواقع تتجاوز الملمح التوثيقي إلى محاولة سبر هوامشه وتفكيكها وتجاوز الكتابة الواقعية النمطية التي هيمنت إلى وقت قريب، وبالتالي فهي كتابة تنفتح على الاختلاف كما يظهر من خلال نماذج الشخوص التي يشتغل عليها النص وما يرتبط بها من قضايا تمس الوجود الإنساني والهوية وحق الهجرة

وخلال أمسيات النقاش التي تنقلنا من واقع العبث إلى جدل يتداخل فيه الأنثروبولوجي بالفلسفي والفني….فالنساء يتبادلن خلال الأمسيات التي يُحيينها أطراف الحديث، مما يكشف وظيفة الحوار كما سيأتي باعتباره أحد مظاهر تشكل بنيات الخطاب الدلالية وكاشفا الرؤى للعالم وهو بالتالي مظهر من مظاهر تعدد الأصوات داخل الخطاب الروائي، ونحن نعاين تحول المشهد العبثي إلى نقاش وجودي عميق يستحضر الهوية والاغتراب ووضع الذات:

«-أتسمعين أصواتا يا نازلي؟
– أي أصوات؟
-من جهة ساحة زنكبي، يا نازلي.
«ربما هي أصوات الطناجر في العمارات، يا تاسو. الناس تطهو منذ الظهيرة، إلى العشاء. أسمع توابل الصوماليين، والأتراك، والكرد، والسريان، والعرب» ص 306.

إن الشخصية لا تعتمد الوصف إلا بما يتناسب وإيقاع السرد، وبالتالي فمكون الوصف، يتجاوز وظيفته الجمالية إلى تمثلاته باعتباره كاشفا لرؤية ما بعد الحداثة في النص الروائي. إنها سيكولوجية تعكس هويات جريحة وثقافات وأنثروبولوجيا العصر، وعزلة الكائن في بعده الهوياتي:

 «تجزم دارخو أن الرابط بين الراب ومسلسلات عرض الواقع، في التلفاز نسيج عقل واحد، من مختبرات نفسية….الراب؟ تقول دارخو الكلمة وهي تعض كمّ سترتها….» ص 183

و فضلا عن ذلك تحمل كل شخصية من هذه الشخصيات تاريخا عصيا على الـتأويل، إنه تاريخ المرأة الجريح في علاقتها بسلطة الحب والتقاليد وجبروت ذكورية الرجل في المجتمع العربي، وهو ما يعكس الخيبات المتوالية للنساء اللواتي يمثلن شخوص الرواية، كما يعكس قصة الزواج والطلاق المشتركة. هذه السيكولوجية التي تسم هذه الشخوص، ذات الخلفيات السياسية والثقافية والاجتماعية بضغوطاتها وإكراهاتها ولدّت الطابع الغرائبي لشخصية تاسو في نهاية النص.

وهكذا تبدو شخصية ”تاسو” وقد انتابتها حالة من الهستيريا بعد خيانة صديقاتها الثماني (باستثناء نازلي) وعدم التحاقهن بالمظاهرة، وبعد فشل المظاهرة التي تروم تغيير اسم الشارع، فتلجأ إلى مستودعات العمارة حيث تخاطب مجهولا بالخروج من الصندوق وهو ما يكشف عن البنية السردية الغرائبية في النص كما هو الأمر في خاتمة النص وعن تحويل في مسارات انفتاح التأويل السردي: «اخرجي.

كلما استطلعت أعماق هذا الصندوق لم أرك. لكنك هناك. اخرجي» ص 232. إن الصندوق ميسم سياقي يحمل مجموعة من الدلالات المرتبطة برمزية الصندوق في المخيال الثقافي العربي، وبالتالي فهو يتجاوز وضيفته السطحية إلى وظيفته الرمزية التي تتشاكل مع ما وراء الواقع وبتعبير بول ريكور خيال الواقع.

فالواقع هنا ليس معطى ثابثا أو كتلة جمالية سكونية بل هو نسق يصعب الإمساك بماهيته وحقيقته المنعدمة أصلا، فهو واقع متعدد يذهب بالتمثيل إلى مناطق قصوى ويتحكم فيه قانون التجاوز والتحول والاختلاف. والسارد في نص ”هياج الإوز” منشغل برصد هذه التحولات التي تؤسس لناء الواقع في الرواية، فهو أبعد ما يكون عن صورة تنحصر في دائرة البلاغة الضيقة بل هو استعارة للعالم في كل تجلياته وأنساقه وتحولاته المستمرة.

وهذا ما تعكسه أنساق الشخوص في النص. فشخصية تاسو تتحول من شخصية عبثية إلى شخصية بمقومات إيجابية تتمثل في انخراطها في ممارسة خطاب سياسي من خلال محاولة الدفاع عن الهوية، وبالتالي يبدو جليا الاحتفاء بالجوهر الإنساني وقضاياه الأساسية وأبرزها ما نطلق عليه اليوم بحقوق الإنسان التي حددتها المواثيق والمعاهدات الدولية، وهو ما يقودنا إلى القول بالاحتفاء بالحكاية وبما يمكن أن نسميه “متخيل الواقع″ والذي ينتج ثقافة الاختلاف.

 ويبدو من خلال تسلسل الوقائع التي تنطلق من الرحم النصي ”لقاء الصديقات” أن النص يستلهم التتابع والتعاقب والتطور الكرنولوجي، للوقائع كما هو معروف في بلاغة السرديات الكلاسيكية الواقعية، من خلال سرد وتصوير مشاهد أمسيات السبت التي تجمع الصديقات العشر بحسب المؤشرات الزمنية في بعض الفصول، ولكن لكي يمنح هذا الشكل نفسا جديدا داخل الخطاب:

«غرزت أصابعها في الرمل البارد –رمل الأسبوع التاسع من خريف السويد» ص 275. ولكن بمنطق وأسلوب ما بعد حداثي يعتمد التجديد والانزياح عن منطق أحادية النوع كما أبرزنا سابقا، فليس هناك بطل واحد وليس هناك معنى، وإنما محتملات لانهائية، وليست الشخوص وحدها أبطال بل حتى الزمن يتمثل بطلا داخل النص باعتبار التبئير على اليوم (السبت) والأسبوع (الرقم) والفصل (الخريف).

إن هاجس نص سليم بركات يتمثل في إعادة سؤال بنيات الخطاب وعلائقها بالحكاية من خلال استثمار البُنى الجمالية التي تميز النص الكلاسيكي، وتخصيبها داخل كتابة جديدة تتمثل الذات في علاقتها بأسئلة وبالتالي فالشكل الروائي والتعبير وجهان لعملة واحدة، والشكل الذي يتلازم مع أسئلة وجود الشخصيات وأسئلتها المنبثقة من واقع لا يمتلك من صفات الواقعية إلا اللامنطق والعبث وواقعا يستعصي على التصنيف كما تستعصي لغة النص على التصنيف فهي دائمة البحث عن كينونتها.

وهكذا يمكن القول مع دريدا إن النص وإن كان يستجمع المقومات التجنيسية للمتون السابقة فهو «في نفس الآن يحول وفي رمشة عين دون انغلاقه ضمن هذه المقومات، وبالتالي يحول دون تحديد هويته».(DERRIDA.JACQUES. PARAGE. EDITION Galilée .paris .1986. p: 265.) وبالتالي فالنص يبتعد عن كل نمذجة خطابية تحصره في دائرة ضيقة كما نرى من خلال لغة الانزياح الروائي في نص ”هياج الإوز”.

لوحة: سعود عبدالله
لوحة: سعود عبدالله

إن كتابة الواقع تتجاوز الملمح التوثيقي إلى محاولة سبر هوامشه وتفكيكها وتجاوز الكتابة الواقعية النمطية التي هيمنت إلى وقت قريب، وبالتالي فهي كتابة تنفتح على الاختلاف كما يظهر من خلال نماذج الشخوص التي يشتغل عليها النص وما يرتبط بها من قضايا تمس الوجود الإنساني والهوية وحق الهجرة. ولعل تناول نموذج الشخصية العبثية المغيب في الكتابات المعاصرة ينطوي على السخرية من الواقع الجديد وتعرية تناقضات العصر. فالرواية تُستهل بإشكالية هوية الذات وعلاقتها بالهويات والإثنيات والمجتمعات المندمجة أي بواقعة رغبة ”تاسو” بتغيير اسم شارع العمارة (إلى الملا علي خابوت) التي تسكن فيها:

« سأكوي خصيتيك. أنت لم تخلع لوح اسم الشارع عن جدار العمارة» ص 7. وعلاقتها بالجيل الجديد للمهاجرين:

« سيصل قراصنة الصومال إلى بحيرات ستوكهولم، قريبا» «وصل الأكراد، فلماذا لا يصل الصوماليون.

«وصل أكراد، لكن ليس قراصنة أكراد» ردت ريحاني. ص 18

و تنتهي بمشهد درامي غرائبي يتمثل في وقائع الصراع بين الهويات والإثنيات والرغبة في إثبات الهوية. فخروج تاسو للتظاهر من أجل إثبات الذات وانتزاع الاعتراف بالهوية (أي تسمية الشارع) سيصطدم برغبة أخرى داخل نفس الإطار أي الهجرة، أي بخروج الصوماليين بدورهم للتظاهر من أجل تغيير اسم الشارع (شارع مغدشيو عائشة) بما يتماشى وحفظ الذاكرة، وهو ما يكشف عبث الواقع.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى ستكشف البنية السردية عن تحول في مسار علاقة الصداقة التي تمتد جذورها إلى التاريخ والوضعية المشتركة لكل واحدة منهن، بل والهوية المشتركة، وهو الخيانة كحالة إنسانية بعد أن خُذلت تاسو من طرف صديقاتها… فشخصية تاسو لم تجد غير خيبات الأمل في بلدان تدعي الديمقراطية كما جاء على لسان سارد الرواية في أحد الفصول:

«.. وفي أروقة دائرة الهجرة تعرفت سلام إلى شيراز، التي تصغرها بخمس سنين. لكن شيراز كانت خبيرة لسان أنجز الحراثة في حقول اليأس المهاجر إلى السويد، وحصد ما حصده من خيبات للمهاجرين حلوة حامضة، وخيبات مالحة حلوة….». ص 248.

 وقد وجد السارد في السخرية مكونا خطابيا يدفع بالمحكي السردي نحو مناطق الغرابة والحدود القصوى لتمثيل الواقع. إن شخوص الرواية العشر في لقائها لإحياء أمسيات السبت الماجنة تنخرط في نقاش يمس قضايا وخطابات العصر، والحفر في أنثروبولوجيا الحياة اليومية، وتداعياتها على الوجود والحياة اليومية في العالم العربي:

« في الآخرة ستشهر كل أرض إسلامها. القارات، الأنهار، البحار…كلها ستعتذر إلى الله عن تأخرها في إعلان إسلامها، قالت زنتانا…أضافت ألا تقرئين الإنترنت فقه العالم، وفتواه بين يديك…أيجوز للمرأة أن تلعق شفتيها، أثناء الطعام في حضور الرجال…أفتي بوجوب ذبح ميكي ماوس….. » ص 136.

وهكذا تحاول رواية ”هياج الإوز” تكسير أسطورة الواقع المثالي واللغة المثالية والاقتراب من الكشف عن الأنساق الثقافية والأنثروبولوجية الكامنة في جوهر الوجود والكينونة الإنسانيين. فبنية الشخوص تكشف عبثية الواقع وتناقضاته التي تنطوي على السخرية من العالم، ولكن تعري أزمات الواقع الكبرى كما نعيشها اليوم مثلما الأمر بالنسبة للهوية وحقوق الإنسان وهاجس الاغتراب والهجرة.

ولعل تكسير النمطية وتجاوز الحدود يظهر أساسا من خلال إعادة بسط هذه القضايا على فئة من الشخوص يدينها الواقع نفسه، وكيف لشخوص تعيش في هامش العالم وداخل منطقة العبث والسخرية من العالم أن تنتج خطابا أنثروبولوجيا يستدعي الهوية وقضايا العصر برمتها، فالواقع حسب البنية العميقة للخطاب هو نفسه ينطوي على مفهوم التناقض والعبث عكس ما نفهمه ونتصوره عنه بأنه يرتبط بالمنطق والقضايا والوقائع والمثالية.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.